القاتل المتسلسل عادةً ما يكون شخصاً غير اجتماعي، ولا يميل إلى الظهور بشكل بارز كقائد، أو فارس. لكن المارشال الفرنسي غيل دي ريز كسر هذه القاعدة منذ ما يقرب من 6 قرون؛ فالدارس لتاريخ أوروبا في نهايات القرون الوسطى يعرف جيداً من هو غيل دي ريز، الذي ظلت الألسنة الفرنسية تشيد به، حتى أغرقوه باللعنات.
المارشال غيل دي ريز اعتبرته بعض المصادر التاريخية واحداً من أوائل السفاحين -قبل أن ينشأ مصطلح "القاتل المتسلسل"- الذين لم تنجب البشرية من هو أكثر منه شراً. فلنتعرف على قصة الرجل الذي اتُّهم ببيع روحه للشيطان.
بدايات غيل دي ريز.. من الطفولة إلى البطولة
في الرابع من سبتمبر/أيلول عام 1404م، وُلد غيل دي ريز Gilles de Rais بفرنسا لأبوين من الطبقة فوق المتوسطة، ولكن قبل أن يبلغ عامه الرابع تُوفيا وتركاه هو وشقيقه في رعاية جدهما "جان دي كارو" الذي كان قريباً من دوائر النبلاء في تلك الفترة.
رغب جده بشدة في تزويجه بإحدى فتيات الطبقة الملكية؛ طمعاً في دفع الحفيد إلى عالم النبلاء والأمراء، ولكن الفتى كبر ودرس الفنون العسكرية وأتقن اللاتينية، وزادت معارفه حتى تحققت رغبة جده، وتزوج بإحدى دوقات فرنسا الصغيرات، وهي "كاثرين دي ثوراس" دوقة مقاطعة بريتاني Brittany.
بعد ذلك ترقَّى بين طبقات النبلاء، وشارك في إدارة إحدى المقاطعات وهو لا يزال بعمر 21 عاماً فقط. وبحلول عام 1425، التحق بالقصر الملكي الفرنسي، لتعليم الملك تشارلز الخامس قواعد مجلس العدل.
غيل دي ريز برفقة الأسطورة الفرنسية جان دارك
في هذه الفترة من تاريخ أوروبا، كانت فرنسا تعاني صراعاً شبه دائم بينها وبين جارتها العريقة بريطانيا؛ فيما عُرف بحرب المئة عام؛ وهي عبارة عن صراع طويل بين فرنسا وإنجلترا، وقد دام 116 سنةً من 1337 إلى 1453، حاول خلالها حكام بريطانيا الاستيلاء على فرنسا؛ إيماناً منهم بأحقية بريطانيا في حكمها.
وفي عام 1429، برز دور إحدى بطلات المقاومة الفرنسية، والمعروفة باسم جان دارك Joan of Arc، وهي لم تكمل عامها التاسع عشر بعد؛ والتي هبّت للدفاع عن فرنسا وادَّعت أنها تستقبل وحياً إلهياً من خلال أحد الملائكة المذكورين في الكتاب المقدس الكاثوليكي، وكانت لها انتصارات عسكرية فاقت سنوات عمرها وخالفت بنات جنسها آنذاك واللاتي لم يكنّ يشاركن عادة في الحروب.
وبينما كانت المعارك الطاحنة تدور في فرنسا، كان المارشال (بعد ترقيته) غيل دي ريز يقف في الميدان كتفاً بكتف مع جان دارك الشجاعة؛ التي سرعان ما تكالبت عليها القوات وأُسرت، واتُّهمت بإحدى أكثر التهم الشائعة آنذاك: ممارسة السحر، وأُعدمت جان دارك حرقاً، ولكن فيما بعدُ أعلنتها الكنيسة الكاثوليكية قديسةً.
غيل دي ريز.. التمرد والعزلة بداية طريق الدم
مع حلول عام 1430، كان غيل دي ريز قد اكتسب مزيداً من الثروة والنفوذ؛ وبدأ في إنفاق المال ببذخ، واعتزل الحياة العسكرية، ولكن الثروة الهائلة التي كوَّنها بدأت تتلاشى رويدا رويداً؛ وبدأت أحواله تنحدر إلى الأسوأ، خاصة بعد وفاة جده، وتحالُف أخيه مع نبلاء فرنسا ضده.
عام 1435، كان المارشال سابقاً غيل دي ريز يصارع الديون، وأشهر إفلاسه، ولكنَّ شهرته الواسعة وحُب الطبقات الفقيرة له؛ نظراً إلى مساعدته المستمرة لهم، جعلا الأمور تسير في مصلحته بعد أن تلاعب بأحد النبلاء، للاحتفاظ بقصره قبل أن يباع وسط الديون المتراكمة.
وبعد العزلة والإفلاس بدأ غيل دي ريز بالتعرف على رجل إيطالي غامض يُدعى "فرانسوا بيلاردي"، قيل إنه يعمل بالخيمياء "علم قديم يعتمد على مزج المعادن، وارتبط قديماً بالسحر"، وازداد انعزاله وبدأت الشائعات تزداد حوله في أرجاء المقاطعة وبين الفلاحين، ومن بين أشهر الإشاعات التي دوَّنتها المصادر التاريخية وقتها، أنه اشترك والخيميائي الإيطالي في ممارسة السحر، وأنهما استعانا بشيطان من العالم السفلي يدعى "بارون"، كان يعاونهما في تصنيع الذهب واستمالة الضحايا الذين كانوا ثمن الصفقة مع الشيطان.
سقوط دي ريز.. من بطل إلى سفاح في صفحات التاريخ
بين أعوام 1431 و1339، قُتل غيل دي ريز ما بين 40 و200 طفل من الجنسين، وفيما بعدُ اتُّهم بالتمثيل بالجثث بأبشع الطرق وممارسة الجنس الشاذ مع الضحايا؛ إرضاءً للشيطان الذي كان يخدمه. وفي عام 1440، قالت بعض المصادر إنه حاول استحضار الشيطان الخادم مرَّة أخرى، ولكنه فشل فأغرى أحدَ الأطفال وقته وحفظ أطرافه في قبو قصره، ولكن أهل الضِّياع المحيطة به تجمَّعوا وبحثوا عن الفتى المختفى؛ ومن ثم اقتحموا القصر وسقط غيل دي ريز في قبضة رجال الحكم.
وبعد أن فتح أحد الأساقفة الكاثوليك تحقيقاً حول دي ريز وجد بقايا الجثث، وكتب عريضة اتهام فيها كل ما سبق ذكره؛ وقدَّمها إلى السلطات، التي اتهمت دي ريز بممارسة السحر، وأُعدم حرقاً في العام نفسه (1440).
وبرغم أنه لم توجد وقتها أية أدلة دامغة وواضحة للعيان تثبت جرائم غيل دي ريز؛ فإن العامة لم يكن لهم أن يكذِّبوا سلطات الكنيسة الكاثوليكية وقتها، وبدا أنهم نسوا تماماً وقوف المارشال دي ريز بجوارهم قديماً، ولم تبقَ من سيرة غيل دي ريز سوى تهم القتل وسفك الدماء، وممارسة السحر.