لا تزال فكرة المدينة الذكية ضرباً من ضروب الخيال العلمي. مكان يتألف من ملايين الأجهزة المترابطة، من السيارات إلى أجهزة تنظيم الحرارة، معظمها يعمل بشبكات اتصالات الجيل التالي، حتى إنها تدعم في بعض الأحيان الشحن اللاسلكي. ولكن هذه هي صورة المدينة الذكية في المستقبل البعيد، وهو ما يختلف عن مشروع المدينة الذكية القائم حالياً في فوكوكا، باليابان. إنها مدينة ذكية يمكنك استخدامها اليوم، وهو الأمر الذي يعود بفائدة كبيرة على الأشخاص الذين يعيشون هناك الآن بالفعل.
يقول موقع Digital Trends الأمريكي، إن هذه المدينة نتاج عمل فريق تطبيق المراسلة Line في فوكوكا وبدعم كامل من الجهات المحلية، ورغم أن المخططات لا تنقلك حتى الآن إلى عملك في سيارة ذاتية القيادة، فإنها تبسط حياتك الحيوية، وتبقيك آمناً من إذا اتخذت الحياة منعطفات خطيرة. وبالحديث إلى فريق مدينة "لاين فوكوكا" الذكية خلال مؤتمر مطوري Line في طوكيو، رأينا ما قد يصبح نموذجاً لانتشار وازدهار المدن الذكية حول العالم.
ما هي مدينة فوكوكا الذكية؟
عند سؤاله عن أفضل وصف للنظام ومزاياه، قال يوسوكي سوزوكي، مدير عمليات مدينة "لاين فوكوكا"، لمجموعة من الصحفيين في بيان موجز: "هنا وفوْراً"، مركِّزاً بشكل خاص على حل المشكلات اليومية في المدينة، صغاراً وكباراً، بدلاً من الانخراط في مستقبل من الخيال العلمي.
وقال: "تحتاج المدن الذكية أن تُستخدم لكي تصبح ذكية. ونركز على المشكلات التي تواجه المواطنين الآن، وليس على المستقبل".
ما الذي يعنيه ذلك في الواقع؟
تعمل خدمات مدينة "لاين فوكوكا" الذكية من خلال تطبيق المراسلة Line، الذي يستخدمه أكثر من 80 مليون شخص في اليابان، ويتطلب منك الاشتراك في خدمة Line الإخبارية الرسمية الحكومية. حالياً، هناك 1.63 مليون مشترك، أكثر من أي خدمة تغطية إخبارية أخرى في اليابان، ونسبة مئوية معقولة جداً من 5 ملايين شخص يعيشون في المدينة.
هناك ثلاث خدمات رئيسية تقدَّم الآن: تقارير البنية التحتية، وإزالة القمامة الضخمة، ودعم الكوارث/الإخلاء. وتعزَّز تلك الخدمات بخدمات أخرى متصلة تجري تجربتها، مثل استئجار المظلات واستئجار الدراجات الكهربائية.
لماذا هذه الخدمات؟
المدن الذكية يجب أن تخدم سكانها، وتستهدف مدينة "لاين فوكوكا" المشكلات الأسوأ، والأكثر استهلاكاً للوقت، والأصعب في الإنجاز بالنسبة للمواطنين. لذا، سوف تحتاج معرفة سياق الحياة هناك لتفهم الفوائد والمزايا المُقدمة إذا لم تكن تعيش فعلاً في فوكوكا.
نبدأ بخدمة إزالة القمامة الضخمة. في اليابان، هذا الأمر يعتبر كابوساً بيروقراطياً يستغرق كثيراً من الوقت. لنقل مثلاً إنك اشتريت ثلاجة جديدة. للتخلص من ثلاجتك القديمة، تحتاج التقدم إلى مكتب الحكومة المحلية عبر الهاتف أو عبر الإنترنت بطلب التخلص منها، ثم تذهب لدفع الرسوم اللازمة في أحد المتاجر، وأخيراً تحصل على موعد، وعادة ما يكون موعد جمع الأجهزة غير مريح بالنسبة للفئات العاملة ولا يمكن تغييره.
بفضل عمل شركة Line مع الحكومة على المشروع، أمكن إنجاز خطوات التقدم بالطلب عبر تطبيق المراسلة مع ردود آلية. والدفع عن طريق استخدام خدمة Line Pay، وتأكيد الموعد في وقع الجمع الفعلي، وهو ما يجعل عملية الجمع أكثر ملاءمة للمواطن. هذه العملية المبسطة أصبحت تستغرق دقائق بدلاً من أيام، ويُستخدم النظام نفسه للإبلاغ عن مشكلات البنية التحتية مثل وجود حفر في الطريق، أو أي تلفيات أو مشكلات بالأماكن العامة، أو عدم عمل عواميد الإنارة في الشوارع.
وأخيراً، عالجت مدينة "لاين فوكوكا" ما يُعتبر المشكلة الأولى التي تواجه سكان اليابان، وهي مشكلة الحصول على المعلومات المهمة المنقذة للأرواح في حالة الكوارث الطبيعية. في حالة حدوث زلزال، تُنشّط صفحة التطبيق المخصصة فوراً من قِبل الحكومة، وتقدم نصائح فورية حول ما يجب القيام به وإلى أين تذهب. وتعرض تفاصيل ملاجئ الإخلاء، وضمن ذلك إن كانت مفتوحة فعلياً أم لا.
هذه الخدمة تفاعلية. تطلب منك إخبارها بأي مكان أنت؛ في المنزل، بالسيارة، في القطار، على سبيل المثال. ثم ترسل إليك اقتراحات فورية حول ما يجب عليك القيام به، وضمن ذلك تنبيهات عمّا قد تواجهه، وتدابير السلامة اللازمة. كثير من النصائح البديهية تهرب تماماً من رأسك في أوقات الأزمات. يحدد التطبيق موقعك، أو يمكنك إخباره بنفسك، ثم تشاركه مع أصدقائك وأفراد عائلتك عبر التطبيق، لتطمئنهم على حالتك.
كيف تعمل بشكل أذكى؟
بدا نهج المدينة الذكية المتبع في "لاين فوكوكا" يحقق فارقاً. ارتفعت معدلات الإبلاغ عن مشكلات البنية التحتية بمقدار 11% مقارنة بهذا الوقت من العام الماضي، وقدَّم المواطنون 800 بلاغ منذ بدء المشروع منذ ثلاثة أشهر فقط؛ ولكن لأن مسؤولية إصلاح المشكلة لا تقع على عاتق شركة Line، فهل تؤدي الحكومات المحلية الدور المنوط بها في هذه المنظومة؟ على الرغم من عدم وجود إحصائيات حتى الآن، كان ذلك مصدر قلق واضح لفريق Line عند سؤالهم عن ذلك، وهو ما يثير التساؤلات مجدداً حول جدوى الأنظمة الذكية وفائدتها للسكان من دون إرادة حقيقية من الجهات التنفيذية.
وجود طريقة سهلة ودقيقة للإبلاغ بالمشكلات يعني أن الحكومة أصبحت تدرك وجود تلك المشكلات التي لم يُبلّغ عنها من قبلُ. قال سوزوكي: "هدف المدينة الذكية هو مواكبة وتيرة الحياة السريعة في المدن".
يُبلغ المواطنون بالمشكلات المحلية باستخدام الصور والإحداثيات الدقيقة للموقع من خلال نظام تحديد المواقع، والتواصل عبر تطبيق مراسلة، بدلاً من المكالمات الهاتفية التي تستغرق وقتاً طويلاً ولا تتيح تقديم المعلومات التفصيلية المعقدة، مثل بيانات الموقع، بشكل دقيق.
وأضاف سوزوكي: "تقليل الاحتكاك يعني إمكانية إصلاح مزيد من المشكلات". بالإضافة إلى ذلك، لأن تعداد السكان في اليابان يتناقص ومتوسط الأعمال يرتفع، تعد هذه وسيلة جيدة لإشراك الأشخاص الذي لم يصبحوا في سن مناسبة للعمل. بمجرد قدرتهم على استخدام تطبيق Line، يصبح من هم غير قادرين على إصلاح حُفَر الطريق مفيدين بطريقة أخرى، وهي أن يصبحوا بمثابة أعين الحكومات المحلية. لذا تعمل مدينة فوكوكا بطريقة جماعيةٍ أكثر ذكاء، بفضل الخدمات المتصلة والمريحة التي يوفرها تطبيق Line.
الجيل الخامس، والخطط المستقبلية
المدن الذكية في المستقبل سوف تعمل بشبكات الجيل الخامس، أو تقنية أخرى أكثر تطوراً؛ ولكن مدينة فوكوكا تعمل بشبكات الجيل الرابع، وحتى شبكات الجيل الثالث. وهذا يجعل الخدمات متاحة للجميع في الوقت الحالي. ويوضح سوزوكي أن شبكات الجيل الخامس لا تمثل أهمية كبيرة بالنسبة للمشروع، لأن المحرك الرئيسي هو ما يحتاجه المواطنون، وليس ما يبدو بعيداً في المستقبل. ولكن عندما يطرأ شيء ما، يتطلب أو يحتاج الاستفادة من خدمات شبكات الجيل الخامس، سوف نُرحّب باستخدامها. أحد الاحتمالات المطروحة لاستخدام شبكات الجيل الخامس هو استخدام الطائرات المسيَّرة لإحضار الصيد الطازج من قوارب الصيد المنتشرة على طول جزر فوكوكا الساحلية النائية مباشرة إلى الناس والتجار على الشواطئ.
خدمات قيّمة
كما تتعاون "لاين فوكوكا" مع مدينة تايبيه في تايوان، حيث يجري العمل على مخطط مماثل. ولكنها تتبع نهجاً مختلفاً للوصول إلى المدينة الذكية، فهي ترى أن الاستدامة هي الهدف النهائي، وليس التطوير المستمر، وأن جعل المدينة أذكى هو الوسيلة لتحقيق تلك الاستدامة.
لذا فإن بعض المبادرات هناك تبدو مألوفة لما قد نتوق إليه عادة عندما نسمع عبارة "مدينة ذكية"، إذ تختبر مجموعة صغيرة من الحافلات ذاتية القيادة، على سبيل المثال. تسير الحافلات بمناطق محدودة في وقت متأخر من الليل بعيداً عن أوقات الذروة، بحيث لا تؤثر أو تتأثر بحركة المرور العادية، ولكنها لا تزال تقدم خدمة قيّمة للسكان.
كما تختبر مدينة تايبيه أيضاً إمكانية التحكم الذكي في التقاطعات المرورية باستخدام كاميرات 360 درجة، تراقب حركة المرور بتقنيات الذكاء الصناعي، بدلاً من وجود شخص فعلي في تلك الأماكن المزدحمة. بإمكان الكاميرات التعرف على نوع المركبة وحالة الطقس، ثم تضبط تقنية الذكاء الصناعي حالة المرور؛ للمساعدة على الحفاظ على انسيابية المرور. وتعد هذه الاختبارات جزءاً من مبادر عالمية أكبر للمدن الذكية، تشارك بياناتها مع عشرات المدن الأخرى حول العالم.
مدينة "لاين فوكوما" الذكية تعمل الآن، ولدى الفريق خطط كبيرة للمستقبل. يقول سوزوكي: "الهدف هو أن تصبح فوكوكا نموذجاً للمدن الذكية في آسيا".
قد لا يكون الأمر ساحراً كما هو متوقع، ولكنها الخطوات الأولى التي اتخذتها مدينة فوكوكا لإنشاء مدينة ذكية تعمل الآن وتخدم سكانها. وهذه هي الأساسات التي سوف تمكننا من تطبيق تقنيات الجيل الجديد من المدن الذكية عندما تصبح واقعاً.