يساعد علي نور الدين، ليلةً تلو الأخرى، في قطع جسر الرينغ، أحد الطرق الرئيسية في بيروت، بهدف شلّ الحركة في لبنان، ولكن حواجز الطرق في بيروت هذه أصبحت مثيرة للجدل، فهل أصبحت حواجز الطرق نقطة قوة أم ضعف للحراك اللبناني.
في مساء يوم خميس من أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول، وجّه الشاب البالغ من العمر 25 عاماً خطاباً لعدة مئات من المتظاهرين اللبنانيين ينظمون اعتصاماً في منتصف الطريق.
وهتف قائلاً: "نحن رجال الثورة، وأنتم رجال الحرب الطائفية، سنخرج إلى الشوارع من الكنائس والمساجد"، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ودفعت مجموعة من شرطة مكافحة الشغب نور الدين في ظهره بدروعها، وبعدها بفترة قصيرة فرقت قوات الأمن المتظاهرين الجالسين بالقوة، وضربت من قاومها بالهراوات، لكن المتظاهرين كانوا مصممين وعادوا إلى الجلوس بسلام، وتزايد عددهم تدريجياً إلى أن تجاوز عدد قوات مكافحة الشغب التي تراجعت في النهاية.
وكان هذا المشهد تذكيراً بلعبة القط والفأر التي يمارسها المتظاهرون وقوات الأمن منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول، على حواجز الطرق في أرجاء البلاد.
وشلَّ المتظاهرون حركة البلاد خلال الأسابيع الأربعة الماضية، عن طريق تنظيم إضراب عام وإقامة حواجز على الطرق في كافة أنحاء البلاد، على خلفية مطالبتهم بإسقاط الحكومة.
حواجز الطرق في بيروت سلاح المتظاهرين المستعار من زمن الحرب الأهلية
هاجم منتقدو الحركة -من القادة السياسيين والموالين لأحزابهم- حواجز الطرق، معتبرين إياها من بقايا الحرب الأهلية الشرسة التي اندلعت في لبنان، حين كانت الميليشيات المتحاربة تقيم حواجز تمنع الحركة على أسس طائفية، لكن المحتجين يقولون إنهم يحاولون التصدي لتركة الحرب، ويطالبون بإسقاط رموز القلة المسيطرة على الحكم منذ الحرب الأهلية، التي زجت بلبنان في أزمة اقتصادية حادة.
اندلع الحراك المناهض للحكومة بصورة عفوية في 17 أكتوبر/تشرين الأول، رداً على مجموعة من مقترحات فرض الضرائب، كان من بينها مقترح بفرض ضرائب على المكالمات الصوتية في تطبيقات المراسلة المجانية، مثل واتساب، التي ينتشر استخدامها بسبب ارتفاع رسوم الهاتف المحمول في لبنان.
وتصاعد الحراك بسرعة ليصبح انتفاضة وطنية شاملة ضد تدابير التقشف، وعقود من الفساد الحكومي وسوء الإدارة، وتدهور الاقتصاد الذي تجاهد فيه الحكومة لتوفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه. وسرعان ما أصبحت "ثورة أكتوبر/تشرين" واحدة من أكبر حركات الاحتجاج المستقلة في تاريخ لبنان، واستمرّ زخمها حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
ثورة غير مسبوقة تتحدَّى المسَلَّمات الطائفية
وثورة أكتوبر/تشرين الأول لم يسبق لها مثيل، ليس فقط من حيث حجمها وزخمها، ولكن من حيث رسالة الوحدة بين الطوائف التي تبعث بها.
ففي بلد صغير قُسم في الماضي على أسس طائفية، تقوم الولاءات السياسية على هذه الأسس، وكذلك توزيع المناصب الحكومية، إذ لا بد أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، وأن يكون رئيس الوزراء مسلماً سنياً، وأن يكون رئيس البرلمان مسلماً شيعياً.
ويضمن هذا النظام، من الناحية النظرية، التمثيل المتساوي للطوائف في الحكم اللبناني، لكنه في الواقع يزيد من الانقسام الطائفي، الذي يعد أحد آثار حرب أهلية طويلة شرسة دامت 15 عاماً، ولا تزال تلقي بظلالها على لبنان.
واللافت أن الانتفاضة الحالية طغت على الطائفية في لبنان، واجتذبت حشوداً متنوعة من مختلف الطوائف والطبقات التي تطالب بسقوط النخبة السياسية، تحت شعار "كلهن يعني كلهن".
كان هدف المتظاهرين هو شلّ حركة المؤسسات في جميع أنحاء لبنان، بدرجة تكفي لدفع السلطات -النخبة السياسية التي تعتبر إلى حدٍّ بعيد من بقايا الحرب الأهلية- للاستجابة لمطالب المحتجين.
ونجح الضغط الذي نتج عن الاحتجاجات وحواجز الطرق مجتمعة إلى حد كبير، إذ أغلقت البنوك والمدارس والجامعات أبوابها خلال أول أسبوعين، بينما استمرَّت حواجز الطرق والمظاهرات والدعوات إلى الإضرابات العامة في الأسبوع الثالث. ونتيجة للضغوط الناجمة عن الانتفاضة، أعلن رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته في 29 أكتوبر/تشرين الأول، ما أدى إلى سقوط الحكومة معه، لكن في الوقت نفسه عيّن الرئيس اللبناني ميشال عون الحريري رئيساً لوزراء حكومة تصريف الأعمال، وتباطأ التقدم نحو تشكيل حكومة جديدة.
حزب الله يتهمهم بالعمالة والعودة لزمن الميليشيات
وبعد التغييرات القليلة التي نُفذت في القيادة، أثارت حركة الاحتجاج أيضاً رداً عنيفاً من أنصار الحكومة والجماعات الطائفية مثل حزب الله وحركة أمل، وهما حزبان متحالفان ينتميان للطائفة الشيعية في البلاد، ويستغلان الانقسامات الطائفية لصالحهما.
ففي 25 أكتوبر/تشرين الأول، ألقى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله خطاباً متلفزاً للشعب، دعم فيه الحكومة القائمة بكل الطرق، وأشار إلى أن ثمة قوى أجنبية تستغل الحراك "لتنفيذ أجندات أجنبية"، وطلب من المتظاهرين فتح الطرق حتى يتمكن الناس من الذهاب إلى عملهم ومدارسهم.
واتهم المتظاهرين تحديداً بالتحقق من الهويات وأخذ أموال لقاء المرور عبر حواجز الطرق، رغم عدم وجود أدلة تثبت ذلك، في حالة شبيهة بأيام الحرب الأهلية، حين كانت الميليشيات تنصب حواجز لمنع الناس من المرور بناءً على انتمائهم الطائفي والعرقي.
يقول نزار حسن، وهو باحث سياسي وناشط لبناني، إن تشبيه نصر الله لحواجز الطرق بنقاط التفتيش الطائفية في حقبة الحرب الأهلية كان "أسهل طريقة لتأليب هذا الحراك ضدنا وتأليب الناس ضد بعضهم البعض".
ويُذكر أنه طوال الحرب الأهلية كان عبور نقاط التفتيش التي تديرها الميليشيات في كثير من الأحيان خطيراً ومهيناً لأولئك الذين لم يكونوا يدينون بالولاء لهذه الميليشيات التي تديرها، وكانت تُستغل في كثير من الأحيان لفرض الضرائب وابتزاز الأموال.
والأهم من ذلك أنها كانت في كثير من الأحيان مواقع لعمليات القتل أو الاختطاف الانتقامية، وكان يُحظر على المدنيين الذين ينتمون إلى طائفة "عدوة" دخول بعض الأحياء والمدن.
لا يزال أثر هذه الذكرى مطبوعاً في وعي اللبنانيين. وقال حسن: "كانت نقاط التفتيش إبان الحرب الأهلية قائمة على الانقسامات الطائفية. أما هذه الحواجز فتقوم على التعبئة المعادية للطائفية".
هل نجح حزب الله في إبعاد الشيعة عن الحراك؟
وتزداد الوحدة بين الطوائف وضوحاً على جسر الرينغ، مثلما يطلق عليه بالعامية، إذ يتجمع المتظاهرون المناهضون للحكومة من جميع الطبقات والطوائف عند حاجز هذا الطريق، بسبب موقعه الاستراتيجي الذي يربط شرق بيروت ذا الأغلبية المسيحية بغرب بيروت ذي الأغلبية المسلمة.
وهم ينتمون للضاحية الجنوبية الشيعية المرتبطة بحزب الله، وطريق الجديدة، وهو حي سني مرتبط بالحريري، والأشرفية، وهي منطقة ذات أغلبية مسيحية، وضاحية شويفات، وهي منطقة مختلطة، معظم قاطنيها من الدروز.
ومع ذلك، وفقاً لحسن، يبدو أن استراتيجية حزب الله المتمثلة في بث الانقسامات الطائفية والطبقية داخل الحراك كانت فعالة.
إذ كان العديد من أبناء الطبقة العاملة واللبنانيين الشيعة جزءاً من الاحتجاجات قبل خطاب نصر الله، لكن حواجز الطرق، التي شلت حركة البلاد، وسبّ حسن نصر الله وغيره من الساسة خلال المظاهرات أشعر بعضهم بالعزلة. ورغم ذلك، يواصل العديد من مواطني الطبقة العاملة من جميع الطوائف اللبنانية مشاركتهم في الاحتجاج.
لقد لجأ للتحرش بالمتظاهرين
في 29 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد أربعة أيام من خطاب نصر الله الذي شجب حواجز الطرق، وقبل ساعات قليلة من إعلان الحريري استقالته، داهم معارضون للاحتجاجات -يعتقد أنهم ينتمون إلى حركة أمل وحزب الله- حاجز جسر الرينغ، هاتفين أن حركة الاحتجاج "مؤامرة صهيونية".
وهناك اشتبكوا مع المتظاهرين قبل أن يشرعوا في تخريب معسكر للمحتجين قريب في منطقة وسط العاصمة -وهي منطقة رمزية للانتفاضة الوطنية اللامركزية- وإضرام النيران فيه قبل أن تطلق شرطة مكافحة الشغب في نهاية المطاف الغاز المسيل للدموع وتقوم بتفريقهم.
وبالفعل بعض المشاركين بالاحتجاجات غاضبون من حواجز الطرق في بيروت
وقال معارض غاضب من الاحتجاجات، من حي خندق الغميق، الذي تقطنه الطبقة العاملة من الشيعة، رفض الكشف عن اسمه، لمجلة Foreign Policy: إنه شعر أن حواجز الطرق تحرم الفقراء المنتمين للطبقة العاملة حقوقهم. وقال مؤكداً أن دعمه المبدئي للحراك تضاءل: "كنا معهم خلال أول يوم أو يومين، وحتى الآن نحن مع مطالبهم، ولكن ليس بهذه الطريقة، نُمنع من الذهاب إلى العمل، ولدينا أسر، وأطفال، وهم بحاجة إلى الطعام".
وقال إنه لا يعتقد أن هذه الحكومة أو المؤسسة الحاكمة ستسقط. وقال: "هذا الحراك لن يصل إلى أي نتيجة مع هذه الحكومة، وحواجز الطرق هذه تستنزفنا، وتسبب مشكلات لنا جميعاً".
لكن حسن سارع إلى الإشارة إلى أن النخبة الحاكمة الطائفية ستكون هي الخاسر الأكبر على الأرجح، بسبب الوحدة الهائلة غير المسبوقة بين الطوائف في أرجاء لبنان.
وقال: "لأول مرة، عارض الناس في هذه المناطق أحزابهم السياسية، وهذا هدد قوة حزب الله وحركة أمل".
لكن العنف فشل في فضّ الاعتصامات.. امرأة واحدة تكفي
غير أن هذا العنف ضد المتظاهرين، الذي يعتقد حسن أن كبار المسؤولين في حزب الله وحركة أمل هم من نظموه، فشل في قمع المظاهرات.
وبعد أيام قليلة من هذا الحادث العنيف، حاولت شرطة مكافحة الشغب طرد المتظاهرين الجالسين على جسر الرينغ. وفي النهاية، لم يتبق سوى امرأتين على الطريق، تشبثتا ببعضهما بقوة، حينما كانت قوات الأمن تحاول التفريق بينهما.
وبعد أن نجح ضباط الشرطة في النهاية في سحب الطالبة رينا (22 عاماً)، التي فضلت عدم ذكر لقبها، خارج الطريق، واجهت أحدهم في صلابة.
وسألته: "لماذا تستخدمون القوة ضدنا؟ حين جاء رجال الخندق الغميق ودمروا كل شيء هنا وفي وسط المدينة، أين كنتم؟ كنتم تكتفون بالمشاهدة وهم يضربوننا!".
ومع ذلك، واصل الجيش والشرطة مهاجمة حواجز الطرق في جميع أنحاء البلاد.
ومن جانبهم، تحول المتظاهرون إلى خطة محددة الهدف، وحاولوا فرض إضراب عن طريق قطع المداخل والطرق المؤدية إلى محطات الكهرباء الحكومية وشركات الاتصالات السلكية واللاسلكية والمدارس.
ويظل هذا التكتيك مثيراً للانقسام رغم أنه وحَّد اللبنانيين
واعترف مصطفى الدهيبي، وهو ناشط يعمل بين بيروت وطرابلس، بأن تكتيك إقامة حواجز الطرق اليومية أصبح مثيراً للانقسامات بالنسبة للعديد من المواطنين الفقراء.
وقال إن حواجز الطرق في بيروت قد قلّت بسبب مخاوف المواطنين الفقراء، لكن إذا واصل عون وحكومة تصريف الأعمال تأجيل تعيين رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة، فستعود بقوة.
ويرى ناشطون آخرون أن حواجز الطرق في بيروت وفي كل لبنان ساهمت في توحيد اللبنانيين على أهداف مشتركة أكثر مما قسمتهم. إذ روت منال غانم، وهي طالبة تبلغ من العمر 30 عاماً وتدرس الدراما والأدب، حادثة ملأت قلبها بالأمل، إذ تقول إنه في وقت متأخر من مساء يوم سبت، اقترب أربعة شبان من حي خندق الغميق المرتبط بحركة أمل من حاجز جسر الرينغ، وطلبوا التحاور مع المحتجين.
وجلس المتظاهرون مع أنصار حركة أمل معاً وهم يحتسون القهوة، وبدأ أحد الشباب في الكلام.
قالت منال: "كان يقول أشياء إيجابية للغاية، مثل إن ثورتنا هي ثورتهم أيضاً، لكنه قال إننا بحاجة إلى أن نفهم أنهم يعتبرون بعض الأشياء مقدسة، فلا يمكننا التحدث عن نبيه بري بسوء". رئيس البرلمان وزعيم حركة أمل "أو أن نسبَّ حسن نصر الله".
وأذهل هذا الحادث منال وغيرها من المتظاهرين. وقالت: "كانوا على الرينغ، ونحن كنا على الرينغ، وشعرنا بالحرية، وأننا نستطيع التحدث في منتصف الطريق، والتحدث عن الثورة مع أشخاص يحكمهم حزب سياسي. شعرت وكأنها رسالة مفادها أن النخبة السياسية لم تعد قادرة على السيطرة على أي منا".
لكن تجربة منال مع زوار خندق الغميق كانت قبل ثلاثة أيام من هجوم المعارضين للاحتجاجات العنيف على جسر الرينغ ومعسكر الاحتجاج بوسط المدينة.
وفي حين أنها تعتقد أن حواجز الطرق جمعت بين أشخاص يائسين من مختلف الطبقات والطوائف، إلا أن الهجوم العنيف في وسط بيروت يخفي القلق الذي يكتنف الكثير من اللبنانيين، إزاء أن النخب السياسية لن تتردد في استغلال الخلافات الطائفية للحفاظ على سلطتها التي امتدت لعقود.