الإنسان يستمتع بالمدنية، وبما صنعه أشخاص بفضل العلم، إن الجميع مُستغرق في حياة الرفاهية، في إضاءة المصابيح وألعاب الفيديو والهواتف الذكية والموجات الكهرومغناطيسية.
فجأة، عَمَّ ضوء أخضر غريب، مجهول المنبع، كل الكرة الأرضية، فحول الجميع إلى صخور، أضحى البشر كالتماثيل الجامدة، وهكذا توقفت الحياة المدنية بدون إنذار.
مرت آلاف السنين على الحادثة المفاجئة، وبطريقة ما، زال التَّحجر عن تلميذِ ثانوية مفتونٍ بالعلم، ولم يتغير في جسده شيء، سوى حدوث شقوق طفيفة على وجهه، أما حالته الفزيولوجية والمورفولوجية والبيولوجية فظلت كما هي. وبالتأكيد خرج إلى الطبيعة عارياً. بنفس العُمر.
لكن العَالَم من حوله تغير، فقد اختفت الحضارة الإنسانية وإنتاجاتها بالكامل، وانتقلت الحياة إلى حالتها البدائية؛ أي لا وجود لتقنيات متطورة ولا أجهزة تكنولوجية، ولا حتى للبنايات المعمارية ذات الهندسة الراقية. وكأن هذا الشاب قد استيقظ في العصر الحجري.
و لكن، حتى و إن اختفت كل منتوجات العلم، فإن العلم نفسَه لم يختف، وإنما يوجد في عقل هذا الشاب العبقري الذي درس في حياته السابقة كل ما يتعلق بالمجالات العلمية، لهذا فهو الوهج الذي سيقفز بالحياة من حالتها البدائية إلى حالتها الحضارية.
ومع أنه يملك النظريات العلمية في عقله، إلا أن التطبيق سيكون صعباً. وهنا تكمن رسالة الأنيمي، فما يحاول توضيحه، هو أن كل ما ننغمس فيه من آلات تكنولوجية ووسائل متطورة تساعدنا في حياتنا اليومية وتُسهِّل علينا مأمورية العيش، فإنها لم تأت بسهولة في مركب فضائي، وإنما حدثت بفعل الكثير من المحاولات الخاطئة التي لم تكن لتنجح لولا صبر ومثابرة العَالِم.
المصباح الذي تغلب على ظلام الليل، والذي جعل الإنسان يُسيطر على الساعات الأربع والعشرين، لم ينزل من السماء، بل جاء بمحاولات خاطئة انتهت في الأخير بنتيجة ناجحة.
إنها مغامرات العلم، التي غطت صفحات التاريخ، بهدوء، وصمت متواضع، ولم تُثر انتباه أحد إلا بعد مرور عدة قرون؛ فرغم أنها كانت الوريد الذي أعطى للبشرية فرصة السيطرة على الطبيعة، وترويضها، إلا أن المؤرخين كانوا مهتمين في حديثهم الحماسي بالقادة السياسيين والعسكريين، دون أن يلتفتوا إلى العلماء بذاك الاحترام المبجل الذي كانوا ينظرون به إلى الزعماء.
فقد كان التاريخ السياسي هو التاريخ المُسيطر على أغلب الكتب التاريخية فيما مضى، لكن بعد عصر الأنوار بشكل عام، أضحت مكانة العلماء تأخذ حيزها من التاريخ، وصرنا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالذات نتحدث عن ما يُسمى بتاريخ الحضارة، وما التاريخ السياسي فيه إلا جزء ضئيل.
يُحاول الأنيمي توضيح قيمة العلم، على مستويين، المستوى الأول هو قيمته فيما يتعلق بأهميته في حياتنا كبشر، فنحن لم نُخلق بالمخالب والفرو والجناحين والأنياب والقوة العضلية التي تُمكننا من الجري بسرعة فائقة، ولكن وُهبِنا ملكة العقل، التي استطعنا بفضلها تجاوز كل هذه المشاكل الخلقية التي نُعانيها. فالمخالب عوضناها بصنع الرمح والفأس، والفرو عوضنا نقصه بصنع الملابس، والسرعة عوضناها بصنع اللِّّجام لركوب البهائم ثم بصنع العربة وأخيراً بصنع القطار والسيارة، أما الجناحان فقد عوضناهما بصنع الطائرة.
بالطبع، فهذه الوسائل لم تكن لتُصنع، لولا اصطدامنا بوحشية الطبيعة، التي وجدنا فيها أنفسنا ككائنات ضعيفة. فبعد اصطدامنا بهذه الواقعة، أدركنا بأنه ليس محكوم علينا أن نبقى كما نحن، وهذا نابع من الشعور الذاتي الذي قاد أسلافنا الأوائل إلى أن يتساءل كل واحد منهم: لماذا ستكون هذه الحيوانات أقوى مني؟
إنها الكرامة، التي فجرت داخلنا القوة نحن تحرير طاقة العقل، لتجاوز الحياة البدائية التي كنا نعيشها، وذلك لتجاوز قوة الحيوانات، وبالطبع استطعنا تجاوزها، وأيضاً السيطرة عليها، وفي الأخير أصابنا الغرور، الذي سيقودنا للهلاك.
الأنيمي لم يتحدث عن كل هذه الأمور التي تحدثت عنها هنا، ولكنه عالج مسألة ضعف الإنسان بدون وجود العلم، لهذا وضعنا أمام حقيقة مهمة، باستعمال نظرية "التاريخ البديل"، الذي يتناول الأحداث بإضافة صيغة "لو أن..".
فالحقيقة المهمة التي وضعنا أمامها، هي أننا لا نشعر الآن في حياتنا الراهنة بأهمية العلم، لأننا ننغمس في خيراته إلى أخمص قدمينا، لكن "لو أننا استيقظنا في عصر لا وجود فيه للعلم، دون أن نفقد الذاكرة طبعاً، ماذا سيحدث؟"
بالطبع، فنحن لا نستطيع أن نخلق الحضارة بسرعة، وفي رمشة عين، حتى ولو كنا نحمل في عقولنا كل النظريات العلمية، وهذا سيقودنا إلى حالة سيكو-أنطولوجية، سنتمنى بسببها لو أننا عدنا إلى عصرنا، الذي ينعم بخيرات العلم.
إن كان أسلافنا قد استطاعوا العيش بدون الوسائل المتطورة كالتي نملكها الآن، فهذا لن يُدخلهم في حالتنا السيكو-أنطولوجية، لأنهم لم يُجربوا الحياة التي جربناها نحن، وهذا ما يعيرهم بعض الراحة النفسية الوجودية.
لكن نحن، لن نتمكن من ذلك، لأننا قد جربنا حياة الرخاء بفضل العلم، لهذا سنجد صعوبة في تقبل الحياة البدائية التي قادنا إليها "التاريخ البديل". ومع ذلك فإن هذه الخشونة التي وُضعنا فيها جعلتنا نعيد الاعتبار للعلم.
أما المستوى الثاني، الذي يسعى الأنيمي من خلاله توضيح قيمة العلم، فيتعلق بالمشاق التي عاناها العَالِم ليصنع شيئاً ما.
لكن، لكي لا يتحرك هنا أحد بخبط عشوائي، يجب أن أوضح أمراً مهماً، وهو، عندما أتحدث عن العالم، فإنني أقصد أي شخص فكر لصُنع شيء مبدع، وهذا طبعاً ليس تعريفاً أكاديمياً.
التعريف الأكاديمي يقول بأن العالم هو الشخص الذي له إلمام بالنظرية العلمية، يقوم بالملاحظة المدروسة ويضع افتراضات مُعينة بشرط أن تكون مقبولةً علمياً ومنطقياً من ناحية التفسير، وبعدها يتأكد من فرضياته عن طريق تجارب مخطط لها.
لكن أنا هنا، قدمت مفهوماً واسعاً وتاريخياً للعالم، وذلك حتى لا أخرج عن نطاق الفهم المنهجي الذي يتبناه الأنيمي.
فحتى ولو كان مصطلح العالم مصطلحاً حديثاً، فإن تجسيده كما نقصده نحن هنا، سيشمل أي شخص في التاريخ البشري حاول أن يصنع شيئاً لتجاوز مشكلة حياتية، فمن صنع الرمح عالم، ومن صنع المحراث عالم، ومن صنع البيت عالم، ومن اكتشف طريقة إشعال النار بحجر الصِّوان أو بحك الخشب، أيضاً عالم، ومن قام بصنع البكرة لتسهيل رفع الأثقال، عالم، ومن قام بخلط الأعشاب لعلاج الأمراض، عالم أيضاً.
إذن، كل هؤلاء علماء، وهم من ساعدوا البشرية لتجاوز المشاكل البشرية والأزمات الطبيعية والكوارث المفاجئة، إنهم جميعاً قدموا إنجازاً، مازال بيننا شكلاً أو فكرة.
فكل هذه الإنجازات لم تحدث بسهولة أو في مرحلة واحدة أو حتى في مراحل متقاربة، وإنما جاءت مرحلة بعد مرحلة بصبر وشقاء واضحين، قد تصل الفترة بين مرحلة وأخرى قرناً أو قرنين أو أكثر، فبين صنع العربة وصنع السيارة آلاف السنين، ولكن لولا ظهور العربة ما كانت السيارة لتظهر، ولولا ظهور الرحى اليدوية لما ظهرة الطاحونة الريحية ولما ظهرت الطاحونة البخارية.
إن قيمة العلم على هذا المستوى إذن، تؤكد لنا بأن الهاتف الذي نحمله بين أيدينا لم ينبت من الأرض، وإنما حدث إنتاجه بمشقة وصعوبة ومراحل متتالية ضمت الكثير من إنجازات العلماء، الذين كان الفضول العلمي والحماس الطفولي يقودهم لصنع شيء جديد، إما لتجاوز مشكلة أو فقط لتبريد حرارة البراءة المتسائلة التي تواجه الطبيعة.
لقد عانى العلماء بعقولهم ليصنعوا شيئاً جديداً، ولأننا نحصل على هذه الأشياء بسهولة فإننا لا نبالي بما أنجزوه، ولا بما ضحوا به لأجل ذلك، فالكثير منهم تخلى عن الحياة الممتعة واختلى بنفسه ليُقدِّم للبشرية ما يرقى بهم ويساعدهم، وكم من عالم نُعت بالمريض والمجنون بسبب هذا.
لن نشعر بقيمة العلم إذن، إن لم يحدث معنا، ما حدث في هذا الأنيمي، لهذا إن شاهدناه بعقل مُتفتح على الأقل سنستطيع الشعور بتلك القيمة.
وكملاحظة، فإن وجهة النظر هنا، مخالفة لوجهة النظر التي وضعتها في المقال السابق، الذي يتحدث عن المشاكل البيئية التي سببها الإنسان بفعل العلم، وهذا الرأي الأخير هو نفس الرأي الذي يتبناه عدو الدكتور ستون في الأنيمي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.