على مدار أجيال، كانت مياه النيل، أطول أنهار العالم، تروي القمح والأرز والذرة والباذنجان، الذي اعتادت عائلة المصري أحمد محمد زراعته بالقرب من مصب النهر على البحر المتوسط، لكنها نفِدت اليوم لديه. وقال محمد إنَّه حين كان طفلاً، كانت مياه النيل نظيفةً لدرجة أنَّه كان يستطيع الشرب منها مُباشرةً.
لكن المياه العذبة توقَّفت عن الوصول إلى مزرعته منذ ثلاث سنواتٍ تقريباً بسبب السدود والجفاف، والمزارع الصناعية الجديدة الضخمة، والمدن المبنيَّة بطول نهر النيل الذي يصل إلى 6.598 كم. والآن، صار يتعيَّن على محمد أن يستخدم مياه الصرف الصحي المُعالَجة في ريّ محاصيله.
النيل يتحوّل إلى عالة على المزارعين
قال محمد ذات صباحٍ، لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية: "بسبب الماء، ينمو نبات الذرة مصاباً بالسرطان"، مُستخدماً في ذلك مصطلحاً عامياً يُطلق على المرض الذي يمنع البذور من الإنبات. وبدأ يُفكِّر في بيع المزرعة، نتيجة قلقه من أنّ النيل لن يستطيع إعالة أسرته.
إذ تحوَّل النيل إلى ساحة معركةٍ بطول رحلته من الغابات الجبلية في وسط إفريقيا، وعبر أكبر المستنقعات في العالم، ومروراً بصحاري السودان ومصر الشاسعة. حيث بدأت الدول التي تقع قُرب منابع النهر، ودول الخليج الغنية، في استغلال النيل من أجل المياه والكهرباء أكثر من أيّ وقتٍ مضى. وهذا يعني تقليل المياه المُتوافرة لأكثر من 250 مليوناً من صغار المُزارعين، ورعاة الماشية، وسكان المُدن في حوض النيل.
وتُموِّل الدول الأجنبية بناء السدود، ومنها الصين ودول الجوار الغنية بالنفط مثل السعودية ودول الخليج الأخرى، وذلك من أجل ري المزارع الصناعية وتوليد الكهرباء. وازداد مؤخراً شحن المحاصيل المزروعة باستخدام مياه النيل إلى خارج إفريقيا، مثل دول الشرق الأوسط، من أجل إطعام الماشية على الأغلب،ى منها البقر الحلوب.
تصرُّفٌ "شبه مجنون"
وتحفَّزت الدول المُجهَدة مائياً على دعم زعماء مصر والسودان، من أجل تأمين حق زراعة المحاصيل باستخدام مياه النهر، ثم تصديرها. إذ إنَّ مصر والسودان من كبرى الدول المُستوردة للغذاء، رغم قدرتهما على الوصول إلى مياه النيل وامتلاكهما مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية.
وقال عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني الجديد: "إنَّ تصدير المحاصيل لإطعام الحيوانات الأجنبية، بالتزامن مع اقتراض المال لاستيراد القمح، تصرُّفٌ (شبه مجنون). فالأمر أشبه بتصدير المياه في الأساس، إذ يُمكننا زراعة القمح والتخلُّص من نصف فاتورة استيرادنا".
وتزايد نقص المياه الناجم عن النمو السكاني، والاحتباس الحراري، والتلوث في أمريكا الوسطى وغرب الولايات المتحدة والهند. ويعاني أكثر من نصف مُدن العالم عجزاً في المياه باستمرار، بحسب منظمة The Nature Conservancy الأمريكية غير الربحية. ففي عام 2018، فرضت مدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا قيوداً مُشدّدة على استخدام المياه، لتجنُّب الجفاف. في حين لم تُلبِّ مدينة تشيناي، خامس كبرى مُدن الهند، سوى ثُلثي احتياجاتها من المياه، العام الجاري، وسط موجة جفافٍ طويلة.
ويرتفع النيل في سلاسل جبال وسط إفريقيا، في حين تتدفَّق روافده عبر رواندا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي تدفُّقه إلى الشمال، يدخل النيل أرض بحر الجبل (السُدُّ) الرطبة في جنوب السودان، ويخرج إلى مناخاتٍ أكثر جفافاً. وبحلول الوقت الذي يصل فيه إلى حدود السودان، يصير معروفاً باسم النيل الأبيض، بسبب لون الرواسب التي يحملها. وبعد 442 كم في اتجاه التيار، ينضم النهر إلى النيل الأزرق -أكبر روافده- في العاصمة السودانية الخرطوم. وفي ذلك الموقع يتحوَّل إلى النهر الضخم، الذي غذَّى سهله الفيضي الغني مصر القديمة وروما الاستعمارية.
ورغم أنَّ النيل كان يحمل تاريخياً ما يكفي من المياه لتحويل مساحاتٍ شاسعة من الصحراء إلى أراضٍ زراعية خصبة، فإن المياه تنخفض إلى مُعدّلاتٍ هزيلة حين تصل إلى البحر المتوسط.
"ندرة مياهٍ شديدة"
وفي عام 2013، توقَّعت مجموعةٌ من باحثي الجيش الأمريكي بأكاديمية ويست بوينت العسكرية، أنَّ حوض النيل في طريقه إلى "ندرة مياهٍ شديدة بحلول منتصف القرن، مع تداعياتٍ إنسانية يُحتمَل أن تكون كارثية".
والتغيير الأكثر دراماتيكية والذي طرأ على النيل منذ عقودٍ، يحدُث في إثيوبيا الآن، حيث توجد منابع النيل الأزرق. إذ اتجهت إثيوبيا، التي تمتلك واحداً من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، إلى الصين من أجل تمويل مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير بـ4.2 مليار دولار، لتوليد الكهرباء. ولن يُوفّر السد، الواقع على بُعد بضعة كيلومترات من حدود السودان، المياه للمزارع والمدن، لكن خزانه الهائل سيُؤثّر في تدفُّق المياه.
وفي نهاية خط النهر، تشعر مصر بالقلق من أنَّ إثيوبيا ستُحاول ملء خزَّانها سريعاً بدءاً من العام المُقبل. والمسألة "مسألة حياةٍ أو موت بالنسبة للشعب، ولا أحد يستطيع المساس بحصة مصر من المياه"، على حد تعبير الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في خطابٍ مُتلفَز عام 2017. وقال المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، خلال مؤتمرٍ صحفي عُقِدَ في سبتمبر/أيلول، إنَّ "أيّ تحرُّكٍ لا يحترم السيادة الإثيوبية وحقوقها في استخدام سد النيل لن يلقى قبولاً".
انهيار الاتفاقيات الدولية حول النيل
ولطالما كان تشارُك مياه النيل محكوماً بالمعاهدات الدولية، حيث تحصل مصر على نصيب الأسد. ولأنّ إثيوبيا لم تكُن جزءاً من تلك المعاهدات، لذا لم تحصل على مخصصاتٍ من المياه على الإطلاق. لكن سد إثيوبيا العملاق أدّى إلى انهيار الاتفاقيات السابقة كافة.
والسودان مُحاصرٌ في المنتصف، إذ إنَّ غالبية المياه التي تتدفّق عبر البلاد مياهٌ مُخصّصةٌ بالفعل. وقال هاري فيرهوفن، مُؤلّف كتاب "المياه والحضارة والسلطة في السودان Water, Civilisation and Power in Sudan": "لا يملك السودان كثيراً من المياه المجانية فعلياً".
وتعتبر الولايات المتحدة السودان "دولةً راعيةً للإرهاب"، وتفرض عليها قيوداً مالية تزيد صعوبة إدخال وإخراج المُعدات والأموال من البلاد.
واتّجه البشير، الزعيم السوداني السابق، إلى المملكة العربية السعودية، من أجل الاستثمار والدعم المالي، إذ ركَّزت المملكة وقتاً طويلاً على تأمين إمداداتها الغذائية. لكن جهود زراعة قمحها الخاص، التي استمرت ثلاثة عقود، استنزفت احتياطيات السعودية من المياه الجوفية. لذا كثّف زعماء السعودية اهتمامهم بإمكانات السودان في زراعة محاصيل التصدير على مدار العقد الماضي.
وأوائل عام 2015، ضاعفت السعودية استثمارها في قطاع الزراعة السوداني ليصل إلى 13 مليار دولار، أي ما يُعادل ثُلث إجمالي الاستثمارات الأجنبية في الصناعة السودانية، بحسب تقرير شركة أبحاث Oxford Business Group البريطانية. وقال حمدوك إنَّه سيحترم تلك العقود المُبرمة، رغم اختلافه مع سياستها.
"نحن مُحاطون بالمزارع، لكنَّنا لا نأكل من ثمارها!"
وكان التفاوت بين محاصيل التصدير الخضراء التي رواها النيل والقرى الجافة واضحاً في المنطقة التي بدأت منها الاحتجاجات في ديسمبر/كانون الأول 2018، إبان نقص القمح على مستوى البلاد. ففي أحد أيام ذلك الشهر، خرج طلاب مدرسةٍ ثانوية فنية في عطبرة -المدينة المُحاطة بمزارعٍ تزرع المحاصيل لتصديرها إلى الخليج- لشراء الغداء؛ قبل أن يُفاجأوا بأنَّ أسعار الخبز تضاعفت. لذا جمعوا أموال الغداء، واشتروا إطار سيارة، وأشعلوا النيران فيه احتجاجاً، بحسب الفنان صلاح السير (28 عاماً)، الذي انضم إلى الاحتجاجات في عطبرة.
وقال السير إنَّ المُحتجين كانوا غاضبين بسبب أسعار الغذاء، وفقر فرص العمل، والقيود الاجتماعية، واقتصاد السودان المُحتضر. وأردف: "نحن مُحاطون بالمزارع، لكنَّنا لا نأكل من ثمارها!".
وبالقرب من عطبرة تقع بلدة جعلين، المُستعمرة الصحراوية الجرداء التي تُميّزها المنازل المُنخفضة، على بُعد كيلومترٍ تقريباً شرق النيل. وليس هناك الكثير في جعلين، إذ لا يُوجد طريقٌ يُؤدّي إلى البلدة أو أي شركاتٍ تجارية. في حين تُوفِّر شجرة السنط ملاذاً لأغنام القرويين القليلة.
وبعد امتدادٍ صخري بجوار القرية؛ تجري قناةٌ عميقة خضراء بالأعشاب الضارة، حفرتها قبل عقدٍ من الزمن شركة "تالا للاستثمار" السعودية. وتتدفَّق القناة من النيل على بُعد 16 كم وصولاً إلى مزرعة تالا، التي استأجرت أرضها من الحكومة.
وتزرع "تالا" المحاصيل للتصدير، وتزيد أرباحها بالاعتماد على "اليد العاملة الرخيصة" في السودان، بحسب موقع الشركة. وتمتلك "تالا" حالياً 17 منظومة ريٍ مركزية بالرش، تتحرّك كلٌّ منها في دائرةٍ عملاقة لتروي أكثر من 100 فدان. ويجري شحن البرسيم الحجازي (الفصفص) لـ643 كم براً إلى بورسودان، ثم 321 كم بحراً عبر البحر الأحمر إلى جدة السعودية، من أجل استخدامه في تغذية الحيوانات.
وحين وصلت "تالا" للمرة الأولى، قال مُديروها والمسؤولون المحليون لسُكّان جعلين، إنَّ فوائد المشروع ستعود عليهم، بحسب رجالٍ من القرية. إذ قال إبراهيم هاشم (45 عاماً)، راعي الغنم الذي يمتلك شارباً ضخماً: "لقد وُعِدنا بأن تمُرَّ قناةٌ مائيةٌ من هنا".
وقال الصادق محمد، الأمين العام لمجلس إدارة مشروع تالا الزراعي: "لم يكُن هناك اتفاقٌ مُلزِم بخصوص المياه مع المجتمعات المحلية".
ويعمل بعض مراهقي القرية مقابل بضع دولاراتٍ في اليوم داخل مزرعةٍ قريبةٍ أخرى، هي مزرعة Crown Agriculture المملوكة لمُستثمرين من باكستان والمملكة العربية السعودية والسودان.
وقال إرشاد أحمد، مُدير Crown Agriculture الذي جاء من باكستان ليُدير العملية، إنَّ المزرعة لن تكسب كثيراً من المال عن طريق البيع المحلي، "لأنَّ السكان المحليين فقراءٌ للغاية". وتُشحن غالبية محصول الفصفص إلى دبي، حيث يُستخدم لتغذية الخيول والجمال والبقر الحلوب. وأضاف إرشاد أنَّه يزرع حالياً قرابة أربعة آلاف فدانٍ ويُخطِّط للتوسُّع.
مصر.. 90% من المياه المُستخدمة في الزراعة مصدرها النيل
ويزداد الضغط على النيل مع تدفُّقه شمالاً في اتّجاه الحدود المصرية، حيث يدخل إلى بحيرة ناصر التي كوَّنها السد العالي في أسوان.
ويُستخدم السد لتوليد الكهرباء بصفةٍ أساسية. لكن المزرعة الصحراوية الشاسعة، أو مشروع توشكى في الغرب، تستغل احتياطي المياه. وهذا هو المكان الذي أقامت فيه السعودية والإمارات بعض أكبر استثماراتهما الزراعية داخل مصر على مدار العقد الماضي.
والاستراتيجية هنا واضحةٌ ومُباشرة، بحسب تركي فيصل الرشيد، مُؤسس شركة "الأعشاب الذهبية" الزراعية السعودية، التي استكشفت شراء المزارع في مصر والسودان. وقال: "حين تتحدَّث عن شراء الأرض، فأنت لا تشتري الأرض فعلياً، بل تشتري المياه".
وفشل مشروع توشكى في إنشاء عُشر الأراضي الصالحة للزراعة والتي كان مُخطّطاً لها في الأصل، بعد إطلاقه في التسعينيات، ويُعزى جزءٌ كبير من السبب في ذلك إلى سوء ظروف التربة. ولكن السيسي تعهّد بتوسيع المشروع.
وتستخدم البلاد قرابة 85% من مياهها العذبة في الزراعة، مُقارنةً بمتوسط 70% لدى بقية دول العالم. وتأتي نسبة 90% من المياه المُستخدمة في الزراعة من مياه النيل.
وحتى مع تخصيص كل تلك المياه لزراعة المحاصيل، لكن البلاد باتت تتجاوز الموارد المُتاحة بسرعةٍ كبيرة. إذ قال حسين جادين، الممثل السابق لمكتب منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو) في مصر، إنّ المشكلة مشكلةٌ سكانية. ومن المتوقع أن يرتفع عدد سكان البلاد بنسبة 20%، ليصل إلى 120 مليوناً عام 2030، و150 مليوناً عام 2050.
والوصول إلى المياه في مصر صار أمراً غير مؤكد بشكلٍ متزايد، إذ انخفض معدل استهلاك الفرد من المياه سنوياً إلى أقل من 24 ألف متر مكعب في السنوات الأخيرة، ومن المتوقع أن ينخفض إلى أقل من 18 ألف متر مكعب بحلول عام 2030، وهذا مُعدّلٌ يُعرف بأنَّه "ندرة مياهٍ مُطلقة"، بحسب الأمم المتحدة. والرقم المُقابل في الولايات المتحدة مثلاً يصل إلى 100 ألف متر مكعب للفرد سنوياً، أي ما يكفي لملء حمام سباحةٍ أولمبي.
التحكم الخليجي في الفدادين المصرية
وتتحكّم السعودية والإمارات في قرابة 383 ألف فدان من الأراضي المصرية، وهو امتدادٌ يُساوي ضعف مساحة مدينة نيويورك، بحسب مبادرة Land Matrix. والمحاصيل الرئيسية في تلك الأراضي هي الذرة والبطاطس والقمح والفصفص والشعير، والفواكه مثل العنب الذي يجري تصديره مرةً أخرى إلى وطنه. ولم يرُد المتحدثون باسم وزارة الموارد المائية المصرية أو السيسي على طلبات التعليق.
ويبدو أن الضغوط المُتراكمة على النهر صارت واضحةً في خطواتها الأخيرة. إذ صارت دلتا النيل، سلة الخبز المصرية المُترامية شمال العاصمة، تتزيّن بمجموعةٍ من قطع الأراضي التي تتراوح مساحاتها بين فدانين أو ثلاثة ويحميها جيشٌ من صغار المُزارعين. وفي السنوات الأخيرة، اشتكى عديد من أولئك الفلاحين بأنّ مياه النيل التي تجلب الحياة بدأت تنفد، أو باتت مُلوّثةً مما لا يسمح بزراعة المحاصيل.
وصار السيسي يبحث الآن عن مناطق جديدة لزراعة الغذاء. ففي عام 2015، أطلق برنامجاً لتوسيع الأراضي الصالحة للزراعة بـ1.5 مليون فدان، وستستفيد بعض تلك الأفدنة من مستودع المياه الجوفية النوبي، وهو المخزن القديم الذي لا بديل له في توفير المياه أسفل الصحراء الكبرى. وقالت شركة "تنمية الريف المصري الجديد"، التي تُدير المشروع، إنّ الشركات السعودية والإماراتية قدّمت عطاءاتها من أجل الحصول على أراضٍ في هذا المشروع.
وقال الرشيد، مالك المزرعة السعودية في مصر، إنَّ الزراعة بطول مجرى النيل تتعلّق ببناء النفوذ الإقليمي وتأمين الإمدادات الغذائية في الوقت ذاته، بالنسبة له ولغيره في دول الخليج. وأردف: "الغذاء هو السلطة المُطلقة".