خرج سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان المستقيل أخيراً عن صمته، وهاجم جميع حلفائه القدامى والجدد متخلياً عن الدبلوماسية التي اتسم عندما كان في الحكم، فهل تعبر هذه التصريحات عن قلقه بشأن مستقبله السياسي، وهل تشهد لبنان ظهور قيادة منافسة للحريري؟
كلام سعد الحريري ربما جاء بعدما شعر أن الحصار السياسي عليه قد استحكم.
لا السعودية التي كان ممثلها الأوحد في لبنان على مدى 12 سنة بقيت إلى جانبه، ولا الأمريكيون الذين راهنوا عليه في كل المحطات ظلوا متمسكين به.
وحتى الحلفاء الجدد مثل جبران باسيل وزير الخارجية وصهر الرئيس اللبناني ميشال عون ومن ورائه حزب الله وحركة أمل يسعون لتشكيل حكومة دون مشاركته.
يشعر الرجل أن الحريرية السياسية التي افتتحت رسمياً عام 1992 تعيش مرحلة صعبة، وتستدعي التفكير الجدي للحفاظ عليها كإرث سياسي وكتيار كان حتى سنوات قليلة جارفاً للسنة.
لكن البعض يراه فعلاً قد تسبب في جرف السنة بإرادتهم أو رغماً عنهم.
ومع خروج الرجل من الحكم إضافة إلى تردّي وضعه العربي، بعد أن فقد دعم السعودية، التي سبق أن احتجزه ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، عاد الحريري الابن للنغمة التي يرفعها عادة إذا خرج من السرايا الحكومية (مقر رئاسة الوزراء).
يستنجد الرجل اليوم بمظلومية السنة وبخطاب يستدعيه عند المحطات الانتخابية. يدرك الحريري كغيره من زعماء الطوائف اللبنانية ماذا يعني استجلاب خطاب الحصار على الطائفة ومحاولات تهميشها، في ظل تحولات كبرى تشهدها المنطقة.
فتح الرجل صالونه المغلق للصحفيين مؤخراً، ليوجه سهامه للقريب والبعيد للحليف والخصم.
يريد ابتلاع البلاد
"أنا مرتاح" هكذا افتتح الدردشة مع الصحفيين ليعيد الرجل رسم تموضعه الجديد عبر شن هجوم غير مسبوق على حليف الأمس وشريكه في العهد الهجين جبران باسيل.
يقول الحريري هذا الرجل لا يمكنني العمل معه لأنه يريد ابتلاع البلاد.
يعود الرجل بذاكرته إلى 2005، عام اغتيال والده رفيق الحريري، ليقول من يحاول أن يدفن الحريرية السياسية سيدفن نفسه". وقال: "يحاولون إزاحة سعد الحريري منذ 15 سنة، لكنهم لن يستطيعوا".
يؤكد من جديد أنه سيبقى سداً منيعاً في وجه الفتنة السنية- الشيعية، غامزاً إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، بعد أن اتهم الأخير الحريري بأنه يلعب بالنار.
يشدد الحريري أنه لن يمنح حكومة دياب الثقة ولا الغطاء السياسي، إنها حكومة جبران باسيل بوصف الرجل.
هاجم حتى حلفاءه القدامى
لم ينس الحريري انتقاد حليفه السابق سمير جعجع، بتحميله مسؤولية التسوية التي أبرمت بين تيار المستقبل والعماد ميشال عون.
وأعاد للأذهان بأن جعجع هو من أول من سمى عون لرئاسة الجمهورية.
زعيم مسيحي مقرب لحزب الله يتفق مع الحريري
اللافت أن مواقف الحريري المهاجمة للحكومة الجديدة ولجبران باسيل تزامنت مع مواقف مشابهة لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الذي يعد من أقرب الحلفاء المسيحيين لحزب الله وسوريا.
إذ اعتبر فرنجية أن الحكومة التي يتم تشكيلها هي حكومة جبران باسيل.
صرخة فرنجية لم تكن هامشية أو بسيطة.
وهو لا يمكن أن يتخذ موقفاً كهذا من دون تنسيق مع الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل)، اللذين لا يرضيان باستفزازات باسيل إلى هذا الحد ولا طريقة تعامله.
ورغم غضب حزب الله وأمل من استقالة الحريري، فإنهما يريدان الحفاظ على الحدّ الأدنى من الغطاء السنّي، الذي كانوا يراهنون على تعاون الحريري لتوفيره، إذا ما تم تشكيل حكومة مقبولة نسبياً.
ويبدو أنهم أرادوا عبر فرنجية إيصال رسالة إلى باسيل ودياب حول ضرورة التصرف بهدوء.
ولكن الأخطر كان رد رئيس الجمهورية ميشال عون (صهر وزير الخارجية) الذي نفى أن يكون باسيل هو الذي يشكل الحكومة، لكنه أكد أنه يحق لباسيل تشكيلها لكونه صاحب أكبر كتلة نيابية.
هذا الكلام يعني مسارين، الأول تجاوز للصلاحيات وضرب للميثاق الوطني بالتعدي على صلاحيات رئيس الحكومة السني، والمسار الأخطر هو شحن طائفي واستفزاز للطائفة السنية التي تعيش أسوأ مراحلها في الاستضعاف والتهميش.
لماذا غاب الدعم السعودي عن الحريري؟
رغم نكسات الحريرية السياسية المتعددة أمام حزب الله وسوريا، فإن السعودية حافظت على رعايتها لآل الحريري وتيار المستقبل والطائفة السنية ومن خلفهم لبنان برمته.
ولكن صعود الأمير محمد بن سلمان لسدة الحكم السعودي غيّر المعادلة.
فالرجل لم يكن راضياً عن أداء الابن المدلل للمملكة.
يعتبر محمد بن سلمان أن الحريري الابن ذهب بعيداً في التسوية مع حزب الله والتيار الوطني الحر.
ولذا جاءت عملية تصفية الحسابات بين محمد بن سلمان وحليفه الذي كان يعتبر نفسه نصف سعودي نصف لبناني.
يعيش محمد بن سلمان هاجس انقلاب الحلفاء عليه، ولذا احتجز الحريري وكان ينوي سجنه لولا علاقات الرجل الأوروبية والدور الفرنسي التركي لاسترجاع الرجل من محبسه.
محاولة محمد بن سلمان لاستبداله بزعيم آخر لاقت فشلاً ذريعاً
تقول مصادر لعربي بوست إن السعودية حاولت جاهدة استبدال الحريري ببدلاء عنه كالوزير السابق أشرف ريفي، ورئيس الوزاء السابق فؤاد السنيورة وحتى شقيقه بهاء الحريري.
كان رد الفعل اللبناني عامة والسني خاصة قوياً في التمسك بالحريري خلال محنة الاحتجاز في الرياض.
خصوم الحريري وأغلب حلفائه ساندوه بقوة، واللافت هو موقف الطائفة السنية التي نادراً ما تجاهر رموزها بأي موقف ضد السعودية، ولكنها جاهرت بتعاطفها مع الحريري أثناء احتجازه.
حتى إن سياسياً معروفاً بعلاقته العربية الواسعة وهو نهاد المشنوق خاطر بإغضاب السعودية عبر تصريح شهير آنذاك، يرفض محاولات السعودية لتنصيب بهاء الحريري بدلاً من سعد المحتجز.
إذ قال المشنوق الذي كان وزيراً للداخلية أثناء فترة احتجاز الحريري إن اللبنانيين ليسوا قطيع غنم ولا قطعة أرض تنتقل ملكيتها من شخص إلى آخر.
وعندما سئل عن احتمال تعيين بهاء رفيق الحريري، الشقيق الأكبر لسعد الحريري، رئيساً للحكومة، قال الوزير ذاته إن هذا الكلام دليل على جهلٍ بطبيعة لبنان وطبيعة السياسة فيه.
اصطدمت المملكة بحقيقة أن الرجل متجذر في تياره السياسي رغم كل الصراعات داخل هذا التيار، والهزائم التي تلقاها.
فالحريري كان يلعب بكفاءة على توازنات حزبه.
فهمت السعودية بعد عودة الرجل أنه الأوحد في تياره وفي طائفته حتى إلى ما قبل انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، على الرغم من أخطائه وسياسة تنازلاته تارة لحزب الله وتارة أخرى لجبران باسيل.
وعلى الرغم من خسارة الحريري لثلث مقاعد السنة لحساب حزب الله، بقي الرجل المرشحَ الدائم لترؤس أي حكومة تقتضيها مصلحة كل الأطراف.
يعتبره الحلفاء والخصوم ذا خطاب معتدل، لا بديل حقيقياً عنه بحسب كل الأطراف.
هل تشهد لبنان ظهور قيادة منافسة للحريري من خارج تياره؟
تتعدد التيارات المنافسة والمعادية لتيار المستقبل داخل الوسط السني فهل هناك منافس للحريري من بينها.
سنة حزب الله لا يتقبلهم الشارع ولا ترضى عنهم واشنطن.
ويقصد بسنة حزب الله القوى السياسية القريبة من حزب الله سوريا، ومنهم قوى ناصرية أو إسلامية سنية موالية لسوريا، وهي قوى مفتتة لا يجمعها شيء إلا تأييد سوريا ودعم سياسات حزب الله ومعاداة الحريري.
ويصعب تصور أن هذه القوى يمكن أن تكون بديلة للحريري لأسباب تتعلق بالضعف البنيوي لهذه القوى، ولارتباطها بالعدو التاريخي الذي أذاق سنة لبنان الأمرّين، وهو نظام الأسد وكذلك حزب الله.
على العكس فإن جزءاً كبيراً من الشارع السني يناصب القوى السنية الموالية لحزب الله العداء ويعتبرهم خونة السنة.
أما إخوان لبنان (الجماعة الإسلامية) الذين يقول البعض إنهم يعيشون حلم خلافة الحريري وإنهم قادرون على الجلوس مكانه في سدة الزعامة السنية، في وقت تتحدث بعض الجهات عن دور فاعل لهم الحراك، فإنهم يواجهون معوقات داخلية وخارجية تعرقل هذا الحلم.
داخلياً، فإن المجتمع السني اللبناني قد يكون طائفياً كغيره من مكونات لبنان، ولكن متدين بالشكل الذي يجعله حاضنة طبيعية للإخوان المسلمين، كما ثبت أن موجات التدين والتعصب الطائفي الطارئة التي تأتي كرد على شعور السنة بالمظلومية من سوريا الأسد وحزب الله تكون في صالح المجموعات السلفية المتطرفة المغامرة أكثر منها في صالح الإخوان المسلمين.
خارجياً فقد أصبحت الجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمون بلبنان) جزءاً من جماعة تنصابها الرياض وأبوظبي العداء، ومكوناً في تحالف قطر وتركيا، وأشرف ريفي الذي يزايد على الحريري في الخطاب الطائفي السني لن يحظى بموافقة حزب الله وفريقه.
ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي شخص متقلب من خطاب يحابي حزب الله لخطاب يقف على حافة الطائفية أو في قلبها إن لزم الأمر.
العودة لمرحلة ما قبل الحرب الأهلية
ويرى عضو كتلة المستقبل النيابية، النائب بكر الحجيري، أن الرئيس الحريري كان عنواناً كبيراً للإيجابية السياسية في البلد منذ 2005، لكنه اليوم يشعر بمحاولات إسقاط الحريرية السياسية وإعادة الأمور لما يشبه مرحلة الوصاية السورية.
يعلم الحريري بوجود مطبخ يديره باسيل للضغط عليه لإجباره على القبول بمرحلة الأمر الواقع التي يحاول فرضها متغطياً بحزب الله، بحسب الحجيري.
يشدد الحجيري أن على الحلفاء كالحزب التقدمي الاشتراكي وحزب القوات اللبنانية إعادة النظر بسياساتهم الأخيرة تجاه تيار المستقبل، قائلاً "نحن ناضلنا معاً لسنوات طويلة للوصول لحلم لبنان الدولة".
ويرى الرجل أن من يحارب الحريري يستهدف الساحة السنية، التي ينوي باسيل إعادتها إلى ما قبل الحرب الأهلية في العام 1975.
ولكنه يستدرك قائلاً "لن ننجر للحرب، فمدرسة رفيق الحريري هي من طوت صفحة الحروب وأعادت للبنان دوره المحوري في المنطقة".
ويرى الحجيري أن تحدي الحريري والسنة عبر الإتيان برئيس حكومة "لقيط" لتنفيذ سياسات باسيل سيفشل، حسب تعبيره.
قال: "لن نغطي تلك الحكومة ولن نشرعنها مهما بلغت التحديات".
يؤكد الحجيري أنه مطلوب من دار الفتوى أن تأخذ دوراً أكبر في الساحة السنية لإعادة اللحمة إليها.
كما أشاد بموقف رؤساء الحكومات السابقين في الحفاظ على دستور الطائف، ويؤكد أن العلاقة مع الجماعة الإسلامية ضمن الساحة السنية بحاجة إلى ترميم.