قبل شهر اندلعت في لبنان احتجاجات شعبية لها طبيعة خاصة في أسبابها ومطالبها، وسرعان ما تحولت الانتفاضة إلى ثورة شعبية تحت راية لبنان، فماذا حقق الحراك الشعبي في شهره الأول، وما أبرز الملاحظات التي توقف عندها المراقبون والمحللون لتلك الاحتجاجات التي تعتبر الأولى من نوعها بإجماع الآراء؟
لماذا هتاف "كلن يعني كلن" تاريخي؟
انتفض اللبنانيون احتجاجاً على فرض الحكومة ضريبة على محادثات تطبيق واتساب، كان ذلك مساء الخميس 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولكن سرعان ما كشف الحراك الشعبي أن تلك الضريبة لم تكن سوى قمة جبل الجليد، حيث ارتفع شعار "كلن يعني كلن" تعبيراً عن المطالبة بإبعاد الطبقة السياسية التي تحكم لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 برمتها.
هذا الهتاف في لبنان حدث تاريخي، حيث إن التركيبة السكانية التي تضم 18 طائفة أفرزت أحزاباً وتكتلات سياسية طائفية لها ارتباطات إقليمية وحسابات شكلت السياسة اللبنانية على مدار التاريخ، وتكرست باتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وشهد توزيع المناصب على أساس طائفي، في شكل رئاسات ثلاث: الجمهورية مسيحي ماروني، والحكومة مسلم سني، والبرلمان مسلم شيعي، وبالتالي انشغلت الأحزاب والطوائف بتكريس نفوذها على حساب المصلحة القومية لكل الشعب اللبناني، وانعكس ذلك بشكل بارز على الظروف الاقتصادية التي ظلت تتدهور دون توقف حتى وصلت إلى ما وصلت إليه وأدت لاندلاع الثورة الشعبية.
ماذا يعني وجود "جيل عابر للطائفية"؟
هذا السياق يوضح كيف أن رفض اللبنانيين للطبقة السياسية برمتها والنظام السياسي الذي أفرز تلك التركيبة السياسية أمراً لافتاً بالفعل بل وتاريخي، حيث إنه للمرة الأولى تشهد جمع مناطق لبنان مظاهرات رافعة علم البلد ومرددة هتافات موحدة ضد الفساد والفاسدين دون استثناء سياسي أو طائفة أو حزب، وهذه النقطة هي أبرز إنجازات الشهر الأول من الحراك.
وهذا ما عبر عنه أسعد بشارة، كاتب ومحلل سياسي، لوكالة الأناضول بقوله: "17 تشرين الأوّل كان موعداً للتغيير الجذري من دون تخطيط أو إدارة من أيّ من القوى السياسيّة.. كانت ثورة شعبيّة تحمل في طيّاتها أهدافاً وطنيّة تحت عنوان (بناء الدّولة) واستعادتها من الذين خطفوا لبنان إلى الفشل والفساد".
"الإنجازات التي حقّقتها الثورة خلال هذه المدّة الزمنيّة كبيرة وكثيرة، والإنجاز الأوّل هو بروز طبقة شعبيّة عابرة للطوائف خرجت من الولاءات القديمة ودخلت في فكرة المواطنيّة، وهذه الطبقة التي ولدت هي الطبقة الأهمّ لبناء لبنان الذي يستحقّه اللّبنانيّون، لاسيّما أنّها تحمل روح الشباب الذين لا ينتمون إلى جيل الحرب، ويريدون طيّ صفحة الحرب وآثارها، فالحرب العسكريّة في لبنان انتهت عام 1990، لكنّ الحرب الباردة بين اللّبنانيّين استمرّت حتى تاريخ 17 تشرين الأوّل".
لماذا إسقاط الحكومة إنجاز ضخم؟
من المهم هنا العودة للسبب الذي وحد اللبنانيين وهو العامل الاقتصادي والظروف المعيشية الصعبة في بلد بلغت ديونه الخارجية أكثر من 150% من ناتجه المحلي السنوي، ويعاني أكثر من 37% من شبابه من البطالة والخدمات الأساسية به من كهرباء ومياه شرب وغيرها شبه منهارة وتكلفتها أغلى من نظيرتها ليس في المنطقة فقط بل ربما في العالم، وهذه الظروف وحدت الجميع وأنستهم لأي طائفة أو حزب أو ديانة ينتمون، فالطبقة السياسية الحاكمة الممثلة لتلك الطوائف يتمتع أصحابها بالنفوذ والثروات الضخمة، بينما المنتمون لتلك الطوائف يعانون دون أمل في تحسن الأحوال.
في هذا السياق تعد استقالة الحكومة برئاسة سعد الحريري وإصراره على تشكيل حكومة من الاختصاصيين بعيداً عن المحاصصة السياسية والطائفية (مطلب الحراك الأساسي) إنجازاً ضخماً بكل المقاييس للحراك الشعبي.
ممثل العسكريين المتقاعدين في "هيئة تنسيق الثورة"، العميد المتقاعد جورج نادر يرى في تقرير لصحيفة الشرق الأوسط اليوم الإثنين 18 نوفمبر/تشرين الثاني، أن السلطة حالياً في وضع مأزوم، وهو ما يتجلى في طريقة تعاطيها مع الملف الحكومي، لافتاً إلى أن الهدف الأبرز للثوار في المرحلة المقبلة هو ضمان تشكيل حكومة حيادية من المستقلين المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة من خارج المنظومة الحاكمة.
أسعد بشارة أكد أيضاً على نفس المعنى بقوله: "وفي بلدٍ كلبنان يعد إسقاط الحكومة إنجازاً ضخماً، فهذه الحكومة ليست مُجرّد حكومة أغلبيّة نيابيّة، وإنّما حكومة الطبقة السياسيّة والحكومة المحميّة بالسلاح غير الشرعي، إنها حكومة أمراء الطوائف، الذين نفذ كلّ واحد منهم حرب إلغاء للتزعم، فيما يتفق مع أمراء الطوائف الآخرين لتقاسم السلطة".
ويضغط الحراك على رئيس الجمهوريّة ميشال عون لبدء استشارات نيابيّة لتكليف رئيس لتشكيل حكومة إنقاذ من اختصاصيّين، تكون قادرة على إدارة الأزمة الاقتصاديّة، وبعد ساعات على أنباء عن احتمال تكليف وزير المالية السابق، محمد الصفدي، أعرب المحتجون عن رفضهم له، ونددوا بسياسة الاتّفاق في الغرف المغلقة، وطلب الصفدي، مساء أول أمس السبت، بسحب اسمه من بين المرشحين لتشكيل الحكومة، قائلاً في بيان إن "الوضع لم يعد يحتمل الانتظار ولا المراوغة (لم يوضح مصدرها) ولا المشاورات الإضافية".
هل للحراك إنجازات أخرى في شهره الأول؟
أما عما حققه الحراك في شهره الأول، فقد عدد جورج نادر للشرق الأوسط ما سمّاها 6 "انتصارات" أبرزها توحيد الخطاب السياسي عند أغلبية اللبنانيين من الشمال إلى الجنوب، لافتاً إلى أنه تم أيضاً إسقاط حاجز الخوف من السلطة وميليشيات الأحزاب، "الانتصار الثالث هو إسقاط الحكومة، وصولاً لتأجيل انعقاد جلسة مجلس النواب بسبب ما قالوا إنها أسباب أمنية، وهذه المرة الأولى التي يحصل فيها شيء مماثل، بحيث كان قد تم انتخاب الرئيس إلياس سركيس تحت القصف، والانتصار الخامس هو ردة الفعل الشعبية العفوية على تسمية محمد الصفدي رئيساً للحكومة، ما أدى لسقوط ترشيحه، وصولاً إلى الانتصار الأبرز بانتخاب ملحم خلف نقيباً للمحامين" أمس الأحد.
الكاتب والمحلل السياسي علي سبيتي اعتبر، في حديثه للأناضول أن "ما أنجزته الثورة حتى الآن كان بمثابة الحلم، إذ كان من المستحيل الوقوف في وجه الطبقة السياسيّة المتسلّحة بقوتي المال والسلطة".
"استفقنا من وهم الواقع وجبروته بعد أن حوّلت الثورة الحلم إلى واقع هزّت من خلاله كيان السلطة وارتعبت الطبقة السياسيّة بعد أن فقدت حضانة الناس لها عندما تخلّوا عن منطق الطوائف، وصرخوا صرخة الوطن المذبوح، وهذا بحدّ ذاته أكبر إنجاز، وما خضوع السلطة لضغط الشارع إلا إضافة جديدة لإنجازات الثورة، وما وقوف القوى المتسلّحة بعد ممارسات تعسّفيّة وقوف العاجز إلا دليل واضح على الوهم الذي أصاب أحزاب السلطة".
الغالبية في لبنان تؤيد مطالب الثورة
ورأى الصحفي طوني بولس أن "الثورة خلال شهر واحد استطاعت تثبيت نقاط عدّة، منها أن الشعب خرج من العباءة الطائفيّة والحزبيّة، وبحسب معلوماتي الخاصّة، أجرى حزب الله إحصاءً في سريّة تامّة وتبين له أن 76% من اللّبنانيّين هم مع الثورة، وهذا يُعدّ إنجازاً".
"استطاعت الثورة كسر الأحاديّة في الشارع الشيعي، خصوصاً أنّ هناك اعتبار أنّ الطائفة الشيعيّة تنتمي إلى حزب الله وحركة أمل، لكنّ الثورة كشفت حقيقة وجود تيار شيعي حرّ يُطالب بحريّته وليبراليّته ويرفض العيش تحت سقف قوى الأمر الواقع".
"الثورة وضعت خارطة طريق أمامها لم تستطع القوى السياسيّة على مدار 30 عاماً أن تنجزها، لذلك مسار الثورة اليوم سيُستكمل باتجاهات عدّة لاحقاً".