غدت بيروت مدينة مغمورة بمواقع البناء. لا يكاد تشييد المباني السكنية الأنيقة يتوقف فيها، أبراج شاهقة تسد عنان السماء لسكان يتزايد عجزهم عن تحمل تكاليف المعيشة. في حين استحوذ المطورون على المساحة العامة للمدينة، وشواطئها التي يجري خصخصتها.
لكن الأسابيع الأخيرة شهدت بدء المحتجين في المطالبة باستعادة مدينتهم، وأزالوا تلك الأعمدة المعدنية التي سوّرت "المسرح/التياترو الكبير" المهجور، أحد الشهود على الحرب الأهلية، وصعدوا إلى قُبّته. المسرح الذي تحول في يوم من الأيام إلى سينما، للغرابة لم يكتمل بناؤه، وظل خاوياً لأكثر من 50 سنة.
في أول ليلتين من الاحتجاجات الشهر الماضي، لجأ المتظاهرون إلى المباني المهجورة للاختباء من الشرطة وهِراواتها وقنابل الغاز المسيلة للدموع. انضم وائل زُرقط، البالغ من العمر 24 عاماً، إليهم، قبل أن تقتحم عناصر من قوات الأمن المكان، وتجبرهم على النزول إلى الشارع. لقد كان وائل مع المحتجين منذ البداية، ومن ثم خرج إلى الشارع معلناً عن سخطه من الظروف السياسية والاقتصادية السيئة في بلاده.
"لديَّ الكثير من الخطط.. لكن ليس هنا"
قال زُرقط لسارة دعدوش، مراسلة صحيفة The Washington Post الأمريكية، إنه يعمل لأربعة أيام على الأقل في الأسبوع في حانتين، لدفع تكاليف التعليم والمعيشة، وعادة ما ينتهي من عمله في الساعة الرابعة صباحاً، ويحاول التقاط بعض النوم قبل الذهاب إلى صفه. قالت والدة زُرقط المسلمة المتدينة له إن شرب الكحول وتقديمه "حرام" في الإسلام.
فردَّ عليها بالقول: "هل تريدين أن تتولي أنتِ دفعَ مصاريف الكلية؟ هل يمكنك؟".
يمتلك والده ثلاثة متاجر في مسقط رأسهم "الزرارية" في جنوب لبنان، لبيع الملابس والألعاب والدراجات النارية، ومع ذلك فإن حياتهم لا تزال صعبة. تحارب والدته السرطان، وتسافر إلى فرنسا كل أربعة أشهر لتلقي العلاج في الخارج، لأنه مكلف للغاية في لبنان.
قال عن مستقبله: "لديَّ كثير من الخطط والطموحات بشأن المستقبل، لكن ليس هنا".
إنهم يريدون الهجرة
تقول مراسلة الواشنطن بوست إن جواب عشراتٍ من المتظاهرين الشباب، عندما سُئلوا عن مستقبلهم، انطوى على الإجابة ذاتها، وهي أنهم يريدون الهجرة.
يقول جاد شعبان، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت، إن الاقتصاد اللبناني في المتوسط لا يخلق أكثر من 3 آلاف وظيفة سنوياً، في حين أن الحاجة إلى الوظائف لا تقل عن 20 ألف وظيفة في السنة.
قال شعبان: "هناك تفاوت كبير، يرجع إلى الوضع الاقتصادي السيئ في البلاد، والافتقار إلى الإصلاحات الاقتصادية التي تحفز خلق فرص عمل، علاوة على حقيقة أن الحكومة تعج بالفساد ولا تستثمر سوى في مشروعات غير موجهة لخلق فرص عمل".
يستفيد طلاب الجامعات اللبنانية من نظام تعليمي جيد، لكن بعد التخرج لا يستطيعون العثور على وظائف مناسبة. ويشير شعبان إلى الخريجين يعانون من الانتظار فترة طويلة قبل تحقيق ذواتهم من خلال إنجاز أو عمل لائق فيما يُعرف بـ "مرحلة الانتظار" (Waithood)، في انتظار تأشيرات للهجرة أو للأوضاع أن تتغير، في الوقت الذي يتفاقم إحباطهم وسخطهم من الأوضاع الاقتصادية المتردية.
أخطر أزمة اقتصادية تشهدها البلاد
بعد الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً، والتي انتهت عام 1990، أنشأ رئيس الوزراء اللبناني آنذاك رفيق الحريري شركة خاصة "سوليدير"، لإعادة إعمار منطقة وسط بيروت. جسَّدت الشركة السياسات الاقتصادية الجديدة للحكومة، والتي شملت الخصخصة واسعة النطاق للمرافق والممتلكات العامة.
لكن المنطقة جرى تشديد الإجراءات الأمنية حولها بسبب قربها من البرلمان، علاوة على أن المتاجر الراقية التي انتشرت فيها فرضت أسعاراً باهظة للغاية، حالت دون أن تتحقق الطفرة الاقتصادية الموعودة أبداً. لقد كشف انتهاء الحرب الأهلية عن عقود بعده من الظروف الاقتصادية الصعبة.
لبنان الآن هو أحد أكثر البلدان المثقلة بالديون في العالم، من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. تُعاني الليرة اللبنانية، المرتبطة بالدولار منذ زمن طويل، من ضغط شديد تحت وطأةِ أخطر أزمة اقتصادية تشهدها البلاد منذ الحرب الأهلية.
تجري عملية الدفع مقابل الواردات بالدولار الأمريكي، لكن شح الدولارات المتاحة بسعر الصرف الرسمي أدّى إلى رفع الأسعار بدرجة كبيرة، بعد أن اضطرت مطاحن القمح وموزعو الوقود إلى دفع أسعار باهظة مقابل الدولار في دور الصرافة. ومن ثم شهدت البلاد في سبتمبر/أيلول الماضي انخفاض مخزون القمح في البلاد إلى حدٍّ خطير.
"لا توجد دولارات هنا"
في غضون ذلك، فإن المستأجرين الذين يتعين عليهم دفع إيجاراتهم بالدولار يتقاتلون للحصول على أجهزة الصراف الآلي التي توفر توزيعها. في الوقت الذي يضطر معظم الناس بدلاً من ذلك إلى الحصول على الدولار بسعر صرف أكثر حدة، أعلى بـ 15% من السعر الرسمي، وهذا في حال وجدوها بالأساس.
تحدثنا إلى موظف في أحد مكاتب الصرافة، فقال لنا: "لا توجد دولارات. إنه أمر يثير الجنون. لم تعد الدولارات موجودة الآن سوى في السوق السوداء".
قال شعبان إن البنوك بدأت أيضاً في تقييد حجم المبالغ بالليرة اللبنانية التي يمكن للناس سحبها منها.
وأضاف: "في الوقت الحالي، بدأ الناس يشعرون بنوع من الذعر، لكننا لسنا في أزمة حقيقية على نطاق واسع حتى الآن. لدينا أزمة على نطاق ضيق".
الخوف أنه إذا تسارع التفاقم في صعوبات إجراء العمليات المصرفية، فقد يحتاج لبنان إلى خطة إنقاذ دولية، وقد يكون ذلك بتكلفة باهظة على الجميع.
فيضان الجماهير في الشوارع
عاد زُرقط إلى الاحتجاجات، بمجرد عودته إلى بيروت بعد الفراغ من زيارة مسقط رأسه نهاية الأسبوع الماضي. لقد أخذ يبحث في وجوه الناس عن الغضب الذي دفع كثيراً منهم إلى إغراق الشوارع للاحتجاج على الانهيار الاقتصادي والفساد الذي عمَّ البلاد.
بوجه عابسٍ، اختار طريقاً يقطعه بين جحافل من الناس الذي اتخذوا أوضاعاً للتصوير، أو أخذوا يأكلون الذرة، ويدخنون الشيشة، ويرقصون. استمر في مشيه حتى وصل إلى ساحة "رياض الصلح".
هناك شخص ما يغني في الميكروفون: "بدنا نرقص، بدنا نغني، وبدنا نسقط النظام". مر شخص آخر يحمل علماً طويلاً، وصعد هو وعشرات آخرون وثبتوه على هيئة خيمة كبيرة. أضاءت مشاعل حمراء عتمةَ الليل المظلمة.
هتف صوت أجش: "يا عمال ، ويا طلاب، بكرا في عندنا إضراب". أشار زُرقط مبتسماً لصديق له كان يقف تحت العلم الكبير، وقال "لا كلية غداً، إذاً".
"لكي يسمعك أحد، عليك أن تغلق الشوارع"
في اليوم التالي، استيقظ زُرقط في الساعة الثالثة صباحاً في شقته التي تقع في "الضاحية"، وهي المنطقة الجنوبية من بيروت التي يسيطر عليها حزب الله، إحدى الميليشيات المدعومة من إيران ولها تمثيل واسع في البرلمان. أخذ سيارة أجرة وانضم إلى المتظاهرين عند الجسر الدائري، حيث أغلقوا الطرق حتى أمرتهم قوات الأمن بالمغادرة.
قال: "في لبنان، لكي يسمعك أحد، عليك أن تغلق الشوارع". أخذ المتظاهرون يزيحون صناديق القمامة إلى منتصف الشارع لسدِّ الطرق وإغلاقها. صاح رجل بهم: "أنتم بلطجية، أطفال شوارع!".
رد عليه أحد المتظاهرين بهدوء: "لا. نحن أطفال جامعة". يقول المتظاهرون إن هدفهم هو إغلاق الشركات والمدارس حتى تجري الاستجابة لمطالبهم. أخذت أسماء العائلات ذاتها تهيمن على السياسة اللبنانية منذ عقود. وكلما شعرت بالخطر، ترد النخبة بأن البديل سيكون الفوضى.
لكن هذا التحذير لم ينجح حتى الآن في إيقاف زُرقط وكثيرين غيره من الساخطين والمحبطين. دفعت احتجاجاتهم رئيس الوزراء سعد الحريري الشهر الماضي إلى تقديم حزمة من الإصلاحات، شملت خفض رواتب المسؤولين إلى النصف، واتخاذ خطوات لإصلاح قطاع خدمات الكهرباء المختل، وإنشاء لجنة لمكافحة الفساد، ثم الاستقالة في نهاية المطاف.
ومع ذلك، استمر الناس في الاحتجاج، وكرّروا هتافهم الذي يطالب جميع القادة السياسيين بالرحيل عن مناصبهم. ردد زُرقط الهتاف: "كِلُّن يعني كِلُّن"، قائلاً: "بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
ما الذي يحمله المستقبل؟
على الرغم من بعض المناوشات، ظلت الاحتجاجات سلمية في الغالب. يقول شعبان: "الآن أنت تواجه انتفاضة سلمية. أما إذا مضيت في هذا الطريق لشهرين أو ثلاثة أشهر أخرى، ولم تفعل شيئاً، فستواجه أزمةً حادة متأثراً بالاضطرابات في أسعار الصرف، ثم انتفاضة من الجياع والأشخاص الذين لا يجدون ما يبقيهم على قيد الحياة. وستكون هذه عنيفة، على الجميع".
أخذ زُرقط وزميله في الغرفة يذْكران جميع الأسباب التي تدفعهم لمغادرة لبنان، والتي شملت عدم وجود وظائف دون "واسطة"، وغياب أي بادرة تغييرٍ في النظام السياسي للبلاد في الأفق.
ذكروا تلك الأسباب في منتصف شكاواهم من ارتفاع تكلفة المولدات الكهربائية، وهي ضرورة في بيروت التي تشهد انقطاعاً يومياً للكهرباء بالساعات، في الوقت الذي كانت الغرفة التي نجلس فيها مظلمة، ضحك الشباب للمفارقة.
لكنْ مصباح واحد، على شكل برج إيفل، لا يزال مضيئاً. لقد كان موصلاً بسلك تمديد ربطه مستأجر سابق بشكل غير قانوني بمولّد أحد الجيران.
لقد جلسوا في الغرفة الغارقة في الظلام، وشيئاً فشيئاً أخذ مزاجهم يزداد ظلمة أيضاً.
سأل زُرقط، في تشاؤمٍ: "حتى لو أجبرت الزعماء السابقين على الرحيل، فماذا؟ أولئك الذين سيحلّون محلهم سيتعيّن عليهم التعامل مع كل تلك الأوساخ التي تركها سابقيهم".