هل الخلاف شر؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/12 الساعة 13:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/12 الساعة 14:49 بتوقيت غرينتش

كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في موسم الحج مع عثمان بن عفان زمن خلافته رضي الله عنه فوجده يصلي الظهر أربع ركعات ولا يقصرها فقال: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ومع عثمان صدراً من إمارته، ثم أتمها، ثم تفرقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. (يعني يتمنى لو صلى عثمان ركعتين فقط كما فعل عبدالله مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزدها إلى أربع)[1] ومع اعتراض عبدالله بن مسعود على قرار عثمان لكنه صلى معه وأتم ولم ينفرد وحده ليقصر الصلاة، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً، فقال: "الخلاف شر".

كلمة موجزة بليغة مهمة، لكن ومع جلالة قدر الصحابي الكريم عبدالله بن مسعود وعظيم مكانته رضي الله عنه إلا أننا نتساءل: هل الخلاف شر حقاً؟ ولماذا؟ وهل كل خلاف كذلك؟

وقبل الإجابة نُذكر بما قلناه في المقالة السابقة "لماذا نتعاون مع المختلفين معنا؟ عن فتنة "الاعتزال والمخاصمة"" عن التفريق الاصطلاحي -لا اللغوي- بين الخلاف والاختلاف، وأن الثاني فطرة في الناس، وهو محمود، وبه يحصل التنوع النافع بين الاهتمامات والأعمال، ولا يلزم عنه حصول الخلاف إذا صفت النوايا واستقامت العقول، بل نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

الآن نقف مع عبارة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بشيء من البيان، وخير ما يعيننا لسبر أغوار هذه العبارة الشريفة أن نقف مع حديث نبوي شريف في التحذير من الخلاف، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عن  أبي مسعود الأنصاري قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: (اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبكُمْ، ليليني مِنْكُم أولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)، وفي حديث آخر رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خِلَافَهَا، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجهه الْكَرَاهِيَة فَقَالَ: (كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَلَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قبلكُمْ اخْتلفُوا فهلكوا).

وبهذين الحديثين النبويين الشريفين تتجلى لنا بعض قبائح الخلاف، فإنه يغير القلوب، ويفسد المودة، ويذهب الأخوة، ويؤدي إلى الهلاك والعياذ بالله.

ومع ذلك فإننا نجد من المتصدرين للدعوة والتعليم والتوجيه العام من يشعل الخلاف بين المسلمين، ويُنَظِّرُ لذلك باسم هدم البدعة ومحاربة أهلها، فهل فات هؤلاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف؟ وهل كل خلاف شر؟ وكيف نفرق بين اختلاف الرحمة وخلاف الفتنة؟

يجيب عن سؤالنا هذا الإمام تاج الدين السبكي، في كتابه: "الإبهاج شرح المنهاج"[2] فيقول نقلاً عن والده الإمام تقي الدين السبكي وهو يناقش أدلة القائلين بعدم حجية القياس: والقرآن دال على أن الرحمة تقتضي عدم الخلاف، قال تعالى: "ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك"، وقال تعالى: "فمنهم من آمن ومنهم من كفر"، وكذا السنة قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.

ثم قال: والاختلاف على ثلاثة أقسام:

أحدها: في الأصول، وهو المشار إليه في القرآن، ولا شك أنه بدعة وضلالة.

والثاني: في الآراء والحروب، وهو حرام أيضاً لما فيه من تضييع المصالح.

والثالث في الفروع، كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما.

قال تاج الدين السبكي: قال والدي أيده الله: والذي يظهر لنا ويكاد أن يُقطع به أن الاتفاق فيه خير من الاختلاف، لكن هل نقول إن الاختلاف ضلال كالقسمين المذكورين (يعني الأول والثاني) أو لا؟

وأجاب عن سؤاله بالنفي، ورجح أن الخلاف في هذا النوع الثالث (أي الفروع والجزئيات الفقهية) هو من اختلاف الرحمة والسعة، وفي ذلك المعنى رُوي عن الإمام أحمد أن رجلاً صنف كتاباً سماه "كتاب الخلاف" فقال له الإمام أحمد: سمه كتاب السعة.

ومن هذا نخرج بجواب مختصر لسؤال: هل الخلاف كله شر؟

فنقول: الخلاف شر إذا كان في الأصول والكليات، وخير ورحمة وسعة إذا كان في الفروع والجزئيات، بشرط أن يكون المختلفون فيها كلهم يطلب الهداية من الله تعالى، ويجتهد في التخلص من الهوى والعصبية، فإن ترجح عنده بعد الاختلاف أن الصواب مع مخالفه لم يكن منه إلا العودة عما هو عليه من الرأي إلى رأي من ظهر دليلة وقويت حجته، فيكون هؤلاء المختلفون داخلين جميعاً في من قال الله تعالى فيهم: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قال ابن القيم رحمه الله: "فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان، ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان، ولو كان مع من يحبه ويواليه؛ فهو ممن هُدي لما اخْتُلف فيه من الحق؛ فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلاً وأقومهم قيلاً.

وعليه فيكون الخلاف المتعمد شر، والخلاف في الأصول والمرجعية شر، والخلاف المؤدي إلى التنازع والفساد والإفساد شر، والاختلاف في الرأي والتقدير والفروع ضرورة، ولذلك فهو جائز لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن المتمم لهذه القاعدة المشهورة أن الضرورات تقدر بقدرها ولا يُتجاوز بها عن محلها، لذلك يجب على أصحاب العقول وأهل الحرص على المصلحة أن يتجنبوا الخلاف بقدر الطاقة سواء في الفروع والأصول، وأن يبحثوا جميعاً عن القدر المشترك والكلمة السواء بينهم، وأن يزيدوا مساحات الاتفاق بقدر المستطاع، تعاوناً في المتفق عليه كما ذكرنا ومعذرة في المختلف فيه.

ومع هذا فسيظل الاختلاف واقعاً، وسيظل الناس يختلفون في كافة أمورهم، فكيف نتعامل في الاختلاف في محاوره الثلاثة: (الأصول العقيدة، والتقديرات السياسة، والفروع الفقهية)؟

هذا ما نحاول الإجابة عنه في المقالات المقبلة إن شاء الله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.

ملاحظات للتوضيح

[1] صلاة الظهر أربع ركعات، ويجوز قصرها في السفر ركعتين، ولا يجب القصر عند جمهور الفقهاء، فسيدنا عثمان ترك القصر -الجائز- لعلة وحكمة قدرها، ولم يكن بذلك مغيراً لشيء من الشرع حاشاه رضي الله عنه.

[2] تاج الدين السبكي- الإبهاج شرح المنهاج، ت:  ط. ، ص2217، مناقشة الشبهة الخامسة لمانعي القياس والرد عليها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنس السلطان
داعية وشيخ أزهرى، مؤسس مدرسة "شيخ العمود" للعلوم الإسلامية
داعية وشيخ أزهرى، مؤسس مدرسة "شيخ العمود" للعلوم الإسلامية