ضجة عارمة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، كثر انزعجوا واستاؤوا وتضامنوا، عَلَّقوا على أن الفيديو مروع ومخيف. لم يدفعني كل هذا مطلقاً للبحث عن الفيديو ومشاهدته، لا لرهبة أو تحجُّر في قلبي؛ إذ إن كل ما عَلقَ بذهني وغرق فيه حينئذ، هو الزمن الذي عانى خلاله شابنا البائس من بداية موته غير المعلومة حتى نهايته النهاية القاسية الموثقة.
فكرت في نوعية الضغوط والمعاناة التي عصفت بعقله ونفسيته نحو الحضيض، فاستسلمت روحه للخلاص الأبدي.
لحظة الانتحار مؤلمة، لكن الألم الأكبر كان خلال تلك الفترة الجهنمية، فحتماً كان قلبه يصرخ وينتفض ويحتضر في صمت داخل قفص صدري فولاذي يمنع الشمس والهواء، بينما يُبقي فقط على الظلمة والعتمة.
يا صديقي.. يا صديقي المنتحر لا أدري إن كنت قد قرأت العبقري الفرنسي – الجزائري، ألبير كامو حين لخَّص مأساتك: "إن البشر لا يقتنعون أبداً بأسبابك وصدقك وجدية عذابك إلا حين تموت، وما دمت حياً فإن قضيتك مغمورة في الشك، وليس لك أي حق في الحصول على غير شكوكهم". لكن حتى الموت لم يعد يمنع بعض البشر، من أن يلووا عنق معاناتك الأساسية أو أن يتفوهوا بالقيل والقال ملقين باللوم والتبعية كليةً على كاهلك حتى يطمسوا معك الحقيقة، رغم الصرخة التي أرعدت في سماء القاهرة على مرأى ومسمع من أهلها.
منذ سنوات ليست بالبعيدة جداً ولا القريبة جداً، تداول أناس بلدةٍ مجاورةٍ، ومن ثم أهل بلدتي فيما بينهم آسفين خبر انتحار شاب شانقاً نفسه داخل حجرته. ارتاب جيرانه على إثر غيابه وعدم ظهوره لمدة طالت عن المألوف، أضفت صمتاً قابضاً مخيماً على البيت الذي يسكنه، حتى صار كأنه مقبرة أو بيت مهجور مسكون بالأرواح وممسوس بالشياطين.
حاولوا أن يدقوا الباب مراراً وتكراراً، فلم يجدِ ذلك نفعاً، ليس من مُجِيب، تواصلوا مع أقربائه عساه عندهم أو لديهم معلومات مُطمئِنة. لكن النتيجة أن انتقلت عدوى الشك والريبة بدورها إلى الأقرباء، فعزموا على كسر باب الشقة، فكانت الصدمة الكبرى والحقيقة التي لا مفر منها، رائحة موت لا تُخطِئها الأنوف، الشاب يتدلى جثةً هامدةً من سقف غرفته، بعيونٍ جاحظةٍ مدهوشةٍ ولسانٍ لاهثٍ ظامئٍ قد هجر فمه المفغور على مصراعيه.
أخبرني يا عزيزي لماذا تنتحر؟ لماذا لم تصمد؟
يتقاطع المنتحران أنهما طالبا هندسة، المنتحر شنقاً بين جدران غرفته الأربعة، وإن كان قد عانى من صعوبة الكلية كما ردد البعض، لكن لم تكن تلك المشكلة، فبعد الاطلاع على الملابسات، والاستماع إلى الضجة التي أثيرت من تخمينات وتفسيرات واستنكار وشماتة وإشفاق ولوم، قمة المشاعر الإنسانية المتضاربة المتناقضة منبعها الحدث ذاته، خلصنا إلى أن الشاب أراد أن يصرخ في والديه اللذين يعملان في الخارج منذ سنوات وكل همّهما جمع المال. ظل وحيداً في مصر للدراسة، لم يسمعا أو يستوعبا الحاجة الشديدة لهما بالعودة، كانا يؤمَّنان مستقبله، لكنه افتقد الدعم النفسي والمعنوي، حتى بلغت الروح الحلقوم، فخلصها بيده وصرخ صرخته المهيبة في والديه. فعادا خائبين يقطعان الطريق قطعاً، أما منتحر البرج فصرخته علنية عاتية، تكاد تنهض لها القبور وتُنفَخ فيها الروح من جديد معلنةً النفير إن كان فينا بقايا نفير.
ما دام الخوف يكبر فينا، ما دام العجز يقيد أصواتنا وأرجلنا وأيدينا، ما دام الضعف كالسوس ينخر عظامنا، ما دام الناس لا يستطيعون الصراخ تعبيراً عن ألمهم وهم أحياء، سيظلون ينتحرون ولسان حالهم: "نحن المنتحرون كنا هنا، وها نحن ذاهبون بلا رجعة دون حنين لحياة لا تسعنا فعساكم تفيقون".
الخلاصة يا أصدقائي نجدها في مقولة الرائع ألبير كامو: "خلاصة القول، يحتاج المرء منا للمزيد من الشجاعة لكي يعيش لا لكي ينتحر".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.