مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني هو إعلان حرب من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد طهران، هذه هي الحقيقة المجردة، فهل يدرك ساكن البيت الأبيض تلك الحقيقة، وهل هو مستعد لمواجهة تبعاتها؟
مجلة ذا سليت الأمريكية طرحت السؤال، وسعت للإجابة عنه في تقرير لها بعنوان: "الولايات المتحدة الآن في حالة حربٍ مع إيران".
الرجل الأقوى في الشرق الأوسط
هذه هي النتيجة التي لا مفر منها للأمر الذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي يمكن وصفه بأنه أقوى قائد عسكري في الشرق الأوسط، وأهم شخصية في إيران بعد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
فأنت لا تقتل عمداً شخصية مثل سليماني إلا إذا كنت في حالة حرب مع بلده، وحتى إذا كنت كذلك، فأنت تحتاج إلى تفكير طويل وجدّي قبل أن تفعل ذلك، بالنظر إلى أن ثمة ما يشبه اليقين في أن فعلتك هذه ستكون لها عواقب موازية لحجمها الكبير، وقد تأتي هذه العواقب في وقت قريب. ففي صباح يوم الجمعة، دعا خامنئي إلى الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام، وتعهد بـ "انتقام قوي"، ولا يُتصور بالطبع أنه لن يبرَّ به.
ولكي نعبِّر إلى حدٍّ ما عن أهمية سليماني، فسيكون المثل كما لو أنه خلال حرب العراق، أمر آية الله باغتيال الجنرال الأمريكي ديفيد بتريوس، قائد القوات الأمريكية في العراق، والجنرال جيم ماتيس، رئيس قيادة العمليات الخاصة، ورئيس هيئة الأركان المشتركة. إذ تتوافق مسؤوليات سليماني مع كل هذه الأدوار الثلاثة. وحتى حينها، فإن هذا التشبيه لن يفي بالغرض لأن سليماني تمتع أيضاً، بين المسلمين الشيعة في جميع أنحاء المنطقة، بكاريزما بلغت حدَّ كونه رمزاً دينياً، فقد أصبح المحارب المقدس بالنسبة إليهم.
على مدى العشرين عاماً الماضية كان سليماني مهندس السياسة الخارجية التوسعية لإيران في المنطقة، إذ أدار عمليات تخريبية، وسيطر على ميليشيات شيعية في العراق وسوريا ولبنان وغزة وأفغانستان. وخلال الأشهر التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، تبادل المعلومات الاستخباراتية حول تنظيم القاعدة وحركة طالبان مع المسؤولين الأمريكيين، إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش، أن إيران جزء من "محور الشر". وقد كان لميليشياته خلال الحرب مع داعش دورٌ حاسم في إجبار مقاتلي التنظيم على الخروج من العراق، لكنه كان مسؤولاً كذلك عن مقتل مئات من القوات الأمريكية خلال المقاومة العراقية للوجود الأمريكي. لكن في مساء الخميس، برّر البنتاغون إقدامه على اغتيال سليماني، بالزعم أنه كان على وشك شنِّ هجوم ضد منشآت وقوات أمريكية في جميع أنحاء المنطقة.
قتله خطوة غير مبررة
لكن حتى إن كان هذا صحيحاً، فإن الإقدام على قتله يظل خطوة لا معنى لها من الناحية الاستراتيجية. إذ مهما كان قدر أهميته، فإن مساعديه المخلصين والمؤهلين لا تزال لديهم القدرة على الاستمرار وتنفيذ المهام. (وقد تولى نائبه إسماعيل قآني قيادة فيلق القدس رسمياً بعد ساعات من وفاته). والمسؤولون الأمريكيون يتجهزون بالفعل لمجموعة متنوعة من المواجهات، قد تشمل محاولة اقتحام السفارة (والتي قد تجعل المحاولة التي جرت في بغداد هذا الأسبوع تبدو كما لو أنها كانت محض بروفة غير متقنة)، إلى الاغتيالات، والهجمات الإلكترونية، والأعمال التخريبية، وحتى الاعتداءات العسكرية.
تخبُّط إدارة ترامب
ويصعُب تبين الكيفية التي يفترض ترامب أنه يمكنه بها إدارة الأمور بعد ذلك، رغم أنه هو من أمر شخصياً بتنفيذ عملية الاغتيال. فقد سبق أن أخبر مراسلين عشية السنة الجديدة أنه يريد السلام مع إيران. فهل بات يعتقد، بعدها بيومين فقط، أن قتل القائد العسكري الأعلى في إيران لم يعد بطريقةٍ ما عملاً من أعمال الحرب؟ وإذا كان مدركاً أنه عمل من أعمال الحرب، فهل يعتقد أن الضربة ستُجبر النظام الإيراني على الاستسلام، أو تدفع الشعب الإيراني إلى إشعال ثورة ضد النظام؟ (فقد عبر مستشار الأمن القومي السابق، جون بولتون، عن أمله في حدوث ذلك، بعد وقت قصير من عملية الاغتيال).
الحقيقة أن كثيراً من الإيرانيين، وخاصة في المدن، وإن كانوا يزدرون بالفعل الملالي المسيطرين على الحكم في بلادهم، وهو ما تبرزه الاحتجاجات الضخمة التي اجتاحت البلاد في الأشهر الأخيرة، فإنهم في الآن نفسه يكنّون احتقاراً وكراهية أكبر بكثير للدخلاء الأجانب. ولا تزال سابقة الإطاحة بمحمد مصدق، رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً، بانقلاب أمريكي بريطاني مشترك في عام 1953، حاضرةً لا تغيب عن أذهان المشاركين في المشهد الإيراني، وتُبعث مع كل أزمة منذ ذلك الحين.
وقال ترامب أيضاً، في تعليقاته عشية رأس السنة الجديدة، إنه إذا اندلعت حرب مع إيران، فإنها "ستنتهي في أسرع وقت". وقد كان هذا أيضاً ما توقعه في حماس وزير دفاع بوش، دونالد رامسفيلد، بشأن الحرب الأمريكية على العراق. إذ قال قبل بضعة أشهر من الغزو: "خمسة أيام أو خمسة أسابيع أو خمسة أشهر، لكنها بالتأكيد لن تستمر لفترة أطول من ذلك". ومن الجدير بالذكر ها هنا أن إيران أكبر بثلاث مرات من العراق، وعدد سكانها بلغ ثلاثة أضعاف سكان العراق تقريباً.
من المؤكد أيضاً أن الهجوم سيثير حفيظة حكومة العراق، التي من المفترض أنها حليف لا غنى عنه في حال اشتعلت الحرب مع إيران. ويرجع ذلك إلى أسباب، أولها: أن طائرة أمريكية قصفت هدفاً على الأراضي العراقية، في الطريق من المطار إلى بغداد، وعلى موكب ضم سليماني، الذي يسافر بحرية في جميع أنحاء المنطقة الأخرى. وثانياً: قتل الهجوم أيضاً أبوالمهدي المهندس، القائد بقوات الحشد الشعبي، وهي تحالف كبير من الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، بيد أن النقطة الأهم هنا هي أنه عراقي، وأنه رسمياً مسؤول حكومي عراقي.
وثالثاً: وهو الأهم، أن القادة السياسيين والعسكريين العراقيين كانوا يسعون منذ فترة طويلة إلى الإبقاء على موازنة حساسة، تلبي احتياجات الطرفين الأمريكي والإيراني، لكنهم يعرفون أنه إذا تأزمت الأمور فلن يُطيقوا معاداة الإيرانيين، فهم جيرانهم الأقرب والأوثق صلة. ومن ثم والحال هكذا، بعد هجوم شنته الولايات المتحدة فوق الأراضي العراقية، وأسفر عن مقتل مواطنين عراقيين، وكذلك أحد أكبر قادة إيران، سيكون من الصعوبة بمكانٍ عليهم تجنّبُ أخذ جانب إيران صراحةً.
لم ترفع الميليشيات الموالية لإيران حصارَها الأخير على السفارة الأمريكية في بغداد إلا بعد موافقة رئيس الوزراء العراقي، عادل عبدالمهدي، على عقد البرلمان جلسة لمناقشة ما إذا كان ينبغي إخراج القوات الأمريكية من بلاده. وواقع الأمر أنه حتى العراقيون الذين يعارضون النفوذ الإيراني والذين ربما يكونون قد تنفسوا الصعداء بعد خبر مقتل سليماني، سيصعُب عليهم الدفاع عن استمرار الوجود الأمريكي تحت هذه الظروف.
مَن السبب في هذا التصعيد؟
ولربما نُظر إلى الأمر على نحوٍ مختلف لو كان ترامب قد اضطر إلى هذا ردّاً على أعمال استفزازية خطيرة، لكن الواقع أن هذه الأزمة بدأت عندما أطلقت ميليشيا موالية لإيران صواريخ على قاعدة أمريكية، وهو ما أسفر عن مقتل متعاقد (مقاول) أمريكي. وبالطبع لم يكن بإمكان أي رئيس أمريكي أن يترك هذا الفعل ليمرّ دون عقاب، لكن ردَّ ترامب الأوليّ كان خمس غارات جوية على مواقع تسيطر عليها الميليشيات في العراق وسوريا، وهو ما نتج عنه مقتل 24 شخصاً وإصابة عشرات، ومن ثمَّ بدا الردُّ بلا شك غير متناسب إلى حدٍّ كبير. علاوة على أن ردَّه التالي بعد الحصار الصادم، لكن غير الدموي للسفارة، باغتيال سليماني وعدد من رفاقه، أتى ليتجاوز ذلك بكثير، ويشكّل تصعيداً غير مسبوق على أكثر من مستوى. وإلى جانب كل ذلك فإنّ حلفاء إيران وأعداءها غير غافلين أيضاً عن أن أياً من هذا لم يكن ليحدث لو أن ترامب لم ينسحب من الصفقة النووية مع إيران، ولأسباب تعسفية إلى حدٍّ بعيد.
وهكذا فإن تحركات ترامب التي أفضت إلى اغتيال سليماني يوم الخميس لم يتحقق من ورائها أي هدف استراتيجي، وهذا يعني أنه في الوقت الذي يحتاج فيه إلى حلفاء أكثر من أي وقت مضى، سيكون حشده لهم واجتماعهم عليه في الغالب أصعب وأقل من أي وقت مضى.
هل لدى ترامب سيناريوهات عسكرية أو حتى سياسية؟
هل وضع ترامب سيناريو معركة نهائية في الاعتبار عندما أمر بالهجوم، أم كان تصرفه، مثل كثير من كلماته وأفعاله، مجرد اندفاع بلا تخطيط؟ هل حذره أي من مستشاريه من التداعيات القانونية والآثار السياسية والعسكرية والاقتصادية المحتملة؟ ونحن نعلم الآن أن الكونغرس لم يُخطر بهذه العملية، ناهيك عن التشاور بشأنها. هل اجتمع مجلس الأمن القومي لتحديد الإيجابيات والسلبيات، أو لمناقشة استجابات بديلة؟ بالنظر إلى تاريخ ترامب الحافل بالتجاهل لكل ما يتعلق بالنقاش والمشاورة، فإن هذا يبدو غير محتمل إلى حد بعيد.
على أي حال، سواء أكان ترامب يقصد إشعال حرب أم يريد اتباع مسار دبلوماسي عند مرحلة ما، فإن الثابت أنه لا يوجد أحد ممن حوله مؤهل بالقدر الكافي للقيام بأيهما. فوزير الخارجية مايك بومبيو لا يتمتع بأي مصداقية بالنسبة إلى إيران، فقد سبق له الدفاع علناً عن سياسات ترمي إلى تغيير النظام في إيران. كما أن وزير الدفاع مارك إسبر، القادم من رابطة الصناعات الفضائية، ليس لديه خلفية في هذا النوع من الأمور. وتعاني مكاتب صناعة السياسات في البنتاغون ووزارة الخارجية من افتقار شديد إلى متخصصين وخبراء في هذه المنطقة، ومعظم الذين كانوا موجودين إما استقالوا أو أُقيلوا. وقد يعتقد ترامب أن هذا ليس بالأمر المهم، وهو الذي قال في كثير من المناسبات إنه يعرف عن التفاوض وعقد الصفقات أكثر بكثير مما يعرفه أي جنرال أو دبلوماسي، وهو ما قد يكون الجانب الأكثر إثارة للقلق في تلك الأزمة.
في الختام، لا يمكن لأحد التنبؤ بثقةٍ بما قد يحدث بعد ذلك، لكن أولئك الذين لم يدركوا جوهر ما حدث مساء الخميس، وهو أن ترامب أعلن الحرب على إيران، يخدعون أنفسهم بلا شك.