قبل بضع سنوات، وبعد أن أنهيت المرحلة الثانوية، كنت أطمح إلى أن أدخل المعهد العالي للإعلام والاتصال، كي أحقق حلماً ورثته بالفطرة عن أمي في أن أصبح صحفية. كان هذا حلم طفولتي الذي وُلد داخلي، عندما كنت أرى بعض الصحفيات وهن يضعن قبعات وسترات واقية تحميهن من رصاص الغدر في مناطق الحروب والاشتباكات. وكانت تأسرني تلك المحادثات الجادة التي يجرينها مع ضيوف يرتدون رابطات عنق وبدلات جميلة وهم ينطقون كلمات، كان من الصعب أو من المستحيل أن أفهم معناها دون مساعدة.
لم أوفَّق في الالتحاق بالمعهد، لكن بقِي الحلم يراودني مدة طويلة، لكنني تخليت عنه حينما تأكدت أن كل خبر يخدم مصلحة ما، وأن الأخبار مجردة تماماً مما يؤمن به الصحفي، وأن كل ما نقرؤه ونراه هو سيناريو محبوك يمهد لحدث ما أو يبرر واحداً آخر، وحين تقرر أن تقول للباطل وأن الحق أصح ستُعدم أو تُهجَّر أو تختفي دون أثر.
فالإعلام العربي بعد أن كان رائداً ومنارة تشعُّ حقيقة، وهدفها الأول والأخير أن تُطلع المتلقي على ما يجري حوله، وكيف عليه أن يتصرف حيال مشاكله اليومية العادية أو الأخرى السياسية العميقة أو الثقافية والفنية الملهمة.
أصبح الإعلام الآن شبيهاً ببركة ضحلة يتجمع حولها البعوض، الإعلام المصري نزل مستواه وانحدر حتى صار سوقياً، يوافق ويشكر ويحيي ويدين ويشجب دون أن يناقش أو يحلل. رغم أن أبسط المواطنين تعليماً ومعرفةً يستطيع بوضوحٍ أن يعرف أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ. أما الإعلام السوري فمنفصل ومجزَّأ، كل جزء منه يرى أحوال الأرض السورية من منظور مختلف. ويأبى ضمير أي شخص حر إلّا أن يرحم أهل البلد الطيبة من الجحيم الذي يعيشون فيه، إلا أن الإعلام السوري جعل القضية برمتها بضاعة للرزق.
أما إعلامنا المغربي فيصدمك مدى بُعده عن الواقع، وإبحاره في فلكٍ وحده، فالبطالة وغلاء المعيشة وانعدام العدالة حقائق يخفيها الإعلام ويغطيها بسيل من أخبار افتتاح المنتجعات السياحية، ونشر كُتب لا فائدة منها، والإعلان عن مؤتمرات تناقش الميتافيزيقيا وما حولها. هذا قد نغفره، لكن ما لا نغفره أبداً، هو تعظيم التفاهة ورفع عدد مشاهدات الفضائح، والأخبار فارغة المحتوى والهدف.
على سبيل المثال، تصدَّر خبر خلع إحدى الفتيات "الكاردشيانيات" الحجاب بعد أن ارتدته، وأعربت عن ندمها لأفعالها المُخلَّة بالآداب ونشر صور مستفزة ومثيرة. كما تصدَّر خبر صدور أغنية لإحدى الراقصات التي تكنِّي نفسها باسم "شاحنة التحطيم" كثيراً من الصفحات الأولى للمواقع والصفحات. هذه كلها أخبار تتصدر عناوين المواقع الإلكترونية والجرائد المطبوعة. لكن لم يحدث قط أن تغطي إحدى هذه الصحف والجرائد أخبار اعتصام طلبة الطب، الذي دام مدة طويلة، مطالبين الدولة بإقرار تكافؤ الفرص ورفض وضع الأساتذة المتعاقدين.
نجح هذا الإعلام باختلاف جنسيته، في تأخير النضج المعرفي لدى الشعب، فأمتنا تعرف تفاصيل حياة الفنانين ومن يُدعون بـ "المؤثرين"، لكن لا أحد يعلم مشاريع القوانين أو القوانين التي تم التصديق عليها، وغالباً هي قوانين لا تخدم المصلحة العامة للشعب. واستطاع هذا الإعلام أن يخلّد تعزيز التفاهة ويجعلها أهمية قصوى في حياته. ومن المؤسف حقاً أن نجد الآباء غاضبين من لا مبالاة أبنائهم واستخدامهم للأجهزة الإلكترونية أغلب الوقت، وتمضية أوقات لا تنقطع على منصات التواصل الاجتماعي، ومع ذلك لا يضعون رقابة ممنهجة، بل كل ما يفعلونه هو تقديم توجيهات لفظية لا أقل ولا أكثر، فأصبحت الناشئة تحدد قدوات خاطئة بناءً على الشكل والتهور والثروة، ولا يكترثون أبداً للبُعد المعرفي أو الثقافي أو تجارب الحياة.
من الصعب تخيُّل بناء مجتمع واعٍ وقوي وهو لا يعير للتعليم اهتماماً، والأسوأ إلهاؤهم بصور متحركة وأشخاص لا يمتُّون إلى النجاح بِصلة، ومن الصعب أيضاً إنكار نظرية المؤامرة، فالأمَّة التي ترغب في تقدم أفرادها ستدرأ عنهم السوء ولو قليلاً، وهذا ما نراه منعدماً في مجتمعاتنا، فلا رقابة تُفرض على المحتويات، وغلبة التأثير أخذتها التفاهة والفضائح، والصحافة تسترزق على الهشاشة الفكرية والثقافية.
الصحافة الحرة أصبح جزاؤها القتل، والجمهور لا تجذبه الجدية بقدر تضييع الوقت والتفاهة والمزاح. نحن لا نواجه مشاكلنا، بل نخفيها رغم ما تسببه من آلام، وننتظر من السماء أن تنزل المعجزات كي يتحسن حالنا، ندعو ونبتهل ونتبادل التهم، ويحمّل بعضنا بعضاً المسؤولية، ولا جهد للتغيير.
وأنا لم يعد حلمي الصحافة بقدر أن أتخلص من كل هذا الهراء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.