لم أجد شخصاً وصف الأوضاع في إريتريا الجارة الشرقية الشقيقة لبلدي السودان مِثل صديقي المخرج المعروف هاشم الفايدي بعبارته البليغة الموجزة: "لقد استطاع أسياس أفورقي أن يحول حقوقنا الطبيعية كشعب إلى أمنياتٍ بعيدة المنال".
العبارة أعلاه، وردت في ثنايا فيلمٍ وثائقيّ قمنا بإنتاجه إبان التظاهرات الكبيرة التي شهدتها العاصمة الإريترية أسمرة نهاية العام قبل الماضي احتجاجاً على محاولة السلطات تأميم مدرسة الضياء الأهلية الإسلامية التي يدرس بها نحو 3000 طالب وطالبة، وقررت الحكومة ضمها إلى المدارس التي تشرف عليها وزارة التعليم.
دولة منسيّة ذات موقع تاريخي فريد
إريتريا ــ المجهولة بالنسبة لكثير من الناس للأسف ــ دولة صغيرة صغيرة المساحة مقارنة بدول جوارها مثل السودان وإثيوبيا والصومال واليمن.. إلى جهة الشمال في منطقة القرن الإفريقي، تمتد شواطئها بمسافة 1200 كيلومتر على البحر الأحمر، وتحتل موقعاً استراتيجياً مهماً للغاية، ما جعلها مطمع العديد من الدول إذ تقع على مقربة من مضيق باب المندب كما تضم إريتريا 126 جزيرة، أشهرها أرخبيل دهلك الذي يضم وحده 25 جزيرة من أجمل جزر البحر الأحمر هذا إلى جانب الموانئ التي تمتلكها ومن أهمها ميناءي عصب ومصوع.
يذكر التاريخ أن صحابة النبي محمد "صلى الله عليه وسلم"، الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة على مرحلتين حطوا رحالهم لفترة في مدينة مصوع الإريترية التي تقع على ساحل البحر الأحمر، ثم واصلوا رحلتهم إلى عاصمة مملكة أكسوم الحبشية حيث الملك العادل النجاشي أصحمة بن أبجر الذي قال عنه النبي: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي – أرض صدق – حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه".
عندما وصل الصحابة بقيادة جعفر بن أبي طالب ــ إلى مدينة مصوع الحالية في إريتريا، قادمين من مكة توضأوا وأقاموا أول أذان جهراً في الإسلام عام 615 م أي في السنة الخامسة من النبوة، وفي ذلك الوقت كان اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس ولذلك ما يزال محراب مسجد الصحابة الذي بناه صحابة الرسول من الحجر البحرى متجهاً ناحية المسجد الأقصى إلى يومنا هذا رغم تحول قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام، فالإريتريون لم يقوموا بإجراء أي تعديل على المسجد حتى لا يفقد مكانته التاريخية العظيمة.
في الوقت الحالي لا تُقام في مسجد الصحابة بمصوع الصلوات الخمس، ولكن يحرص سكان المدينة الإريترية على إقامة صلاتي عيد الفطر والأضحى في المسجد الذي يحكي عن عراقة وتاريخ إريتريا.
رئيس مؤقت منذ 27 عاماً
إريتريا أو إرتريا كما يحب أن يكتبها أهلها، لم تهنأ ولم يهنأ شعبها منذ نشأتها كدولة بحدودها المعروفة حالياً عام 1890 حيث عانت من الاستعمار الإيطالي لفترة طويلة من الزمن، ثم دخلت في استعمار بريطاني لمدة 10 سنوات من العام 1942 إلى 1952 ليقوم الإمبراطور الإثيوبي هايلا سيلاسي بإدخالها في اتحاد كونفيدرالي مع بلاده حتى العام 1991 التاريخ الذي نالت فيه استقلالها من إثيوبيا إجرائياً وتم تحقيق الاستقلال وتشكيل الحكومة الإريترية في العام 1993.
بعد الاستقلال الذي جاء نتيجة التضحيات الكبيرة التي قدمتها الثورة الإريترية اعتقد الشعب أنه نال الحرية المنشودة لكن الصورة بدت قاتمة للغاية بعد التحرير.. إذ تسلم أسياس أفورقي مقاليد الحكم بتوافق تام بين مكونات جبهة التحرير الإرترية فكان إعلان الحكومة المؤقتة لإدارة البلاد ريثما يتم إعداد الدستور وبناء مؤسسات الدولة، غير أن الطاغية انقلب على شركائه في جبهة التحرير وانفرد بالحكم حتى شاع الظلم والاستبداد، فلا أحزاب غير حزبه، ولا حياة سياسية، ولا برلمان، ولا دستور، وفتحت المعتقلات وزج فيها جميع المعارضين، بل حتى شركائه في الحكم وكوادر حزبه مثل وزير خارجيته السابق هيلي ولد تنسائي، وتم إفراغ الوطن من نخبه السياسية والثقافية.
لماذا يُطلق على إريتريا لقب "كوريا الشمالية إفريقيا"؟
تصنف إريتريا ضمن أسوأ دول العالم في سجل حقوق الإنسان، ويطلق عليها البعض "كوريا الشمالية إفريقيا"، حيث تشير التقارير إلى أن آلاف المواطنين الإريتريين يهجرون بلدهم كل شهر، أغلبهم يهرب من الخدمة العامة في الجيش، وللحكومة هناك نظام تجنيد فريد من نوعه إذ يمكن للشاب أو الشابة أن يمضي في الخدمة العسكرية 10 سنوات أو يزيد، قسراً وبلا مقابل مادي، حتى إن السلطات قد تُجند أفراداً تجاوز عمرهم الـ50 بل والـ70 أيضاً، لذلك يضطر الإريتريون إلى الهجرة من جحيم النظام الحاكم والأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى دول الجوار حيث يشكل السودان وإثيوبيا الحاضن الرئيس لهم.
دولة بلا جامعات!
كانت في إريتريا سابقاً جامعة واحدة تقبل المتفوقين من الطلاب، وبعد ذلك تأسست جامعة أسمرة عام 1972، وكانت الجامعة الوحيدة في البلاد، تحمل اسم "جامعة الأسرة المقدسة"، قبل أن تُغيّر اسمها إلى جامعة أسمرة.
ولكن استمرارية جامعة أسمرة بالشكل الذي كانت عليه أصبح يشكل خطراً على توجهات نظام أسياس أفورقي الذي يحكم البلد بالحديد والنار منذ استقلالها عام 1993 أي منذ 27 عاماً، وهو لا يرغب بالطبع في انتشار التعليم وتصاعد النشاط السياسي المعارض، لهذا قرر إيقاف نشاط الجامعة تدريجياً، قبل أن يتم إيقاف قبول الطلاب في الجامعة عام 2003 – 2004، كانت نتيجة تلك القرارات إنهاء العمل بالجامعة، وهروب المئات من طلابها وأساتذتها بمن فيهم المدير، لتتوقف الجامعة نهائياً عام 2006.
ولجأت الحكومة الإريترية إلى إنشاء 8 كليات جديدة وزعتها على 4 أقاليم، حيث توجد 3 كليات أساسية في الإقليم الأوسط، و3 أخريات في إقليم شمال البحر الأحمر، وكلية واحدة في كل من إقليم عنسبا والإقليم الجنوبي، وكان الغرض من إنشاء هذه الكليات تفكيك جامعة أسمرة وتوزيعها في مدن مختلفة لضمان عدم التفاف الطلاب مجدداً على معارضة سياسات النظام الديكتاتوري.
لا شريحة هاتف للزوار الأجانب إلا بتصديق من وزير الإعلام شخصياً!
الحصول على أي معلومة من إريتريا أمر في غاية الصعوبة، حيث لا توجد أي وسيلة إعلام مستقلة هناك، كما أن البلاد ليس بها سوى تلفزيون واحد وإذاعة واحدة وصحيفة واحدة، وجميعها حكومية مملوكة لحزب الجبهة الشعبية، وبالإضافة إلى ذلك فإن خدمة الإنترنت ضعيفة للغاية، وتحظر السلطات معظم المواقع الإخبارية، فضلاً عن أنه لا يُسمح لأي مواطن باستخراج شريحة هاتف نقال ما لم يكن له سكن ثابت، مع انعدام خاصية إرسال الرسائل النصية خارج البلاد وعدم وجود خدمة التجوال الدولي، كما لا يمكن للأجانب اقتناء شريحة جوال عند زيارتهم البلاد تحت أي ظرف إلا بتصديق من وزير الإعلام شخصياً!
حكاية سهام التي أمضت 7 سنوات في سجون أفورقي
سأذكر لكم قصة مؤثرة لطفلة إريترية ذات وجه برئ مبتسم، قام نظام الديكتاتور الحاكم في إريتريا باختطافها واعتقالها، وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها في ديسمبر/كانون الأول من العام 2012، لا شيء إلا لأنها حاولت الهروب من جحيم النظام الديكتاتوري شأنها شأن الملايين من أبناء وطنها الذي توزعوا على دول العالم المختلفة، أما "سهام علي عبده" فقد قادها حظها العاثر إلى غياهب معتقلات أسياس أفورقي ولا أحد يعلم عنها شيئاً منذ 7 سنوات!
سهام علي عبده.. أكملت ربيعها الـ22 في معتقلات أفورقي
لم يتم توجيه أية تهمة قانونية إليها أو محاكمتها بجريمة بصورة رسمية وقانونية، ولم يشفع لها أنها ابنة وزير الإعلام السابق للبلاد الذي كان في السابق قيادياً بارزاً في حكومة أسياس، وقد هرب من البلاد خوفاً على حياته مع تزايد استبداد أسياس أفورقي.
لعلّ البعض يتساءل الآن، لماذا لم يثر الشعب الإريتري على هذا الديكتاتور؟
الجواب أن نضال الشعب الإريتري لم يتوقف في يوم من الأيام رغم الإعدامات والقمع والتنكيل، فالزنازين هناك ملآى بآلاف المعتقلين، وتُعد إريتريا أكبر سجنٍ للصحفيين في إفريقيا حسب المنظمات المعنية بالحريات الصحفية في العالم، إذ تفوقت على كوريا الشمالية في هذا الخصوص العام الحاليّ، وقد اعتُقل أكبر مجموعة من الصحفيين إثر الحملة الانتقامية التي شنتها السلطات في سبتمبر/أيلول من العام 2001.
وقدمت المعارضة الإريترية آلاف الشهداء من بينهم يوسف محمد علي وحامد تركي وهيلي ولدي تنسئي، علاوةً على الشيخ التسعيني موسى محمد نور الذي رحل في معتقلات النظام مطلع العام قبل الماضي، والعم نور اعتُقل أواخر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2017 على خلفية مناهضته قرار السلطات الإريترية تأميم مدرسة الضياء الأهلية التي يدرس بها نحو 3000 طالب وطالبة المنهج الإسلامي ويتعلمون فيها اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم كما ذكرنا في بداية المقال عند حديثنا عن الفيلم الوثائقي.
بخلاف النضال السياسي المدني ضد نظام أفورقي، حاولت مجموعة تتألف من نحو مئتي ضابط في مطلع العام 2013، الانقلاب على نظام الحكم لكن سرعان ما تم إعلان فشل المحاولة التي أجهضت كما حدث من قبل لمحاولتين أولهما في 1993 والثانية 2001.
وفي سابقةٍ لم تحدث من قبل، شهد شارع "أخريا" وسط العاصمة الإريترية أسمرة، قبل عامين، مظاهرات شبابية حاشدة، تخللتها اشتباكات بين المحتجين وقوات الأمن استُخدم فيها الرصاص الحي، وسط أنباء عن سقوط قتلى، في حين شنَّت السلطات حملة اعتقالات طالت العشرات، وأهابت السفارة الأمريكية فى أسمرة برعاياها تجنب مناطق وسط العاصمة آنذاك.
كشفت تلك المظاهرات المفاجئة خوف النظام ما دفع قوات الأمن إلى استخدام الرصاص الحي لتفرقة المتظاهرين، ونقل ناشطون على مواقع التواصل أن السلطات الأمنية منعت إقامة صلاة العشاء في محيط مسجد الخلفاء الراشدين لتتجنب احتمالية تجدد التظاهرات في تلك الفترة.. ولاحقاً تراجعت الحكومة الإريترية عن خطط تأميم مدرسة الضياء ربما خوفاً من تطور التظاهرات وانفجارها لتصبح ثورة كاملة ضد النظام.
اتفاق السلام مع إثيوبيا لم ينعكس إيجاباً على المواطن الإريتري
منتصف العام 2018، تناولت وسائل الإعلام العالمية بكثافة توقيع اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا باعتباره أنهى قطيعة استمرت 20 عاماً بين جارين لدودين، ولكن الحقيقة أن اتفاق السلام لم يغير شيئاً من أوضاع المواطن الإريتري الذي لا يزال يعاني من سياسات أفورقي القمعية من الخدمة العسكرية المفتوحة، إلى الملاحقات الأمنية والانتهاكات الحقوقية والتشريد الممنهج، كل هذا الأشياء ضاعفت السخط الشعبي والتوتر الداخلي.
أُصيب الإريتريون بخيبة أمل واسعة، إذ كانوا يتوقعون ضغوطاً دولية على الديكتاتور تدفعه للوفاء باستحقاقات السلام عبر سلسلة من الإجراءات مثل إطلاق سراح المعتقلين وتخفيف القبضة الأمنية، وفتح البلاد للاستفادة من تدفق السياح، لكن أفورقي بدلاً من ذلك واصل رهْن إريتريا لصالح ولي عهد أبوظبي حتى يستمر بقاؤه في السلطة في ظل انحسار قدرته العسكرية وفي ظل ما تشهده إريتريا من تنامي حالة الغضب الشعبي في مدنها وأريافها.
سيناريو رحيل أسياس أفورقي
طال الزمن أم قصر سيرحل الطاغية أسياس أفورقي، ولن يجد من يذكره بخير، سواء رحل بثورة شعبية أم بانقلاب عسكري أو حتى بالموت الطبيعي.
وهنا نتذكر أن رفيق دربه الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير كان أشد قوة من أفورقي، ولم يكن في مثل عزلة الأخير رغم أنه "البشير" كان منبوذاً عالمياً، ولكن في نهاية الأمر خُلع بثورة شعبية فريدة من نوعها، حيث استمرت شهوراً طويلة قدّم فيها شباب السودان تضحيات جسام حتى جاءت لحظة التغيير فجر 11 من أبريل/نيسان 2019.
الثورة السودانية ألهمت الإريتريين لعدة أسباب منها الارتباط التاريخي الوثيق بين السودان وإريتريا، وتداخل القبائل حتى إن العديد من مواطني البلدين يحملون جوازات سفر مشتركة، وناضل المواطنون الإريتريون جنباً إلى جنب مع إخوانهم السودانيين ولم يترددوا في دعم الثورة ضد نظام البشير على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت المحرك الأساسي والمصدر الأول لأخبار الثورة السودانية حيث فُرض عليها تعتيم إعلامي واسع في بدايتها.
ولكن ما يفتقده الشعب الإريتري الآن لتنجح الثورة المتوقعة ضد نظام أفورقي هي وحدة الصف وجمع الكلمة، فقد كان البشير يجهض محاولات إسقاطه باللعب على وتر التفرقة العنصرية بسياسة "فرق تسد"، إلا أن الشعب السوداني توحّد ضده في ديسمبر/كانون الأول من العام 2018 حتى إن الانطلاقة الفعلية للثورة كانت من ولاية نهر النيل التي تعد مسقط رأس المخلوع عمر البشير.
الأجواء مهيئة الآن أكثر مما مضى، والكرة في ملعب التنظيمات السياسية الإريترية، حيث توجد بارقة أمل لتوحيد الجهود بين تنظيمات المعارضة الإريترية، وهنا نشير إلى انعقاد المؤتمر العام لحزب الوطن الديمقراطي الإريتري "حادي" قبل شهرين، وما أحدثه من حراك قد يمهد إلى عمل سياسي كبير بمشاركة كل قوى النضال الإريتري، ويؤدي في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام الديكتاتور أسياس أفورقي وذهابه إلى مزبلة التاريخ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.