"عاشوا اللي ماتوا… ولا ماتوا إلا من عاشوا"، كلمات غارقة في السواد وصف بها الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، في ديوانه الشهير "الموت على الأسفلت"، الذي أهداه للرسام الفلسطيني الراحل ناجي العلي، ولكن اليوم الموت على الأسفلت بات يهدد المصريين لا الفلسطينيين بسبب تجارة إطارات السيارات المستعملة وازدهار مهنة حفر إطارات السيارات القديمة في مصر.
كتب الأبنودي هذه الكلمات في ثمانينات القرن الماضي، ولكن رغم مرور السنوات ورغم اختلاف المقصد فإنها تكاد تصف حياة كثير من المصريين في الفترة الأخيرة، بسبب تجارة الإطارات المستعملة غير الصالحة للاستخدام.
فوفقاً لتقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وصل عدد حوادث الطرق في مصر خلال عام 2018 إلى 8480 حادثاً.
ورغم أن هذا العدد صادم فهو أقل، مقارنةً بعام 2017، حيث وصل العدد حينها لحوالي 11 ألف حادث. وبالرغم مما تشير إليه هذه الأرقام من انخفاض إيجابي، بنسبة تصل لحوالي 20%، تظل حصيلة الضحايا مرتفعة بإجمالي 3.087 قتيلاً و11.803 مصابين.
وبلغت نسبة الوفيات إثر حوادث الطرق ما يعادل 9 أشخاص من بين كل 100 ألف نسمة، بينما في دولة مثل ألمانيا، قريبة من مصر من حيث التعداد السكاني، وصلت نسبة الوفيات إثر حوادث الطرق بها إلى 4 أشخاص من بين كل 100 ألف نسمة.
كاوتش الفقراء
"ممكن أطلب منك خدمة لو حضرتك هتغيري "كاوتش" العربية هاشتريه منك الله يكرمك، أو لو قابلك أي حد بيغير كاوتش عربيته التالف فأنا ممكن آخده علشان أسترزق منه".
سؤال وكلمات بسيطة قالها عم جابر، صاحب إحدى الورش الصغيرة للكاوتشوك بمنطقة الأميرية بالقاهرة لإحدى السيدات المترددات عليه، بدافع العشم، فهي من زبوناته، ودائماً ما يخصها بالفضفضة عن مشاكل الحياة.
اعتقدت السيدة أنه يريد الكاوتشوك لتقطيعه والاستفادة منه في بعض الصناعات كما كانت تسمع، لكنه صدمها بقوله: "ناس كتير بتيجي تشتري مني "فردة" أو "اتنين" تمشي بيهم.. الفقر زاد، والطلب كمان على الكاوتشوك المستعمل زاد، ومبيقدرش على الجديد والمستورد إلا اللي معاه فلوس والناس "غلابة".
وعندما أعطته السيدة الإطارات الأربعة بعدما أكد لها أحد الفنيين عدم صلاحيتها للسير، وسألت عم جابر عن خطورة ذلك لم ينفِ، بل ردَّ قائلاً: "الفقير لا يهتم، وإن لم يشتر مني سيذهب لغيري وهم كثر، وفي الآخر كلها "موتة"، ممكن يموت من الجوع أو من قلة العلاج، وممكن ينتحر من الإفلاس، يبقى هتفرق إيه معاه لو مات من كاوتش مستعمل "فرقع"؟! أهو كله محصل بعضه".
وكان جهاز التعبئة العامة والإحصاء المصري قد أصدر بياناً صحفياً، يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الفقر، جاء فيه "أن هناك زيادة في نسبة الفقر وصلت إلى 4.7 نقطة مئوية بين عامي 2015-2016 و2017-2018، ويرجع ذلك إلى إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي تقوم به الدولة.
هذا الإصلاح الاقتصادي لم يشعر به صاحب الورشة أو غيره من المواطنين، هم فقط يشعرون بالفقر ويعانون منه، وما قاله عم جابر -رغم قسوته- حقيقي، فهناك آلاف الحوادث التي تقع على الطرق في مصر سنوياً، يذهب ضحيتها الآلاف، لتكتب دماؤهم على "الأسفلت" قصصاً لنهايات مؤلمة بدماء وأشلاء الضحايا.
مراقبة الناس أهم من مراقبة الأسواق
يعاني مالكو السيارات الجديدة أو القديمة من ارتفاع أسعار قطع الغيار وقلة توافرها، ويبدو أن الحكومة شغلها الشاغل مراقبة المواطنين بدلاً من مراقبة الأسواق والسيطرة عليها، مما أفسح الطريق لقطع الغيار المغشوشة التي تتسبب في وقوع حوادث الطرق، وأخطرها على الإطلاق إطارات السيارات، ما جعل البعض يوقف سيارته ويستخدمها في الضرورة القصوى، بينما هناك من يعتمد عمله ورزقه على قيادة السيارات، وهو ما يعتبرونه أمراً أقوى من الحياة نفسها.
مصطفى عبدالقادر، الذي يعمل محاسباً قانونياً بإحدى الجامعات الخاصة، ذهب إلى مقر توكيل السيارة التي ما زال يسدد أقساطها إلى الآن، لكنه فوجئ بأن سعر الإطار الواحد لسيارته (هيونداي ماتريكس) يتعدى الـ900 جنيه (نحو 56 دولاراً)، وبالتالي فهو مطالب بما يوازي 3600 جنيه (224 دولاراً) لتغيير جميع الإطارات، دون الاستبن (الاحتياطي).
صعوبة الحياة دفعت الشاب المتعلم للتغاضي عن حقيقة يعرفها عن خطورة استخدام إطارات سيارته رغم انتهاء عمرها الافتراضي، وظنّ (أو أقنع نفسه) بأن التجديد بشراء إطارات مستعملة هو حلّ بديل للجديد، ويوفر في الوقت ذاته أكثر من نصف ثمن الإطار.
ولهذا سمع نصيحة أصدقائه، وذهب إلى واحدة من تلك الورش بإحدى قرى محافظة المنوفية، لأنها "الأرخص" وقتها، واقترح عليه صاحبها إما شراء إطارات مستعملة مستوردة، بسعر 120 جنيهاً (7.5 دولار) لـ "الفردة"، أو تجديد الإطارات القديمة لسيارته بنفس السعر للأربعة، عبر ما يعرف بإعادة حفر المداس (أي كشط الطبقة الخارجية للإطار لزيادة عمره، ولكن يفترض أن يتم ذلك عبر متخصصين).
صناعة الموت التي تزدهر.. ماذا تعرف عن حفر الإطارات؟
يقول مصطفى لـ "عربي بوست" إنه لا يعرف مصدر الإطارات المستعملة، وعندما فحصها لم يجد عليها أية بيانات لذلك، وكان قد قرأ حتمية كتابة كلمة "REGROOVABLE" على الإطار، طبقاً للمادة 109 من كتاب المواصفات القياسية للإطارات المجددة لعام 2015، وذلك يعني أن الإطار تم تصميمه خصيصاً ليكون قابلاً لإعادة حفر المداس.
لذلك كان الخيار الوحيد هو تجديد إطارات سيارته، عملاً بمنطق "اللي أعرفه أحسن من اللي معرفوش"، فعلى الأقل هو يضمن استعماله الشخصي لسيارته.
وبالرغم من أن كتاب المواصفات شدَّد على ضرورة أن يقوم بذلك شخص تقني، لكن مصطفى لم يهتم بذلك، وكان سعيداً عندما تسلَّم الإطارات بحالة بدت له جيدة جداً، ودفع 480 جنيهاً في الأربعة إطارات، ونجح في توفير أكثر من 3 آلاف جنيه لا يمتلكها من الأصل.
لكن لم يمر شهر على التجديد إلا وكانت السيارة "تغربل" منه، كما يقول، أي تسير بعدم اتّزان وتهتز بشدة عندما يضغط على الفرامل، في البداية أرجع المشكلة لتيل الفرامل، لأن الإطارات جديدة وتلمع و "زي الفل"، على حد قول مَن قام بتجديدها.
وفي أحد الأيام بينما كان ينزل من طريق فرعي على محور روض الفرج الجديد، لكي لا يمر على البوابات ويدفع "الكارتة" (مقابل مالي للمرور ببعض الطرق) التي فرضتها الدولة على المواطنين للسير على هذا الطريق؛ رغم أنه مشروع قومي، ومن المفترض ألا يدفع المواطنون عليه يومياً 60 جنيهاً ذهاباً وإياباً، انفجر الكاوتشوك الأمامي وانقلبت السيارة على أحد جانبيها، ونجا من الموت في الحادث كما يقول بـ "دعاء الوالدين"، لكن عملية تصليح سيارته ستحتاج إلى 20 ألف جنيه، مما اضطره لركنها واستخدام المواصلات العامة.
يقول صاحب السيارة بسخرية : "الدولة لا تهتم بالتفتيش على تلك الورش، ولا يهمها سلامة المواطنين، وتريد أن تقلل من عدد السكان، أو يمكن عندها صفقة دراجات، وتريد من الموظفين ركن سياراتهم وشراءها، ونأخذ ضربة شمس ونموت من البرد، ودوافعها "بريئة"، وهي ممارسة الرياضة وتقليل الوزن!"، (في إشارة إلى تشجيع الرئيس عبدالفتاح السيسي لركوب الدراجات).
وأضاف قائلاً: "إن مراكز الخدمة المعتمدة لا يستطيع الشراء منها غير الأثرياء أو من توفر له وظيفته الحصول عليها بالتقسيط المريح".
الطريق إلى الآخرة عبر حفر إطارات السيارات القديمة في مصر
زارت "عربي بوست" واحدة من الورش التي تنتشر في جميع المحافظات المصرية، لتجديد الإطارات القديمة، أكد فنيون أنها لا تصلح للاستخدام مرة أخرى، وأن السير عليها يعرّض صاحبها للخطر.
لكن صاحب الورشة شدَّد على أنها صالحة، شارحاً أنه سيركب نقشة جديدة بأشكال مختلفة بأحدث وأقوى الخامات، وتحت إشراف فنيين ومتخصصين لضمان السلامة والجودة، حسب قوله.
شرح طريقة التجديد بحماس، واطلعنا عليها عندما ظنَّ أننا سنجدد إطارات ونشتري أخرى مستعملة، محاولاً إقناعنا بالصفقة، قائلاً "في البداية يقوم الصنايعي بفحص الإطار للتأكد من سلامته، وعدم وجود أي كسر في السلك، أو التيلة".
"بعد ذلك يمر الكاوتشوك بمرحلة الصقل، التي يتم فيها الكشط الكامل للتخلص من النتوءات والنقوشات القديمة الموجودة بمداس الإطار، ويقوم العامل برشّ الإطار بمواد منظفة لإزالة الأتربة تماماً من عليه، ويركب طبقة مطاطية جديدة، ثم يضع "المداس" الجديد، ويضبطه عليه ليتفرغ بعد ذلك لعمل النقوشات الجديدة، التي يختارها الزبون".
صاحب الورشة يدرك أن ما يفعله ليس فقط غير قانوني، وإنما الأخطر أنه غير اخلاقي أيضاً، باعتبار أنه لا يطيل عمر الإطار أو يحسن جودته، وإنما فقط يعدل مظهره.
رغم ذلك لا يشعر الرجل بأي تأنيب ضمير قائلاً: "هناك قرية بالكامل تقوم بذلك، وكل يوم نسمع عن حملات تفتيش، ومع ذلك الورش فيها شغالة ولم تغلقها الحكومة "احنا هنعرف أكتر من الحكومة".
وبرَّر مهنته بأن "تجديد الإطارات موجود في أوروبا، شارحاً أن 70% من تكلفة الإطار تتمركز في جسم الإطار، و30% من التكلفة في "مداس" الإطار، ونحن نقوم بتجديد المداس للإطارات لخفض التكلفة، و "مبنضربش حد على إيده ليشتري مننا أو يجدد عندنا".
وأردف قائلاً: بالعكس بنساعد الفقراء وغير المقتدرين مادياً، وخاصة أن أعدادهم تتضاعف يوماً بعد يوم، والطلب علينا بيزيد يوم بعد يوم"، حسب قوله.
قتل خمس من الركاب
فقد جلس الرجل الخمسيني، يحاول الاتكاء على عصاه التي رافقته لأكثر من عشرة أعوام على "مصطبة" أمام منزله المقابل للطريق الرئيسي بقرية "ميت حارون" التابعة لمحافظة الغربية، يشاهد السيارات المارة ويتحسر على أيامه التي قضاها في مهنة قيادة سيارات الأجرة بين المحافظات.
لكن الرجل فقد مصدر رزقه، وكذلك قدرته على السير والقيادة، بعدما انفجر الإطار الأمامي لسيارته الميكروباص، الممتلئة بركابها على طريق بنها، ما أدى إلى انقلابها ووفاة خمسة من ركابها، فيما تعرض هو لكسر مضاعف في منطقة الحوض والعمود الفقري، جعله رهناً لكرسي متحرك على مدار السنوات الماضية.
يقول سالم إن إطار السيارة الذي اشتراه مالكها كان كأنه جديد، بالرغم من أنه قديم (مبرراً لجوءه إلى شراء إطار مستعمل برغبة المالك في توفير نفقات صيانة وتجديد السيارة)، ما تسبب في الحادث، وعندما سألناه لماذا لم تعترض على ذلك، خصوصاً أن حياتك هي التي على المحك، أجاب ببساطة "لو اعترضت كان هيقطع عيشي، يعني كنت هاموت برضه".
حالة سالم، التي تسبب بها حادث سيارة بسبب انفجار إطار السيارة لم تكن حالة فردية، ففي مصر 12 ألف مواطن يموتون بحوادث طرق سنوياً، وفقاً لتقرير صدر عام 2014 لبرنامج سلامة الطرق، فيما تقول منظمة الصحة العالمية إنَّ مصر تخسر سنوياً ما بين 20 إلى 60 مليار جنيه نتيجة حوادث الطرق.
حاتم طلعت، سائق شاحنة كبيرة من محافظة القليوبية قال إن سيارة النقل التي يعمل عليها يكلف تغيير إطاراتها 224 ألف جنيه (13.900 ألف دولار)، حيث تشمل السيارة 28 إطاراً، 16 منها في المقطورة الخلفية، و12 في القاطرة الأمامية، الزوج الجديد (الاثنان منهما) أسعارهما لا تقل عن 16 ألف جنيه (960 دولاراً).
لذلك يقوم مالك السيارة بشراء إطارين جديدين أماميين، لأنهما يحملان المقدمة، في حين يذهب إلى قرية "ميت حارون" لشراء باقي الإطارات المطلوبة (أي ما يقرب من 26 إطاراً)، من المستعمل المعاد تجديده بتكلفة أقل من ربع المبلغ لتوفير الأموال.
رغم معرفة السائق أن تلك الإطارات تمثل خطورة على حياته، وحياة غيره ممن يسيرون على الطرق السريعة، قال: "اليد قصيرة والعين بصيرة" (مثل شعبي يشير لضيق الحال).
ففي حال اعترض سيترك عمله ويفقد مصدر رزقه، وقتها من يعول أسرته المكونة من سبعة أفراد؟!
قرية ظالمة أم الذنب على من ترك أهلها يرتكبون هذه الجريمة
قرية "ميت حارون" التابعة لمدينة زفتى بمحافظة الغربية، التي تبعد نحو 68 كيلومتراً عن القاهرة، تستغل الإطارات منتهية الصلاحية لمحاربة الفقر، لكنها في الحقيقة تهندس الموت عبر جمع الإطارات المهملة من على جوانب الطرق، ومن أحواش وورش امتلأت ببقاياها الممزقة.
ويمكن مشاهدة عربات النقل والكارّو (العربات التي تجرها الحيوانات) محملة بها عن آخرها، وهي تدخل أو تخرج من القرية.
القرية تحوي وفقاً لشهادات أهلها قرابة 200 ورشة ومحل، أغلبها غير مرخص تقوم بتدوير الإطارات المستهلكة.
مظاهر صناعة الموت تبدو واضحة على القرية، إذ إن ملامح الريف المصري التقليدي بعيدة إلى حدّ كبير عنها.
فمعظم منازلها من الطوب الأحمر، وبعضها تم تغليفها بالسيراميك والغرانيت والرخام، وقد خصصت الأدوار السفلية لمحلات ومخازن قطع غيار السيارات بمختلف أنواعها.
وأوضح علي فتحي (40 عاماً)، وهو تاجر وصاحب إحدى الورش، أن تأسيس ورشة لا يحتاج الكثير، فتكفي قطعة أرض مساحتها 40 متراً مربعاً، ومعدات بسيطة.
وشرح لـ "عربي بوست" أن الإطارات التي قطعت الكيلومترات المحددة لها يتم تجميعها عبر مزادات (مناقصات) حكومية أو خاصة من محافظات السويس والإسكندرية والقاهرة، بأسعار تصل إلى 3 بالمئة من سعرها الحقيقي.
وبعد أن ينتهي المزاد يتم شحن الإطارات ذات الحالة الجيدة من حيث المظهر الخارجي ومن الجانبين لكنها أصبحت (ملساء) بلا حفر أو نقشات من كثرة الاستعمال، وتتم إعادة حفرها من جديد عن طريق آلات صغيرة مخصصة لهذا الأمر، لتظهر حديثة بشكل جيد بعد مسحها أو غسلها بالمياه، وتباع كإطارات صالحة للاستخدام.
عدد من يقوم بعملية نقش الإطارات في القرية غير معلوم، فبعضهم يعمل بشكل سري، وهناك المستجدون الذين وجدوها "سبوبة" (فرصة للكسب المالي).
معظم أصحاب محلات بيع الإطارات في القرية يحتفظون بشكل سري بماكينات نقاشة كهربية (في حجم كف اليد وتشبه ماكينات الحلاقة الكهربية، ولها مقدمة مدبَّبة يتم غرسها فى كاوتش الإطار، لإعادة حفره)، حيث يستخدمونها بشكل خاص لإعادة حفر الإطارات قبل عرضها للزبائن.
ويصل سعر الماكينة الواحدة إلى 6000 جنيه، ويتم استيرادها من خارج مصر، وتتكلف عملية إعادة النقش بعد ارتفاع الأسعار من 15 إلى 20 جنيهاً للإطار الواحد لسيارات النقل الثقيل، أما الإطارات الصغيرة فلا تزيد التكلفة على عشرة جنيهات.
سر الصنعة.. نحن ننقد حياة السائقين
يزعم عادل صاروخ، وتلك هي شهرته، وهو أحد نقّاشي الإطارات في "ميت حارون"، ويمتلك ورشة داخل منزله، أن النقش الذي يقوم به له فائدة كبيرة جداً بالنسبة للسائقين.
ويشرح "صاروخ" لـ "عربي بوست" تفسيره لذلك، قائلاً: "إنه إذا كان الإطار ممسوحاً وبلا نقش وحاول السائق استخدام الفرامل ينزلق الإطار، وهو ما يعني سهولة انقلاب السيارة أو على الأقل عدم الوقوف، ولذلك يقوم بإعادة نقش الإطار من جديد، ليساعده عندما يستخدم الفرامل بالتشبث والتمسك بالأرض، وذلك عن طريق تفريغ مسارات سطح الإطارات، باستخدام (كاوية صلب موصَّلة بالكهرباء).
وأوضح أن الإطار مسموح بنقشه مرتين فقط، لأنَّ سُمك المادة الكاوتش يتآكل بعد ذلك خلال عملية النقش.
يشير "صاروخ" إلى أن نقّاشي القرية يجددون يومياً ما لا يقل عن 80 إطاراً، وعندما سألناه عن حملات التفتيش همس قائلاً: "أقوم بترضية ممثلي الحكومة وبيمشوا"، (في إشارة إلى قيامه برشوتهم).
وختم كلامه قائلاً: "من المفروض محاسبة (المعلّمين الكبار) اللي بياخدوا ملايين من وراء تلك التجارة، وبنسمع إن لهم (ضهر كبير)، وقيادات ورُتب بتحميهم، والدليل أننا موجودون إلى الآن وبنشتغل".
وأكد فتحي الأبيض، مهندس ميكانيكي ومسؤول عن أسطول سيارات النقل بأحد المصانع الكبرى، لـ "عربي بوست"، أنه ذهب إلى قرية "ميت حارون"، لشهرتها ببيع الإطارات المستعملة والرخيصة، لكنه وجد أن من يقوم بإصلاح مداس الإطار ليس مهندساً ولا فنياً متخصصاً درس تقنية الحفر، وينقش الإطار أكثر من مرتين، وليس كما يزعمون، وهذا خطر جسيم، حسب تعبيره.
ويشير المهندس إلى أن الإطار له مدة صلاحية لا تتعدى بأية حال 50 ألف كيلومتر، كما حددتها الشركات العالمية للإطارات، والإطارات المستعملة تجاوزت المدة، وتجديدها لا يجدى نفعاً.
ويشير إلى أنه شاهد بنفسه النقاش وهو يستخدم معدات بدائية للغاية للنقش، وأحياناً يصل في أثناء حفر المداس إلى السلك والأحزمة الداخلية للإطار.
ويقول: "عندما لفتُّ نظر أحدهم إلى أن السلك الداخلي للإطار سيكون معرَّضاً للصدأ؛ ومن ثم التآكل؛ وأن الجزء العلوي سينفصل من الإطار بعد ذلك، ويصبح معرَّضاً للانفجار، لم يفهم العامل ما أقوله ولم يلقِ بالاً لملاحظتي".
الغش في المدينة
هذا ما يحدث بالقرى، أما في المدن فالوضع يزداد سوءاً، لأن هناك عديداً من المحال متخصصة في تسويق الإطارات المستعملة، بدعوى أنها مستوردة، وأنه تم تجديدها بالخارج، ليكسب صاحب المحل 10 أضعاف المكسب المعتاد مما لو باع إطاراته على حقيقتها.
لكن صاحب أحد تلك المحال يجادل في المعضلة الاخلاقية لما يقوم به، قائلاً لـ "عربي بوست"، إن لديهم كاوتشاً مستعملاً "مستورداً" بحالة جيدة، لا توجد به أي عيوب، ولا خطورة منه، لأنه مجدَّد بالخارج، ولكنه من موديلات قديمة لم تعد تُستخدم بالدول المصدِّرة، مثل أمريكا وألمانيا، وإيطاليا، كما أن سعر الفردة الواحدة يتراوح بين 300 و400 جنيه، أما إطارات السيارات النقل الثقيل فلها أسعار أخرى.
من خلال المرور على أكثر من ورشة في القاهرة، وجدنا أن أسعار تجديد الإطار الواحد تبدأ من 100 جنيه، وتصل إلى 150 جنيهاً حسب مقاسه، وجميعها متهالكة وبها ثقوب وتشققات. وحسب حديث أصحاب ورش التصليح، فإن الإطارات المستعملة قد تكون أفضل من المجدَّدة، لأن الأخيرة ربما تكون متهالكة تماماً ولا تصلح؛ ومن ثم تنفجر عند السير بها.
وعن مدى انتشار الإطارات المجدَّدة والمستعملة، لدى محال بيع قطع الغيار المعتمدة، يقول محمد شقاوة -وهو صاحب إحدى الورش الموجودة بمنطقة إيديال في شبرا- لـ "عربي بوست"، إن غالبية الورش غير مرخصة، وهي كثيرة ومنتشرة بربوع مصر، وكلها تعمل في مجال الإطارات المجدَّدة، والمترددون عليها للشراء يعلمون أنها مجدَّدة، لكنَّ كثيرين لا يملكون القدرة على التفرقة بين صلاحية إطار وآخر".
ويضيف قائلاً إن العمال يعيدون نقش الإطارات المستعملة، وهناك ورش تستخدم الماكينات في الحفر وورش تقوم بالمهمة يدوياً بأدوات وطرق بدائية مخالفة للمواصفات القياسية.
وكشف أن هناك أنواعاً عديدة لغش الإطارات، "مش بس تجديد الإطارات المستعملة، لكن ممكن يكون الإطار وارد من الصين، والتاجر يكتب عليه بلد آخر مثل تركيا، وإيطاليا، وتاريخ آخر! وللأسف كلها محال غير مرخصة ولا تخضع للرقابة، وبها ورش تصليح".
الداخلية ليست مسؤولة
وفقاً لبعض الإحصائيات، تبلغ حوادث سيارات النقل 30 بالمئة من حوادث الطرق، أما الملاكي فيبلغ 50 بالمئة من إجمالي الحوادث، وكلاهما يخلّف وراءه أعداداً كبيرة من القتلى والمصابين.
كما كشفت إحصائيات حديثة أن 40 بالمئة من حوادث السيارات في مصر سببها انفجار الإطارات.
وتشير إحصائيات ثالثة صدرت عام 2017، إلى أن استيراد إطارات السيارات يكلف الدولة سنوياً نحو 3 مليارات دولار، ويصل إجمالي ما يدخل السوق المصرية سنوياً إلى 17 مليون إطار.
في المقابل يبلغ حجم تجارة بيع قطع الغيار المقلَّدة بمصر نحو 1.5 مليار جنيه (نحو 92.6 مليون دولار)، حسب تقرير هيئة السلامة والطرق.
مصدر أمني بقطاع النقل بوزارة الداخلية يرى أن أحد الأسباب الرئيسية في حوادث الطرقات وجود عيوب فنية بإطارات السيارات، موجهاً اللوم إلى أصحاب السيارات، لأنهم يبحثون عن الأرخص وغير مهتمين بحياتهم، ربما لأن الفرق بين شراء الإطار المستعمل والجديد يصل إلى آلاف الجنيهات، لكن المستعمل غير صالح للاستخدام ويعرّض حياة الناس للخطر، لأنه معرَّض للانفجار في أيّ لحظة.
ورفض المصدر تحميل الجهات المختصة المسؤولية، أو الاعتراف بأنها تتقاعس عن دورها الرقابي على ورش "بئر السلم" كما توصف الورش غير المرخصة، بل أبدى استياءه الشديد عند الإشارة إلى مسؤوليتهم عن تزايد النزيف على الأسفلت، قائلاً: "إحنا ما لنا! هو إحنا اللي قلنا لهم يروحوا يشتروا المضروب والمستعمل أو يجددوا الإطارات؟!".
البرلمان يتساءل: أين الحكومة؟!
لكن يبدو أن أعضاء البرلمان لهم رأي آخر، فقد ذكر النائب محمد عبدالله زين الدين، وكيل لجنة النقل بمجلس النواب، في 15 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أن غش إطارات السيارات وبيع القديم منها يمثلان خطراً مباشراً على الحياة، مؤكداً أهمية تشديد الأجهزة المعنيّة الرقابةَ على الأسواق بالكشف عن الإطارات ومعرفة مواعيد صناعاتها، ومواعيد انتهاء صلاحيتها لحماية المواطنين، لأنَّ غياب الرقابة على هذه الأسواق جعل مصر من الدول الأولى عالمياً في بيع قطع الغيار المقلَّدة، ويبلغ حجم هذه التجارة في مصر نحو 1.5 مليار جنيه (نحو 92.6 مليون دولار)، حسب تقرير هيئة السلامة والطرق.
وأكد زين الدين، في تصريحات صحفية، أن كثيرين يلجأون إلى استخدام الإطارات المستعملة؛ نظراً إلى رخص ثمنها مقارنة بالإطارات التي تباع بالتوكيلات الرسمية.
وأضاف أن هذه الإطارات أسهمت بشكل كبير في زيادة عدد الحوادث، خاصة على الطرق السريعة، فعيوب "الحالة الفنية للسيارة" تعتبر المسبِّب الأول للحوادث بنسبة 14.0%، منها الإطارات، حسب تقرير هيئة السلامة والطرق.
من ناحيته تقدَّم المهندس أكمل قرطام، رئيس حزب المحافظين وعضو مجلس النواب، بسؤال لوزير قطاع الأعمال، عن أسباب توقُّف العمل في شركة النصر للمحاريث والهندسة رغم ريادتها في صناعة إطارات السيارات، مشدداً على أهمية إعادة هيكلة الشركة وتطويرها وعودتها للعمل مرة أخرى، بما ينعش الصناعة الوطنية للإطارات.
كما تقدمت النائبة سولاف درويش، عضوة مجلس النواب، بطلب إحاطة موجَّهاً إلى المهندس عمرو نصار، وزير التجارة والصناعة، بشأن شروط استيراد إطارات السيارات سواء للملاكي، أو المقطورة، أو النقل الثقيل، موضحة أنها السبب الحقيقي في الكوارث والمذابح على الطرق والمحاور الرئيسة، حيث إن 70% من الحوادث تحدث نتيجة فساد الذمم والالتفاف على القانون بشأن استيراد إطارات السيارات.
وتساءلت: "أين رقابة الجهات المسؤولة عن الاستيراد وتطبيق الشروط والرقابة على سوق الإطارات؟ وأين دور شُعبة قطع غيار السيارات في الغرفة التجارية، ودور رئيس الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات؟ وما الجهة المنوط بها التفتيش على سلامة وصلاحية الإطارات المستوردة قبل أن تباع إلى التجار؟!".
أما شعبة قطع غيار السيارات بالغرفة التجارية المصرية فقد تبنَّت موقف المصدر الأمني، ودافعت بدورها عن الإطارات المستوردة، وأنها ليست مسؤولة عن حوادث السيارات وأرجعتها إلى رعونة السائقين، وتجاوز السرعة المسموح بها، وسوء التعامل مع ضغط الهواء في إطارات السيارة.
وعما يحدث من مهازل في ورش قرية "ميت حارون" وأمثالها من المناطق، قالت الشعبة إنها غير مسؤولة عنه، لأن تلك الورش غير مرخصة، في حين يقتصر عمل الشعبة على الورش المرخصة فقط، حيث تتأكد من استيفائها للاشتراطات الفنية قبل الحصول على رخصة تجارية، حتى لا يقوم أصحابها ببيع قطع غيار مغشوشة.
ليس هناك شئ اسمه استيراد إطارات مستعملة في مصر
خالد سعد، رئيس رابطة مُصنّعي السيارات، صرح بأنه من الناحية الرسمية لا وجود لما يسمى استيراد الإطارات المستعملة، وما يوجد منها بالسوق المصرية إما مستعملة داخل البلاد، وإما مهرَّبة، مضيفاً: "إحنا مسموح لنا نستورد المطاط، وجُنوط الإطارات فقط، وللأسف ارتفاع الجمارك أدى إلى زيادة التهريب، وزيادة عمل ورش تجديد الإطارات".
وتابع: "تجديد الإطارات صناعة معروفة بالخارج، ولكن في مصر تتم داخل ورش غير مرخَّصة وبطرق بدائية، تهدد الصناعة، وبعض تلك الورش تبيعها على أنها إطارات جديدة، وتضع اسم ماركات عالمية، ولهذا على أي صاحب سيارة أن يحصل على الإطار من التوكيل المعتمد، أو محل قطع غيار مرخَّص، لأن الإطار له مدة صلاحية، حتى لو لم يُستخدم".
في السياق ذاته، رأى عفت عبدالعاطى، رئيس شعبة السيارات، أن وجود ورش تجديد الإطارات بعيدة عن الرقابة يهدد حياة السائقين، لأن المطاط مادة صناعية لها مدة صلاحية، ولا تجوز إعادة تجديد إطار مستعمل، فالإطار لا بد من تغييره بعد انتهاء صلاحيته، مؤكداً أنه لا يوجد ما يُسمى استيراد "إطارات مستعملة" بشكل رسمي.
عقوبة قانونية ضعيفة
كشف تقرير حديث صدر عن هيئة الطرق والسلامة، أن من الأسباب الرئيسية لحوادث الطرق في مصر، تعطُّل أجزاء معينة بالسيارة؛ وهو ما يؤدي إلى عدم القدرة على التحكم فيها بشكل كافٍ، وأبرزها الفرامل والإطارات، بسبب استخدام قطع غيار مقلَّدة، أو مضروبة.
رغم أن عقوبة الغش والتدليس، وفقاً للمادة الثانية من القانون رقم 281 لسنة 1994، لا تقل عن الحبس عاماً، وغرامة لا تتجاوز 20 ألف جنيه، فإنها وفقاً لقانونيِّين تشجع على الغش، لأنها عقوبات هزيلة، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على حياة المواطنين.
يوضح سامح السيد، وكان يعمل مديراً للمبيعات بأحد توكيلات السيارات المشهورة في مدينة السادس من أكتوبر، أن إقبال الناس على شراء تلك الإطارات المستعملة رغم معرفتهم بخطورتها، سببه ارتفاع أسعار الإاطارات الجديدة بشكل كبير، ويرجع ذلك إلى أنها تبيع القطعة الأصلية المعتمدة، مؤكداً أن التوكيلات بها رقابة مشدَّدة من قِبل فنيِّين متخصصين ومتمكِّنين من عملهم، ولديهم خبرات تراكمية بتفاصيل السيارات وأنواعها، ولا تجب مقارنتهم بالورش العشوائية أو المحال التجارية.
لكنه يلفت النظر إلى نقطة مهاة ربما تغيب عن نظر المشتري، وهي أن بعض وكلاء السيارات في مصر يتحايلون على القانون ببيع السيارات دون ضمان على الإطار، بدعوى أنه مسؤولية الشركة المصنّعة له، والمفترض أن يهتم الوكيل بتوفير ضمان الإطار من الشركة المُصنّعة له قبل بيع السيارة.
وينصح مدير المبيعات المواطنين بشراء الإطارات الجديدة، لكونها مصمَّمة لتتحمل درجات الحرارة المرتفعة، عكس المستعمل الذي توجد به ثقوب تُسرّب الهواء داخل طبقات الكاوتش، وتؤدى إلى تلفه وانفجاره مع مرور الوقت.
ويُنهي حديثه بأنه يعلم أن نصيحته ستذهب أدراج الرياح، في ظل الحالة الاقتصادية البائسة التي يعانيها أغلبية المواطنين، قائلاً: "كل برغوت على قَد دمه، والفقر خلَّى الناس كلها براغيت ودمهم رخيص!".