ترددت أنباء في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن أنَّ وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس يسعى للتوصل لاتفاقيات "عدم اعتداء" مع دول الخليج تكون هي البداية لتوقيع اتفاقيات سلام مستقبلاً. وكتب كاتس، تغريدة على موقع "تويتر" قال فيها: "أعمل مؤخراً، بدعم من الأمم المتحدة، على تطوير مبادرة سياسية لتوقيع معاهدات عدم اعتداء مع دول الخليج العربي".
وأُفيد بأنَّ كاتس ناقش المبادرة مع وزراء خارجية دول عربية لم يُفصِح عن اسمها، ومبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط السابق جيسون غرينبلات، خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
ويبدو أنَّ إنجازاً ملموساً قد تحقق خلال الشهرين الماضيين بما يكفي لأن يسافر وفد إسرائيلي إلى واشنطن في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري لعقد مناقشات متطورة عن المسألة.
ومن بين شروط الاتفاقيات المُقترَحة: "الامتناع عن الانضمام لتحالف أو منظمة أو ائتلاف ذات طبيعية عسكرية أو أمنية، أو تمويلها أو المساعدة في تشكيلها، مع طرف ثالث"، وأنَّ "أية خلافات تنشأ بسبب الاتفاقية تُحَل بالمشاورات".
الاعتداء ليس بجديد على كاتس
أوضح كاتس، في تصريح لإذاعة الجيش الإسرائيلي، أنَّ الوفد الإسرائيلي لواشنطن ضم ممثلين عن وزارتي الخارجية والعدل ومجلس الأمن القومي والجيش. وفي السياق ذاته، ذكر موقع Axios الأمريكي أنَّ نائبة مستشار الأمن القومي الأمريكي، فيكتوريا كوتس، أجرت مؤخراً محادثات مع سفراء كل من المغرب وعمان والبحرين والإمارات العربية المتحدة بشأن توقيع اتفاقيات عدم الاعتداء مع إسرائيل.
وفي غضون ذلك، تسعى حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إبرام "اتفاقية دفاع متبادل" مع الولايات المتحدة، من شأنها ردع أهداف العدوان الإسرائيلي عن التجرؤ على الرد والدفاع عن أنفسهم، على الرغم من معارضة كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين لهذه الاتفاقية.
وكاتس نفسه، على غرار الحكومة التي يقودها نتنياهو، ليس غريباً على العدوان؛ إذ خدم سابقاً في الجيش الإسرائيلي جندياً وضابطاً، مثلما فعل معظم كبار المسؤولين الإسرائيليين. وفي عام 1981، فُصِل من جامعة Hebrew University of Jerusalem لمدة عام بسبب ارتكابه أعمال عنف في الحرم الجامعي استهدفت فلسطينيين.
إلى جانب ذلك، كاتس هو أحد كبار الداعمين وجامعي التبرعات للمستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان، وتعاون مع بنيامين نتنياهو في معارضة قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون لإعادة الانتشار حول قطاع غزة؛ لما لها من تأثيرات سلبية على خطط الاستعمار الإسرائيلية.
ويؤيد كاتس أيضاً ضم الضفة الغربية المحتلة بالكامل إلى إسرائيل، ونادى بأن تتخلص إسرائيل من قادة "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات".
مقارنات تاريخية
يقول جوزيف مسعد، المفكر وأستاذ السياسة العربية الحديثة بجامعة كولومبيا بنيويورك، في مقالة منشورة له بموقع The Middle East Eye البريطاني: ليس من قبيل المصادفة أنَّ لغة "اتفاقيات عدم الحرب" وفكرتها التي تتفاوض إسرائيل والولايات المتحدة لتوقيعها تعود أصولها لمعاهدات عدم الاعتداء التي انتشرت في أوائل القرن العشرين.
فعقب الحرب العالمية الأولى، بدأ توقيع اتفاقيات عدم الاعتداء بين بلدين أو أكثر، ثم وصل انتشارها لأوجه في أوروبا في فترة الثلاثينيات. لكن أصبحت نادرة منذ الحرب العالمية الثانية، مع تفضيل الدول الدخول في تحالفات أوسع تحت مظلة هيئات كبرى مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو حلف (وارسو).
ويعتبر الباحثون السياسيون عامةً اتفاقيات عدم الاعتداء مناقضة للتحالفات الرسمية، التي تؤدي إلى اعتداء الطرف الأقوى على الطرف الأضعف.
ومن أشهر هذه الاتفاقيات، اتفاق ميونيخ لعام 1938 المُبرَم بين ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، الذي كان بمثابة تحالفٍ معادٍ للسوفييت يضم القوى الرأسمالية ذاتها التي غزت روسيا الثورية في عام 1918؛ مما منح هتلر في نهاية المطاف حرية غزو الاتحاد السوفييتي في عام 1941.
وكانت النتيجة المباشرة لاتفاق ميونيخ هو السماح لهتلر بضم إقليم السوديت، بغرب تشيكوسلوفاكيا، بحجة أنَّ الأقليم يضم غالبية سكانية من الجرمان، يبلغ عددهم نحو 3 ملايين شخص، وتمكن من تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع فرنسا وبريطانيا. ولم يكن أمام تشيكوسلوفاكيا، التي اعتمدت على المساعدة العسكرية من فرنسا، أي خيار، بعد أن وقعت فرنسا على الاتفاقية، إلا أن توافق على ضم هتلر للإقليم.
جنوب إفريقيا
عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت جنوب إفريقيا، التي طبقت نظام الفصل العنصري؛ لأنها تأسست مثل إسرائيل على قوانين ومؤسسات عنصرية، تتطلع للتوسع جغرافياً من خلال الاعتداء المستمر على جيرانها؛ سعياً للحصول على الهيمنة الإقليمية.
وفي عام 1984، دفعت جنوب إفريقيا حكومة الثورة في موزمبيق لتوقيع اتفاق عدم اعتداء، وهو ما اضطرت هذه الأخيرة لفعله نتيجة تعرضها للقصف المتكرر والتخريب على يد جنوب إفريقيا، وكذلك بسبب رعاية هذه الأخيرة لحركة رينامو الإرهابية، التي شنت هجماتها داخل موزمبيق بتخطيط من الجنوب إفريقيين.
في المقابل، تعهدت موزمبيق بعدم السماح بوجود قواعد على أراضيها تابعة لمنظمة المؤتمر الوطني الإفريقي، التي كانت تكافح ضد نظام الفصل العنصري. ومع تحييد موزمبيق بموجب الاتفاقية، واصلت جنوب إفريقيا انتهاكاتها من خلال العديد من عمليات التوغل وتنظيم هجمات في موزمبيق.
ومثل جنوب إفريقيا أثناء فترة نظام الفصل العنصري، تسعى إسرائيل إلى الهيمنة الإقليمية من خلال التفوق العسكري الساحق على جيرانها. وتُعتبر اتفاقيات عدم الاعتداء جزءاً من تلك الاستراتيجية.
الطرف الأقوى المهيمن
تعتبر إسرائيل المعتدي الإقليمي الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وهذا لا يُغيّر حقيقة أنَّ الأمريكيين هم المعتدون الأساسيون عموماً، ويؤدي السعوديون دوراً مساعداً لهم. منذ عام 1948، هاجمت إسرائيل وغزت أكثر من ست دول عربية، من ضمنها مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وتونس وليبيا والسودان.
وساعدت أيضاً في قمع الثورات في اليمن والجزائر وعمان، ونفّذت عمليات في المغرب ودولة الإمارات. ولا تزال إسرائيل الطرف الأقوى في أي اتفاقيات عدم اعتداء إقليمية محتملة.
لا يتغير السلوك الإسرائيلي بموجب مثل هذه الاتفاقيات أو اتفاقيات وقف إطلاق النار أو حتى معاهدات السلام. استغلّت إسرائيل اتفاقية السلام الموقعة مع مصر في عام 1978 لتتمكّن قواتها من غزو لبنان في نفس العام، واجتاحتها مرة أخرى في عام 1982 دون خوف من تدخل الجيش المصري، الذي جرى تحييده بموجب الاتفاقية.
سهَّلت اتفاقيات السلام التي أبرمتها إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية والأردن في عامي 1993 و1994 توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة عام 1967، من بينها القدس الشرقية ومرتفعات الجولان والضفة الغربية –التي تسعى حالياً إلى ضم مساحات شاسعة منها- وأدَّت إلى فرض حصار كامل على قطاع غزة.
علاوة على ذلك، انتهكت إسرائيل بانتظام كل اتفاقية وقف إطلاق نار وقعتها مع الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1949.
عمليات اجتياح شاملة
إذا كانت السوابق التاريخية خير شاهد ودليل، وإذا كانت اتفاقيات السلام التي وقعتها إسرائيل مع دول عربية ومنظمة التحرير الفلسطينية تخبرنا بشيء، فهو أنَّ اتفاقيات عدم الاعتداء المخطط لها مع الأنظمة الخليجية والمغرب هي مرحلة تمهيدية لعدوان إسرائيلي جديد -ليس فقط ضد هدفها الرئيسي "إيران"، العدو المشترك المعلن، لكن أيضاً ضد لبنان وسوريا والعراق والفلسطينيين.
ومما يثير السخرية أنَّ حكومة كاتس ونتنياهو العدوانية هي التي تسعى إلى إبرام مثل هذه الاتفاقيات. لن تخدم تلك الاتفاقيات المحتملة الاعتداءات الإسرائيلية فحسب، بل ستخدم في المقام الأول اعتداءات الولايات المتحدة الأمريكية، التي، من خلال تحييد حتى مجرد المعارضة السياسية الصورية من الموقعين، يمكن أن تمضي قدماً مع الإسرائيليين لشن حرب على إيران وتوسيع وجودها العسكري عبر شبه الجزيرة العربية.
علاوة على ذلك، الهجمات الإسرائيلية والأمريكية المستمرة في سوريا والعراق، التي قصفتها إسرائيل قبل بضعة أشهر، جنباً إلى جنب مع الهجمات الإسرائيلية على لبنان، قد تؤدي إلى عمليات اجتياح شاملة تنفذها إسرائيل لخدمة مصالحها الخاصة، ومصالح راعيتها الأمريكية.
ومع ذلك، يتمثَّل الأمر الأهم بالنسبة للإسرائيليين في أنَّ هذه الاتفاقيات سَتُسهّل خطة ضمها النهائي للضفة الغربية وتنهي جميع الاتفاقيات السابقة مع السلطة الفلسطينية المتعاونة، بدون أن تستطيع الدول العربية الموقعة أن تنبس ببنت شفة.