قلَّبت في التلفاز، فوقعت عيناي على قناة تعرض فيلماً سينمائياً عن الفنانة الإيطالية المصرية داليدا، التي توفيت سنة 1987، منتحرة بجرعة زائدة من الأقراص المهدئة، بعد أن تركت رسالة تحمل: "سامحوني.. الحياة لم تعد تحتمل"، اللافت أن ذلك تزامَن مع قراءة الخبر المتعلق بانتحار مهندس مصري من أعلى برج القاهرة.
في الواقع، ليس شرطاً أن يكون ضعف الإيمان سبباً في حدوث الانتحار، فقد يقرر إنسان متدين أن يُنهي حياته به!
الاكتئاب وجملة أخرى من الأمراض النفسية شأنها شأن أي مرض عضوي، يسطو على الجسد فينهكه، غير أنه لا يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع أقل مرض عضوي شهير بين الناس، رغم أنه الأخطر، لأنه يحرم الإنسان من الاستمتاع بملذات الحياة جميعها.
والأغرب فيه أن يصيب الجميع بمن فيهم الطبيب النفسي الذي يعالجه.
الانتحار وغيره من الظواهر النفسية يواجه في بلادنا بخطاب ديني بحت، ومن تجلياته تسطيح التعاطي مع الظاهرة ومن ثم الحكم القاصر، ولا أبسط من أن ننعت هذا بالقانت والكافر، وما إلى ذلك من أحكام.
على عكس بلاد الغرب الذين يقدرون العلم، ويحترمون فروعه وتخصصاته، بما فيها العلوم الإنسانية، وفيما يتعلق بظاهرة الانتحار مثلاً لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل أدخلوها في المعامل ليقفوا على أسبابها وتفسيرها وإيجاد أجوبة علمية خاضعة للقياس، ويحسب لعالم الاجتماع الشهير (إميل دوركايم) الذي يعد واحداً من أشهر تلاميذ (أوجست كونت) أنه نجح في فك طلاسم هذه الظاهرة بشكل كبير.
الموضوع كبير ومتشعب، لكني يهمني هنا أن أؤكد نفس النقطة التي أكدها كثير من علماء الاجتماع وعلماء النفس، التي تتمحور حول فكرة الاندماج المجتمعي، أي كلما كان الفرد أكثر اندماجاً في المجتمع، وتطلعاته وآماله وطموحاته مبررة بحسب قوانين المجتمع، ابتعد عن الانتحار، والعكس صحيح، ذلك أنهم بالأرقام تبين لهم أن الانتحار أقل في فئة المتزوجين من العزاب لوجود الأنيس والشريك، وفي حالات الحرب عن السلم؛ لأن الناس لا شعورياً في أوقات الحروب يتعاطفون ويتعاونون ويتآزرون.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين الاندماج المجتمعي؟ وما هي مغذياته؟ وأين دور الدولة بمؤسساتها الرسمية والمجتمعية من هذه الظواهر؟ وأين دور الأفراد في تعميق الحب؟
وبناءً عليه، إذا ما حكمنا على المنتحر بأنه مجرم، فإن من أبرز المشتركين في هذه الجريمة:
• كاتب وملحن ومغني أغنية "إحنا شعب وانتو شعب"؛ لدورها في تعزيز حالة التفتت الاجتماعي التي لم يألفها المصريون.
• ولي الأمر الذي صعَّب على الناس معاشهم، والأب المعقَّد في بيته، و المدرس الجاهل في مدرسته، والمحاضر المنفسن المعقد في جامعته.
• مَن حارب بث القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية بين الناس، وأسهم في إبراز المخبولين الذين يشوهون الدين عن عمد، ففتنوا الشباب وصدوهم عن السبيل، فمنهم مَن انحرف نفسياً، ومنهم مَن انحرف عقلياً، وقليل مَن صمد!
• مَن تفنن في وضع عوائق وتحديات في طريق الشباب الذي يريد الزواج، في ظل ضعف شديد للدور الثقافي والحياتي والحضاري بأهمية تيسير الزواج، خاصة في جوانب الذهب والمسكن، فتفشَّت الفواحش، وأرهقت نفسيات الشباب والفتيات على حد سواء.
النقطة المهمة هنا تتعلق بظاهرة التعاطف مع المنتحر، فالمنتحر قد ترك دنيانا والله أعلم بحاله ودوافعه، فالتعاطف في وجود الأحياء قد يعكس تساهل الناس في التعاطي مع ظاهرة الانتحار بما يقلل من بشاعة الجريمة في نفوس الآخرين، فيجعل الإقدام على الانتحار فكرة تراودهم كلما حلَّ بهم ضيق، لاسيما أن الانتحار في مصر بدأ يأخذ منحى مرعباً، فهو من الأمور الدخيلة على ثقافة المصريين، وهو في تطور وازدياد!
فالأصل أن نُحذر من الإقدام على الانتحار، وتبيين عاقبة أمره في الآخرة، بما لا يجعلنا أوصياء أو حكاماً على الناس، في إطار تقديم حلول وقائية لظاهرة من أخطر الظواهر الاجتماعية، سيما وقد انعدمت الحلول العملية، حيث شيوع اليأس وفقدان الأمل في غد مشرق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.