إقدام البعض على الانتحار ليس جديداً، لكن في زمن سهولة وسرعة تبادل المعلومات يبدو كما لو أن الأمر مفاجئ وصادم للكثيرين، فهل تحول انتحار الشباب في عالمنا العربي إلى ظاهرة أم أنها حالات فردية لا علاقة لها بالسياق العام للمجتمع؟ ولماذا تنحصر الحالات بين المراهقين والشباب؟ وما أبرز أسباب الانتحار سواء كحالات فردية أو كظاهرة، وكيف يمكن معالجة تلك الأسباب؟
هل هي مجرد صدفة؟
على مدى أسبوع تقريباً، شهدت أربع دول عربية حالات انتحار. ناجي الفليطي شاب ثلاثيني من لبنان أنهى حياته بسبب عدم قدرته على تأمين أدنى متطلبات الحياة لطفليه وهو الطعام، فيما أنهى نادر محمد جمال الطالب في كلية الهندسة حياته بالقفز من برج القاهرة، وتزامن ذلك مع قيام الشاب عبدالوهاب الحبلاني بإحراق نفسه بمحافظة سيدي بوزيد التونسية بعد أن طُرد من عمله، وفي المغرب انتحرت شابة بتناول سم الفئران.
البعض يرى أن تلك حالات فردية والصدفة وحدها هي من جمعت الحالات الأربع في الفترة الزمنية ذاتها، مرجعاً تحول حالات الانتحار إلى ما يشبه الظاهرة إلى سهولة تناقل ونشر مثل هذه الأخبار في زمن منصات التواصل الاجتماعي.
الدكتور عمار علي حسن، الخبير المصري في علم الاجتماع السياسي، علق على الموضوع في حوار له مع موقع دويتش فيله الألماني بقوله إن حوادث الانتحار في العالم العربي ليست جديدة لكن الجديد هو نشر الحوادث في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرى حسن أن نسبة تلك الحوادث "ربما تكون قد زادت بسبب الأوضاع في العالم العربي التي أضفت طابعاً سياسياً على التأويل والتفسير".
هل هناك دراسات حول الانتحار في العالم العربي؟
صدرت دراسة أعدها "المركز العالمي للمرض" بعنوان "الإصابات المتعمدة في منطقة الشرق الأوسط" في الفترة من 1990-2015، كشفت عن زيادة نسبة حالات الانتحار في المنطقة بنسبة 100% في الربع قرن الأخير، لتصل إلى 30 ألف حالة في منطقتنا العربية، مقارنة بنسبة ارتفاع عالمية قدرها 19%.
المشرف على تلك الدراسة الدكتور علي مقداد، مدير قسم مبادرات الشرق الأوسط في معهد معايير وتقييم الصحة في جامعة واشنطن بسياتل، قال لموقع ميدل إيست مونيتور الأمريكي تعليقاً على مكتشفات الدراسة التي صدرت قبل نحو عامين إن "عدم الاستقرار في المنطقة يهدد جيلاً كاملاً من الأطفال والشباب بالضياع ملقياً بظلال قاتمة على مستقبل الشرق الأوسط".
القضية إذن ليست جديدة وأجراس الإنذار تدق منذ سنوات خصوصاً منذ اندلاع ثورات الربيع العربي قبل أكثر من تسع سنوات، حين انفتحت أبواب الأمل في التغيير أمام الشباب، لكن عدم حدوث تغيير فعلي وانسداد أفق التغيير في أغلب البلاد العربية زاد الأمور سوءاً.
ما أبرز أسباب الانتحار؟
خبراء الطب النفسي يرون أن الارتفاع الكبير في حالات الإصابة بأمراض نفسية وذهنية مثل التوتر والاكتئاب والاضطراب ثنائي القطبية والشيزوفرانيا، يمثل سبباً هاماً وراء زيادة حالات الانتحار بين الشباب العربي، وإن كان هذا الطرح في حد ذاته يثير تساؤلات تتعلق بطبيعة الثقافة السائدة التي تستبعد فكرة الانتحار على أساس ديني، فهل هناك تغير على هذا المستوى أيضاً أم أن هناك أسباباً أخرى لما يحدث؟
الدكتور عمار علي حسن يرى أن أسباب إقدام البعض على الانتحار تتنوع بين المرض النفسي والضغوط الاجتماعية والاقتصادية وأخرى متعلقة بخلافات عميقة داخل الأسر، "بجانب الأسباب السياسية المتعلقة بانعدام وانسداد أفق التغيير في وجه الشباب العربي والانكسار السياسي لديهم بعد أن عولوا كثيراً على الحراك والانتفاضات والثورات في تحسين حياتهم ومستقبلهم، لكن المسألة لم تتم على هذا النحو".
هل التركيز الإعلامي وقاية أم محفز؟
بعض من يرون أن حالات الانتحار فردية وليست جديدة يحذرون من أن تسليط الضوء إعلامياً على تلك الحالات ربما يكون عاملاً سلبياً في العلاج، حيث قد يشجع آخرين لديهم ميول انتحارية بالفعل.
الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي في الأكاديمية الطبية بالقاهرة، قال لدويتش فيله إن التركيز الإعلامي على حوادث الانتحار هو ما قد جعل الناس يلتفتون إلى الأمر، خاصة أن المنتحرين من الشباب صغيرو السن.
"بعضهم قد يبحث عن الشهرة وبعضهم يعاني من إهمال عاطفي أو إحباطات على مستويات حياتية معينة"، مؤكداً أن الأمر لم يصل بعد إلى حد الظاهرة، "وحتى تصبح كذلك يجب أن تصل نسبة الانتحار إلى 25% من الشباب في العالم العربي، وهذا لم يحدث".
ما معدلات الانتحار عالمياً؟
في تقريرها الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي كشفت منظمة الصحة العالمية عن تحول الانتحار إلى ظاهرة بعد أن أصبح يمثل ثاني أبرز أسباب الوفاة بين المراهقين والشباب من سن 15 إلى 29 عاماً، راصدة نحو 800 ألف وفاة بسبب الانتحار حول العالم.
التقرير أظهر أيضاً أن هناك الكثير يقدمون على الانتحار لكنهم لا يموتون حيث يتم إنقاذهم في اللحظات الأخيرة، ما يعني أن ضحايا الانتحار كان يمكن أن تكون أعدادهم أكبر بكثير، وتستأثر البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنحو 79% من حالات الانتحار في العالم، ما يشير إلى أن العامل الاقتصادي هو السبب الأبرز وراء حالات الانتحار.
كيف تنظر المجتمعات العربية للمرض النفسي؟
لا تزال النظرة الاجتماعية للمريض النفسي في المجتمعات العربية، خصوصاً بعيداً عن المناطق الحضرية، تتسم بأنها نظرة يشوبها الشك ويعتبرها البعض سبة أو أمر مشين للعائلة أن يكون أحد أفرادها يعالج على يد طبيب نفسي.
ويقول سمير مرقص الكاتب والمفكر السياسي المصري لدويتش فيله إن "المرض النفسي لا زال يُنظر إليه في مجتمعاتنا العربية على أنه عيب أو فضيحة أو شيء غير مقبول اجتماعياً، وهذا جانب من المشكلة وذلك على الرغم من أن الكل معرّض في وقت ما لمواجهة مثل هذا الأمر نتيجة الضغوط المجتمعية أو التطورات المتلاحقة".
ويؤكد الدكتور عمار علي حسن الأمر نفسه، مشيراً إلى أنه في السابق كانت حوادث الانتحار تقع لكنها لم تكن تسجل أو تتداول على أنها حوادث انتحار لأسباب دينية أو مجتمعية وإنما تسجل كحوادث طبيعية، "فلا أحد يحب الاعتراف بوجود مثل هذه الحوادث في المجتمع، لكن الأمر الآن اختلف بسبب وسائل التواصل الاجتماعي".
ماذا يمكن أن تفعل الأنظمة والمجتمعات؟
لمواجهة إقدام بعض الشباب على الانتحار، بغض النظر عن كون ذلك حالات فردية أو ظاهرة، لا بد للأنظمة في الدول العربية أن تنظر في الأسباب والتي تشير الحالات التي تم رصدها إلى أن أبرزها على الإطلاق الظروف المعيشية والاقتصادية، وهو ما يستدعي ضرورة إعادة النظر في برامج الإصلاح الاقتصادي لتراعي البعد الاجتماعي وتخفيف الأعباء المعيشية وتوفير فرص عمل حقيقية تفتح آفاق المستقبل أمام الشباب.
ففي لبنان، على سبيل المثال، لا يبدو حتى الآن أن انتحار الفليطي أدى لتغيير الطبقة السياسية لمواقفها ولو بشكل جزئي من أجل تسمية رئيس وزراء وتشكيل حكومة قبل انهيار الوضع الاقتصادي للبلاد بشكل تام، وهذا أمر يدعو للتساؤل حول مدى جدية الطبقة السياسية في العمل على الخروج من الأزمة وتحقيق مطالب الشارع.
صحيح أن الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان بمصر قد أعلنت عن تخصيص خط ساخن لتلقي واستقبال المكالمات من قبل الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة، ويقوم الخط باستقبال المكالمات من أي شخص في أي وقت، من خلال أخصائيين نفسيين مدربين في إطار الحملة التي أطلقتها بعنوان "حياتك تستاهل تتعاش" لمكافحة الانتحار، كما أطلقت دار الإفتاء المصرية حملة للتوعية بالمرض النفسي، لكن ماذا عن اتخاذ الخطوات العملية لمعالجة أبرز الأسباب وهي الجانب الاقتصادي؟
سمير مرقص يقول إن مسالة الانتحار لم تدخل بعد في حيز الاهتمام الكبير من جانب بعض الحكومات العربية؛ وذلك لجملة من العوامل "منها أنه حتى الآن ثقافياً ودينياً يعد الانتحار أمراً محرماً وغير مقبول ولا يوجد اعتراف بأنه كاد أن يتحول لظاهرة يمكن أن تمتد حتى إلى المجتمعات المتدينة أو المحافظة".
ويرى أن جزءاً من المشكلة هو مؤسسات التنشئة التقليدية منها المسجد والكنيسة والأسرة والجامعة والمدرسة والإعلام والتي يتلقى المواطن تنشئته المتنوعة من خلالها، وهذه المؤسسات ليس بها المساحة التي تعطي بعض الإدراك للجانب النفسي والذهني للمواطن وللشباب بالتحديد، بل إن الآباء والأمهات في المنزل أحياناً قد لا يدركون أن الأبناء لديهم مشاكل نفسية، وبعضهم إن علموا يرفضون الاعتراف بوجود تلك المشكلة لدى الابن أو البنت.