تطورات الساحة السودانية بعد مرور قرابة عام من اندلاع الثورة لا تكاد تتوقف، فالمشهد لا يزال معقداً من عدة اتجاهات.. الأزمة الاقتصادية تراوح مكانها بل إنّ الوضع يزداد سوءاً، ومشكلة المواصلات العامة تفاقمت لدرجة أكبر لم تنجح معها كل الحلول الإسعافية التي وضعتها حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، ولا يزال اسم السودان موجوداً في قائمة الدول الراعية للإرهاب رغم حدوث تقدم في المفاوضات مع الولايات المتحدة في هذا الخصوص، وفق ما أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية تيبور ناجي.
سياسياً، لا يزال الجدل محتدماً على وقع عدة تطورات ميدانية، أبرزها توقيف السلطات الأمنية لعلي الحاج محمد، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي الذي يُعتقد أنه أحد شركاء الرئيس المخلوع عمر البشير في انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989، على وقع بلاغٍ جنائي قدّمته قوى إعلان الحرية والتغيير ضد منفذي الانقلاب العسكري المذكور على حكومة الأحزاب الديمقراطية.
الاعتقال جاء بعد تصريحات إيجابية لعلي الحاج في حق حكومة حمدوك
اعتقال الحاج أثار جدلاً كثيفاً في الساحة السياسية السودانية، خصوصاً أنه جاء بعد أيام قليلة من تصريحاتٍ مثيرةٍ للجدل أدلى بها الرجل لقناة أمدرمان الفضائية الخاصّة، إذ دعا فيها إلى تسليم البشير إلى محكمة الجنايات الدولية، كما وجّه خلال المقابلة رسائل إيجابية إلى ائتلاف الحرية والتغيير الحاكم من ضمنها أنه يعتبر حزبه "المؤتمر الشعبي" أقرب إلى قوى الثورة، وأن الحرية التي يجدها في عهد الحكومة الحاليّة أفضل بكثير من الحريات التي كانت سائدة في عهد المخلوع!، أما النقطة التي أثارت سخطاً كبيراً على الرجل فهي إشادته بالعلمانية التي قال إنها "رحمة ونعمة". فهذه العبارة بالتحديد لم يتقبلها حتى قيادات حزبه ذي التوجّه الإسلامي المناهض للعلمانية.
لم تمض ساعات على اعتقال الحاج إلا وخرجت عدة تصريحات من حزب المؤتمر الشعبي أحدها على لسان الأمين السياسي إدريس سليمان، هددّ فيها بالتصعيد في مواجهة الحكومة الانتقالية قائلاً إن كافة الخيارات مفتوحة أمام المؤتمر الشعبي لرفض التعدي على قيادته، بحسب وصفه، وقال: "إذا تطاولت الإجراءات ضد علي الحاج أو تم اعتقال السنوسي سنصعد العمل السياسي بالندوات والمظاهرات وقد نذهب الى إسقاط الحكومة".
نلفت إلى أن أوامر الاعتقال الصادرة بموجب البلاغ يفترض أن تشمل إلى جانب الأمين العام للمؤتمر الشعبي علي الحاج، رئيس مجلس شورى الحزب إبراهيم السنوسي لكنه لا يزال طليقاً، حيث وصل مقر الحزب وحضر المؤتمر الصحفي دون أن يدلي بأي تصريح.
وعلى صعيد ردود الفعل الأخرى، خرجت تصريحات أخرى من رموزٍ محسوبةٍ على تيارات الإسلام السياسي، أبرزهم رئيس المؤتمر الوطني "الحاكم سابقاً" إبراهيم غندور الذي قال إن حزبه يدين اعتقال الأمين العام للمؤتمر الشعبي، كما يدين اعتقال قيادات الحزب دون إدانة أو تقديمهم إلى محاكمة، معلناً الوقوف ضد ما أسماه الظلم والتعسف وتسييس العدالة أيا كانت الضحية. حسب وصفه.
الشعبي كان مشاركاً في حكومة البشير إلى آخر لحظة
أما أكثر الأشخاص هجوماً على الحكومة الانتقالية فهو الطيب مصطفى "خال الرئيس المخلوع البشير" والذي يشغل منصب رئيس منبر السلام العادل المحسوب على الإخوان المسلمين، انتقد خطوة اعتقال علي الحاج بشدة، مشيراً إلى أنه "كان في الخارج يوم تنفيذ انقلاب الإنقاذ في 1989، ثم كان من القيادات الإسلامية التي اختلفت مع البشير وأسست حزب المؤتمر الشعبي، الذي كان جزءاً من تحالف المعارضة ضد البشير". حسب وصف مصطفى الذي يتجاهل أن الشعبي كان شريكاً وجزءاً من نظام البشير حتى سقوطه فجر الـ11 من أبريل/نيسان الماضي!
فقبل شهرين فقط من سقوط نظام المخلوع البشير بأمر الشعب السوداني، كان عدد ضحايا الثورة يزيد عن 70 شهيداً وعدد المعتقلين تجاوز 3000 من الشباب والنساء والرجال ومنهم مسنون وأطفال، وارتفع عدد الجرحى والمصابين إلى أكثر من 7000 باعتراف وزارة الصحة، في تلك الأيام التي كانت فيها مليشيات النظام تقتحم المنازل والجامعات للتنكيل بالشباب العزل، كان هذا تصريح الراحل محمد الأمين خليفة عضو الهيئة القيادية بالمؤتمر الشعبي تجاه الثورة والثوار:
- أسسنا الإنقاذ ولن نترك السفينة تغرق
- لن نترك السفينة تغرق.. لأنها إذا غرقت سنغرق جميعاً
صحيح أن شباب المؤتمر الشعبي شاركوا بفعالية في التظاهرات والاعتصامات ضد نظام البشير، ومنهم من قدّم حياته فداءً للثورة مثل المعلم أحمد الخير الذي قُتل بأبشع طريقة لم يفعلها حتى أعداء الإسلام ناهيك عن جماعة تدعي أنها تحكم بالشريعة الإسلامية!. ولكن هؤلاء الشباب لم يشاركوا في الثورة ضد نظام البشير لأنهم ينتمون إلى المؤتمر الشعبي فموقف قيادتهم من الثورة كان متخاذلاً كما أوضحنا بالأعلى، لكنهم كانوا مؤمنين بالقضية العادلة للثوار.
وبالعودة إلى الطيب مصطفى، نجد أنه اتخذّ هو الآخر موقفاً عدائياً من الثورة منذ انطلاقتها نهاية العام الماضي، فهو كان يرى المظاهرات مجرد احتجاجات بسيطة على الأوضاع الاقتصادية يسعى الشيوعيون لركوب موجتها، وبعد أن فوجئ بنجاح الثورة أصبح يكيل الاتهامات لقوى الحرية والتغيير ثم للحكومة الانتقالية التي يصفها بحكومة "الشيوعيين واليساريين والعلمانيين"، ولا يرى أي جانب مشرق لها.
عقدة تاريخية اسمها "الحزب الشيوعي"
الطيب مصطفى لديه عقدة تاريخية من شيء اسمه شيوعيون ويساريون، لا يمكنه أبداً النظر إلى المواقف المشرفة للحزب الشيوعي الذي ظلّ يدعو الحكومة الانتقالية لسحب القوات السودانية من اليمن، ويتهم بشكلٍ صريحٍ دولتي الإمارات والسعودية بـ"التآمر لاجهاض الثورة السودانية" منادياً بالتطبيق الكامل للبند السابع من إعلان الحرية والحرية والتغيير الذي نصّ على "تحسين علاقات السودان الخارجية وبناؤها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور"، كما أن الشيوعي يرفض التصالح مع القادة العسكريين المتهمين بالتورط في مجزرة القيادة العامة، بعكس خال البشير الذي يُكثر من تملّق المشتبه بهم باعتبارهم الأقرب له، فهُم في نهاية المطاف أعضاء اللجنة الأمنية لنظام البشير ولم يطيحوا به إلا بعد أن أُجبروا تحت الضغط الشعبي.
تهديدات جوفاء من قادة الشعبي
إذا أردنا أن نُقيّم التهديدات التي أطلقها قادة المؤتمر الشعبي بعد اعتقال أمينهم العام علي الحاج بتنظيم تظاهرات وحراك سلمي يُفضي إلى إسقاط الحكومة الانتقالية، نجد أن الحزب لا يمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة على الأرض شأنه شأن المؤتمر الوطني وكل الأحزاب والتيارات المحسوبة على الإخوان المسلمين، فالسواد الأعظم من الشعب السوداني كَفَر تماماً بالإسلام السياسي وجماعاته فهي في نظر الأغلبية تنظيمات "كيزانية" فاسدة تستغل الإسلام لمصالحها الحزبية الضيّقة، ولو كان لهذه الأحزاب والتيارات أي تأثير لما سقط نظام المؤتمر الوطني ولما خرجت ضده تلك الأعداد المهولة من السودانيين.
اعتقال علي الحاج لم يكن موفقاً لهذه الأسباب
ومع كل ذلك نعتقد أن اعتقال علي الحاج لم يكن موفقاً في نهاية المطاف، ونرجو من السلطة الحاكمة في السودان خاصة الأجهزة العدلية، أن تعيد النظر في التعامل مع الأفراد المدنيين في بلاغ انقلاب 1989، ذلك لأن محاكمة هؤلاء يمكن أن تؤدي إلى المزيد من الاحتقان في الساحة السياسية، وكذلك يجب مراعاة التصريحات الإيجابية الأخيرة التي أطلقها علي الحاج في حواره مع قناة أمدرمان والتي اعتُبرت مهادِنة لائتلاف الحرية والتغيير الحاكم، فاعتقال الحاج من شأنه أن يوحّد تيارات الإسلام السياسي في مواجهة الحكومة الانتقالية التي يقودها رئيس الوزراء حمدوك، وبالفعل تضامنَ مع علي الحاج في محنته الطيب مصطفى رئيس منبر السلام العادل رغم أن الأخير هاجمه قبل يومين فقط إثر تأييد زعيم الشعبي لتسليم البشير إلى محكمة الجنايات الدولية، وأذكر هنا أن مقال الطيب مصطفى في صحيفة الصيحة جاء فيه "إن قلوب الإسلاميين تتوق للتلاقي لمواجهة "حملات الدفتردار الانتقامية"، وكأنّي به يقول الآن لعلي الحاج بعد اعتقاله: "ألم أقل لك؟"
في مسألة العدالة الانتقالية.. بدلاً من ملاحقة علي الحاج وغيره من السياسيين، يجب على الحكومة الانتقالية أن تضع الأولوية الآن لمحاسبة مرتكبي مجزرة القيادة العامة أو مجزرة الخرطوم كما يسميها الإعلام الغربي، فهذه المجزرة التي راح ضحيتها نحو 120 شاباً، وحدثت فيها انتهاكات مروعة مثل التعذيب والاغتصاب والتمثيل بالجثث تستحق أن يقدم مرتكبيها للقضاء اليوم قبل الغد، وكل الأدلة متوفرة بالصوت والصورة والفيديو ضد الجُناة وضد قيادة وأعضاء المجلس العسكري المحلول الذين هم في المجلس السيادي الآن، فضلاً عن أن تحقيق هيومان رايتس ووتش الصادر قبل أيام أكّد أن فض الاعتصام تم التخطيط له على أعلى مستوى، وأن التحقيقات الجارية في الخرطوم الآن يجب أن تشمل ميليشيا الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو "حميدتي" شخصياً، إضافة إلى قيادات المجلس العسكري المحلول من رئيس المجلس السيادي حاليّاً عبدالفتاح البرهان ومن معه من الأعضاء العسكريين.
عودة الإسلام السياسي لحُكم السودان مستحيلة
هذا بالطبع إلى جانب قضايا الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يُتهم رموز النظام البائد ومليشياته بارتكابها في إقليم دارفور وبقية أنحاء البلاد طيلة الـ30 عاماً الماضية، وكذلك انتهاكات الأجهزة الأمنية بحق العزل طيلة شهور الثورة السودانية، أما اعتقال علي الحاج وقيادات الشعبي فلا نرى أنه مُجدٍ وذو أولوية في هذه الطروف، رغم أن كثيرين لن يعجبهم حديثنا هذا وقد يعتبرون أننا نتعاطف مع رموز "الكيزان"، والكيزان لمن لا يعرفهم لفظٌ يُطلق في السودان على المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين بكل تياراتها المختلفة.
احتمالية أن يعود النظام السابق أو إحدى الجماعات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي لحكم السودان بثورةٍ شعبيةٍ مضادةٍ من رابع المستحيلات، أما إذا فكّر هؤلاء أو الأعضاء العسكريون في مجلس السيادة الحاليّ بتنفيذ انقلاب عسكري على الحكومة الانتقاليّة بدعوى فشلها في تحقيق تطلعات السودانيين، فإن الأمر سيكون أشبه بالانتحار السياسي، إذ لن يقبل الشعب السوداني بذلك، وبالطبع لن يحصل الانقلابيون على اعترافٍ دوليٍّ إلا ربما من قادة الدول الداعمة للثورات المضادة "السعودية، الإمارات، مصر"، والتي كانت تتمتع بعلاقاتٍ قويةٍ مع النظام البائد، وكانت أول من اعترف بالمجلس العسكري المحلول ظناً منها أنه قد امتلك زمام الأمور في السودان.
الطريق الثالث هو الحل للعبور بالبلاد
التوافُق على الحد الأدنى مطلوبٌ من جميع القوى السياسيّة السودانية، وفي هذا الإطار صدرت تصريحات إيجابية من بعض قيادات ائتلاف الحرية والتغيير الحاكم ومقربين منه، أبرزهم القيادي السابق بالحزب الشيوعي الشفيع خضر الذي دعا إلى توافق السودانيين حول مشروعٍ وطنيٍّ، وﺭﻫﻦ خضر ﻋﺒﻮﺭ ﺍﻟسودان ﻟﻠﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﺑﺎﺟﺮﺍء ﻣﺴﺎﻭﻣﺔ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺗﻠﺒﻲ ﻁﻤﻮﺣﺎﺕ ﺍﻻﺳﻼﻣﻴﻴﻦ ﻭﺃﺣﺰﺍﺏ ﺍﻟﻴﺴﺎﺭ.
وهذا هو الطريق الثالث الذي ندعو إليه، التوافق بين طرفي الصراع "يساريين وإسلاميين"، وعدم استعداء المحسوبين على جماعات الإسلام السياسي في السودان ككل، حتى لا تضيع الفترة الانتقالية في مماحكاتٍ وصراعاتٍ ضيّقة مع أُناسٍ صدر في شأنهم حُكم التاريخ كما قال القيادي الإسلامي غازي صلاح الدين قبل فترة بسيطة، فالأولويات يجب أن تكون للقضايا العاجلة مثل الأزمة الاقتصادية وحل مشكلة المواصلات والخدمات الضرورية مثل الصحة والتعليم. وفي الملف العدلي هناك قضايا أكثر إلحاحاً مثل إكمال التحقيقات في مجزرة القيادة العامة لتقديم المتورطين فيها إلى القضاء، وغيرها من القضايا المهمة، أما ملف انقلاب عام 1989 فلا ننكر أهميته ولكن نقترح فقط تأجيله لحين العبور بالبلاد إلى بر الأمان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.