قرر اللاعب التركي الألمانيّ مسعود أوزيل إلقاء حجر في بركة العالم الإسلامي الراكدة، محاولاً كسر الصمت المطبق حول ما يحدث للأقلية المسلمة في الصين، إذ إن ما يتعرض له الإيغور المسلمون لا يقل في وحشيته وبشاعته عن جرائم الهولوكوست التي ارتكبها النازيون، وإن كان النازيون أكثر رحمة وأعطوا ضحاياهم الموت وخلصوهم من العذاب، تُبقي الصين أكثر من مليون مسلم تحت وطأة التعذيب النفسي والجسدي، وتحاول هندستهم اجتماعياً باعتبارهم محض مواد لا بشر من لحم ودم.
أما الإمبراطورية
الصينية فلا تفهم هذه اللغة الدبلوماسية ولا تعرف منطقها. فقررت مسح أوزيل من
شبكات الويب الخاصة بها، وخرج وزير الخارجية الصيني بنفسه ليقول إن أوزيل قد تم
تضليله بمعلومات مزيفة ودعاه لحضور طقوس هولوكوست العصر بنفسه، وقررت شركات ألعاب
الفيديو حذف أوزيل من جميع نسخها، وأمرت المتاجر الرياضية بالتوقف عن بيع وتصميم
وإنتاج قمصان بطل العالم، وخرج بعض الصبية في الشوارع حارقين لكل ما كتب عليه
اسمه، ومن ثم أعلن التلفزيون الصيني عدم بثه لقمة الجولة الماضية من الدوري
الإنجليزي بين أرسنال ومانشستر سيتي وبث مباراة غريم أرسنال اللدود توتنهام ضد
وولفرهامبتون بدلاً منها.
هذه ليست المرة الأولى التي تتصرف فيها الصين بعنجهية وقسوة مفرطة إزاء أي انتقاد متعلق بحقوق الإنسان يطالها؛ إذ تعرّض الدوري الأميريكي لكرة السلة بأكمله لضربة صينية موجعة، بمنع الجمهور الصيني من مشاهدته، وذلك بعد إعلان الحكومة الصينية عن تعليق بث مباريات دوري السلة الأشهر في العالم، بسبب تغريدة للمدير العام لفريق هيوستن روكتس المساندة لاحتجاجات هونغ كونغ ضد الصين.
كان المدير العام لهيوستن روكتس، داريل موري، غرَّد على حسابه الشخصي على موقع تويتر: "قاتل من أجل الحرية، ساند هونغ كونغ"، وذلك لمُساندة احتجاجات هونغ كونغ الأخيرة، ليعود ويمحوها مباشرةً بعد ضغوطات ضخمة. لكن حتى محوها من سجلات تويتر لم يغفر له وللدوري الأمريكي لكرة السلة برمته عند الصينيين الذين علقوا بث مباريات الـ NBA.
المطلوب باختصار ألا يسير
اللاعبون والمشرفون على اللعبة بعيداً عن القطيع، وألا يحاولوا التغريد خارج
السرب، وإلّا كما في الحالة الصينية فالعصا مجهزة لعقاب كل من تسوّل له نفسه
الإتيان بأحد هذه المحظورات. والهدف من وراء القسوة الصينية في رد الفعل، كما حدث
مع أوزيل وموري، هو ردع وتخويف كل من تسوّل له نفسه تقليدهم والسير على
خطاهم.
يقول لاعب نادي أرسنال هيكتور بيليرين في حوار مع جريدة الغارديان البريطانية:
"لا يزال يطلب من لاعبي كرة القدم لعب كرة القدم فقط وعدم التحدث عن أي شيء
آخر. بالنسبة لكثير من لاعبي كرة القدم، من السهل جداً نشر أشياء مملة عبر
الإنترنت بعد المباراة. لكنني أشعر أننا لن نمضي قدماً إذا واصلنا القيام بذلك.
يمكننا استخدام الوسائط الاجتماعية لإظهار أننا لسنا آلات تعمل كل يوم سبت وأحد
(أيام المباريات في الدوري الإنجليزي). لدينا عواطفنا ومشاكلنا مثل أي شخص آخر.
انظر إلى ما حدث عندما كتب رحيم ستيرلنج، لاعب مانشستر سيتي، عن العنصرية عبر
حسابه الشخصي على انستغرام، لقد اندلعت حوارات ونقاشات هامة جداً بسببه".
هكذا، تصبح المهمة شاقة وثقيلة على أكتاف اللاعبين. مطلوب منهم أن يصمتوا ويكبتوا مشاعرهم وأفكارهم وعواطفهم تحت يافطة عريضة تبرر كل قمع يتعرضون له، اسمها "ضريبة الشهرة".
لكن هل الصمت والسكوت وغض الطرف هي ضريبة الشهرة حقاً؟ أم أن تبعات الحديث في الممنوع وأخذ مواقف أخلاقية وإنسانية مثلما تعرض له مسعود أوزيل وداريل موري، ومحمد أبوتريكة من قبلهما، هي ضريبة الشهرة الحقيقية؟
بالتأكيد لم يود أوزيل أن تحرق
قمصانه في بلد يشجع أغلبه
نادي أرسنال ولم يتصوّر أن شجبه لصمت العالم الإسلامي ودعوته
لإنقاذ بني دينه ستستدعي كل هذه الردود الرسمية والشعبية في الصين. لكنها ضريبة
الشهرة التي توجب عليه دفعها مرة أخرى بعد أن دفعها في ألمانيا. ففي أعقاب الخروج
المهين لمنتخب المانشافت من مونديال روسيا 2018 توجهت سهام نقد الإعلام الألماني
نحوه بقسوة وغلظة وحملوه مسؤولية الخروج بخفي حنين من البطولة. واستمر الضغط حتى
انفجر في وجه الألمان قائلاً كلمته الشهيرة: ألمانيّ عند الفوز، مهاجر عند
الخسارة. ومن ثم اعتزل اللعب الدوليّ. وبقوله لذلك لا يعبر أوزيل عما حدث معه
وحده، ولكنه يفصح عن ازدواجية معايير المجتمع والدولة في ألمانيا تجاه مجتمع
المهاجرين بأسره. فهؤلاء المهاجرون ألمان عند النجاح، مهاجرون غير قادرين على
الاندماج والتشبع بقيم المجتمع الألماني عند أول مشكلة أو لحظة فشل.
أوزيل الذي أصبح أشهر من "نار على عَلَم" يدفع ضريبة الدعوة إلى تحرك
عاجل يرفع أو يقلل من أهوال ووحشية ما يقع على أقلية من البشر المستضعفين في بقعة
لا نراها إلّا من خلال معاينة آثار الدمار والصدمة على أجساد ووجوه الناجين منها.
والضريبة الحقيقية التي يجب أن يدفعها المشاهير هي ضريبة الكلام في الممنوع وفتح الملفات المسكوت عنها، والوقوف مع الجماهير والمعجبين الذين إن انفضوا عنهم أو اختفوا لن يصبح هؤلاء المشاهير مشاهيرَ بالأساس. وحين يفعلون ذلك فهم لا يدعون بطولة زائفة أو يرتدون زيّ سوبرمان، لكنهم ينحازون إلى الطرف الذي يستمدون منه شرعيتهم وأموالهم ومصالحهم. بدون الجماهير ما كانت الشهرة التي تجلب حقوق الرعاية الضخمة، أو حملات الدعايا والإعلان الموسعة، وما صنعت وسوقت وبيعت القمصان لولا أن الجماهير سترتديها بالضرورة. لولا الجماهير ما كانت اللعبة بأسرها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.