صغيرتي أتمت عامها الأول، فالخامس من ديسمبر/كانون الأول، وُلدت لأم تونسية وأب فلسطيني جمعهما القدر ليمهد مجيء أجمل فتاة صغيرة ستحمل اسم "رفيف الفرات"، أفكر في ذلك ولا أكاد أصدق. أجل لقد مر عام منذ مجيئها إلى الدنيا، الأمر برمته أشبه بالحلم. الآن بعد أن أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي أنا ووالدها لا يسعني إلا العودة لمشاهدة صورنا القديمة قبل مجيئها حتى أتأكد أننا بالفعل كنا نعيش بمفردنا ومن دونها.
مجيئها قلب حياتنا رأساً على عقب، غيّر نظرتنا للحياة ولبعضنا البعض، بت أخاف على زوجي أكثر وأخاف على نفسي أكثر فأكثر، بالنسبة لي الآن.. من المهم أن أحافظ على صحتي وعلى قوتي وأن أطوِّر من نفسي كي أبقى ما استطعت بجانبها لحمايتها والتأكد من أنه لا مكروه سيصيبها ولا شيء سينقصها.
خبّأت لها العديد والعديد من الصور التي التقطتها طوال هذا العام شهراً بشهر ويوماً بيوم لأوثق أجمل مراحل تطورها ونموها، كأول ابتسامة خجولة بعمر الأربعين يوماً إلى أجمل قُبلة تعطيني إياها بالشهر الثاني عشر.
حملي بها في الشهور الأولى لم يكن سهلاً…تقيأت كثيراً وانتابتني رغبة دائمة لملازمة الفراش مع النفور التام من بعض المأكولات التي كنت أستمتع بتناولها سابقاً كالسلمون مثلاً، إلى أن انتقلت للشهر الرابع من الحمل، حينها بدأت علامات القيء والتعب تخف تدريجياً.
في النصف الثاني من الحمل كنت مرتاحة أكثر من ناحية الوحام والمزاج والحركة، لكنني كنت متعبة جسدياً من كثرة السفر والتنقل آنذاك. كنت أنتظر الوقت الذي سنستقر فيه في منزلنا، وقد حدث ذلك أخيراً، أكملنا جولتنا أنا وزوجي، وها نحن في المنزل مع نهاية الشهر السابع من الحمل.
منزل جميل، قطار يشق طريقه كل ساعة بجانب بحيرة على شكل قلب مع بطات لطيفات تسبح في جوفها كما تسبح ابنتي في جوفي، ماذا أريد أكثر من ذلك؟!
عند اقتراب موعد قدومها مع بداية الشهر التاسع بدأنا أنا وزوجي التفكير جدياً في اسم لها، لم أقرر بعد في ذلك الوقت اسماً أقتنع به بنسبة 100٪، رغم أنني أحب اسم رفيف جداً ولكنني فضلت إعطاء نفسي بعض الوقت علني أغير رأيي ومن ناحية أخرى أصر زوجي على اسم فرات تيمناً بنهر الفرات الذي عشقه في العراق حيث درس بالجامعة هناك وتعلَّق بالفرات.
كنا نحتد أحياناً من أجل فرض أحدنا اقتراحه على الآخر، لم أتنازل ولم يتنازل هو أيضاً، بقينا هكذا إلى أن أتت اللحظة التي ولدت بها في الأسبوع التاسع والثلاثين من الحمل، يوم الأربعاء، الخامس من ديسمبر/كانون الأول السنة الماضية، منتصف الليل وتسعة وثلاثين دقيقة أتت ابنتنا إلى الدنيا رغم تعبي الشديد آنذاك بعد أن فاجأني نزيف حاد استوجب إسعافي فوراً إلى المشفى ثم إلى غرفة العمليات وتحضيري لولادة عاجلة لم يتركني زوجي خلالها مطلقاً.. قد وثق أثناء تواجده معي مراحل الولادة منذ تجهيزي للعملية إلى لحظة سماع أول صرخة بكاء لابنتنا من خلال الصور ومقاطع الفيديو، وكأنه يباشر عمله، كيف لا وهو صحفي غطى أعتى الحروب في المنطقة فما باله بتغطية لحظة ولادة ابنته إلى الدنيا؟! حتماً لن يفوت ذلك على نفسه، ناهيك عن أنه بعد أن عاين كل مراحل الولادة ولاحظ مدى تعبي ومدى الإنهاك الذي أصابني ليلتها جراء الولادة المفاجئة في منتصف الليل رق قلبه وتنازل عن اقتراح اسم "فرات" كاسم أولي، وتوصلنا إلى حل وسطي ألا وهو تسميتها باسم مركَّب "رفيف الفرات".
قبل حملي وولادتي كنت أعاني من الأرق المزمن، لم أكن من أولئك البشر الذين ينامون مباشرة بعد وضع رأسهم على السرير حتى لو كنت منهكة جداً، لم أكن كذلك إطلاقًا ولا ليوم واحد، لكن المفارقة التي تفاجأت بها بعد ولادة ابنتي أنني أصبحت أغفو بكل سلالة ولا علم لي أصلا كيف غفوت ! ذلك المخلوق الصغير الذي ينام ويصحو ليرضع الحليب ثم ينام فوراً ليعاود الاستيقاظ، وهكذا سبب لي إنهاكاً لدرجة أنني أصبحت أغفو من دون وعي، وزوجي أيضاً عانى من هذه الحالة، فضلاً عن أنه هو من تكفل بتغيير الحفاضّات لها طيلة شهر كامل وتعقيم زجاجات الحليب بعد كل رضعة. كل ما أتذكره عن معاناة قلة النوم في الأشهر الأولى بعد مجيء رفيف الفرات، أنني ضحكت من نفسي كلما تذكرت قولي الدائم قبل الولاة "متى ألد يا الله كي أعوض قلة النوم هذه"، ذلك باعتبار أنني كنت أعاني قلة النوم أثناء النصف الأخير من الحمل بسبب كبر بطني وعدم قدرتي على التنفس جيداً واختيار وضعية مناسبة للنوم.. والآن بعد أن ولدت ورأيت بنفسي أن الأمنية الوحيدة للأم في الفترة الأولى من حياة الطفل أن تجد وقتاً للنوم أصلاً بتُّ أسخر من سذاجتي.
بعد ثلاثة أشهر من ولادتها، شعرت وكأن ثلاث سنوات مرت منذ مجيئها إلى الدنيا، مباشرة الأم لطفلها لمدة أربع وعشرين ساعة كفيلة بإعطائها ذلك الشعور. في الأشهر الأولى شعرت بقليل من الإحباط بسبب أن لا تجاوب من طرفها تجاهي، كنت مستعجلة لأرى أول ابتسامة لها حينما تراني وأول مرة ستبكي فيها لأنني غبت عن نظرها وأول مرة سترفع يديها لتطلب منِّي حملها، وغيرها من التفاصيل التي انتظرت أن أراها معها، والحمدالله قد رأيتها.
على سبيل المثال الآن بعد أن أصبحت ابنتي تنتبه لوجودي وغيابي عنها لتبدأ في بكاء هستيري لن يتوقف إلا إذا عدت، أصبحت أقول: "هل حقا كنت أنتظر اللحظة التي ستنتبه لي فيها إن غبت عنها!".
حياتي قد تغيرت تماماً بمجيء فراشتي الصغيرة… اكتشفت أن لديَّ قوة داخلية لم أدرك من قبل أنني أمتلكها، تعلمت أيضاً أنني لن أحتاج إلى ساعة بعد الآن؛ لأن طفلتي هي من تضع جدولي اليومي.
أصبحت أشعر بأن أي ألم تعاني منه طفلتي أسوأ بكثير من أي ألم قد يصيبني، وأن النظر إليها في المرآة أمر يستهويني أكثر من النظر إلى انعكاس وجهي حين أحملها، ولم أعد أشعر بالاشمئزاز من تغيير الحفاضات لها، في الواقع أصبحت مفتونة بذلك، وأهم شيء أنني أصبحت أنظر إلى والدَي الطفلِ الباكي وكأنني أقول "أعرف شعوركما" بدل تلك النظرة التي كنت أرمقها لهم من قِبل، والتي تقول "ألا يستطيعون إسكاته؟" حتى إنني أصبحت أخجل من نفسي لذلك.
لن أنسى أول حقنة تلقيح لها كيف دمعت عيناي لبكائها، ووالدها أيضاً انفطر قلبه وكأنما مكروه قد أصابها، وأول مرة جرح فيها ظفرها بعد تقليمه كيف انهرنا من الهلع، رغم أن الأضرار لم تكن سوى قطرة دم صغيرة.
في مراحل حياتها كلها سأكون بجانبها أنا ووالدها. وإن لم أكن سأحرص على أن تكون بمكان آمِن. لكن لن تنتهي عملية تطويرها لفكرها وذاتها في أي وقت. سيكون دائماً حبها للمعرفة واكتساب مهارات جديدة الدافع الإيجابي لها للبقاء.
إنه لشرف لي أن يعطيني الله مخلوقاً بشرياً لأعتني به وأحضّره ليكون فرداً من أفراد المجتمع، رفيف الفرات قطعة من الجنة أجابت عن جميع أسئلتي تجاه حياتي، حتى في اللحظات التي أكون فيها في أسوأ مزاجي تتحسن نفسيتي فور رؤيتها عكس الماضي حين يتعكر مزاجي وأكون بمفردي، لا أحد يستطيع إخراجي من تلك الحالة حتى زوجي رفيق دربي.
رفيف الفرات كما كتب عنها صديق والدها الأستاذ أبوتغلب الحمداني في قصيدة تقول: "رفيف الفرات طلت بميلادها *** شهق الصبح مبتهجاً ببهائها"، قد أضفت بهاء لا مثيل له لحياتي أنا ووالدها، وسأكافئها ما حييت على مجيئها وإنارة حياتنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.