منذ ما يقارب الشهر والنصف، وصلني على بريدي في "صراحة" رسالة طويلة عريضة أرقتني وقضّت مضجعي مفادها وموجزها: "أنا طالبة في السنة الأخيرة من الجامعة، كنت مخطوبة لشاب أحبني كثيراً وأحببته حباً شديداً، وكنا نعد الليالي ونحسب الدقائق حتى يأتي اليوم الموعود ونُزفّ إلى بعضنا البعض ويكتمل الناقص مننا بنا، لم يقصر معي في موقف، ولم يخذلني في مرة، ولم أجده غائباً حيث كان يفترض به الحضور، أو متأخراً حيث يجب عليه الإبكار، ولكنه لم يحبني بالشكل الذي كنت بنيته في أحلامي، لم يكن البطل الذي تخيلته في سطور الروايات أو صفحات كصفحتك وصفحة غيرك، قرأت ذات يوم أن شاباً أغرق المدرج الذي تدرس فيه خطيبته بقطع الشوكلاته يوم عيد ميلادها، وتمنيت أن أحظى بنصف الفرحة التي رأيتها في عينها يوم عيد ميلادي، جاء عيد ميلادي دخلت المدرج وخرجت منه ولم تتساقط قطع الشوكولاته، ووجدت خطيبي في نهاية اليوم ينتظرني على بوابة الجامعة بوردة وقطعة مربعة من الشوكلاته، أخذتها وألقيت عليه السلام وشكراً فاتراً وتظاهراً بارداً بالفرحة وغادرنا في صمت.
تكررت هذه المواقف، كان يقدم قدر استطاعته وما وسعه ليسعدني، لكني كنت أنتظر شيئاً آخر توهّمت أني أريده، كنت أنتظر سعادة غيري بينما كان يبحث عن سعادتي فضلّت طرقنا، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وجرت رياحنا إلى نهايتها وذهب كل إلى طريقه، هل أخطأت أنا؟ أم أخطأ المجتمع بحقنا؟ أم يتحمل هو بعضاً من الخطأ أيضاً؟".
يكمن خطر الفضاء المفتوح الذي نعيش فيه في مجتمع هذه الأيام في رفع سقف التوقعات بشكل رهيب، وتوجيهه باتجاه مناطق معينة لا غير، وإعادة تعريف مضامين كالسعادة والنجاح والحب والهدايا والسكينة والمودة بطريقة تضر المجتمع وتهدد نسيجه وبناءه، فعلى سبيل المثال: لم يعد الشاب الذي ينوي التقدم للزواج أو الخطبة أو حتى الإفصاح عن حبه للفتاة التي يتمناها بقلبه مضطراً فقط لتوفير مستلزمات الزواج المبالغ فيها بسبب تقاليد المجتمع واشتراطاته من شقة، ومهر، ومصروفات للقاعة والزفاف، ومجاملات في المناسبات، واستقرار مادي واجتماعي لا بد منه، وتعقيدات ما أنزل الله بها من سلطان فحسب. لم يعد مطالباً بكل هذا فحسب بل صار مطالباً بأن يجاري الصورة التي وضعتها مواقع السوشيال ميديا للخطيب المثالي والحبيب الخارق الذي يفاجئ خطيبته كل يوم بشيء مختلف، والفارس المجنون الذي يتخلى عن كل حياته وينذر نفسه وأنفساً أخرى جنب نفسه لحبيبه، والعاشق الولهان الذي يقاوم الحجج والأعذار ويسلم عليها صباحاً ومساءً، وإن لزم الأمر يمر عليها ويسلم عليها بالظهيرة أيضاً. بات الشاب ضحيةً وأصبحت كذلك الفتاة فريسة لهذا الواقع الجديد ما يضعنا أم العديد من التساؤلات، ومن أرقته التساؤلات وجد الإجابات فتعالوا نبحث عن الإجابات ونفندها سوياً في نقاط كما عودناكم دائماً:
1- كشف العالم الحر لنا أسرار الدنيا كلها، وفتحت مواقع التواصل الاجتماعي أعيننا على مختلف القصص من كل قارات المعمورة، وعرفنا على ثقافات وتجارب متنوعة الجوانب متعددة الاهتمامات، لكن هل بالمقابل غطى علينا نحن؟ هل طمس التجربة الشخصية الخاصة بكل فرد فينا؟ هل دفن الـ "أنا" التي تكمن داخل كل منا؟ اسأل نفسك: هل تريد أن تخطب الآن هل تتمنى أن تجد من تشاطره الحب الآن لأنك تريد ذلك حقاً؟ لأنك شعرت بميلك لفلان بالفعل؟ أم لأنك ترى فلاناً ينشر السعادة ويعلن ابتهاجه وفرحته كل تارة وبمناسبة وبلا مناسبة بعد خطبته، ويتحدث عن جمال الحب وروعة شريك حياته ودفء العلاقة التي يعيش بها؟ هل تتمنى أن تعيش هذه القصة فعلاً لأنك رأيتها قد أسعدت ألف وباء وجيم فلماذا لا تكون أنت دال وتستمر السلسلة؟
أذكر ذات يوم عندما كنت بالمملكة العربية السعودية أن شاباً ذهب إلى الحلاق ومعه صورة للاعب البرازيلي رونالدينيهو يطلب منه أن يجعل شعره مثل هذا اللاعب بالتمام والكمال. في يومنا هذا يتمنى الجميع أن يصبح مثل هذا بالتمام والكمال في كل شيء وليس في قصة الشعر فقط.
2- لا ينطبق هذا المثال فقط على الزواج والحب والارتباط وإن كان هو معيار ومدار مقالنا، بل ينطبق هذا المثال على مناحي الحياة جميعها، ومفاهيم النجاح والتفوق كلها، لماذا صار في عرف مجتمعنا وعقول شبابنا أن الفتاة التي تتخرج في كليتها فتستقر في بيتها وتربي أبناءها على مبادئ الإسلام وتسهم في إنشاء حياة أسرية هادئة ومجتمع مستقر ووطناً متماسكاً فتاة فاشلة وتقليدية ويشار لها على سبيل السخرية "دي كل أملها تتجوز وتستت"؟ لماذا نعتبر الطالب الذي يأخذ مواده في الجامعة على محمل الجد ويجتهد في دراسته الأكاديمية قدر ما استطاع ليحظى بوظيفة جيدة تكفيه قوت يومه ويعيش حياةً هادئة محافظاً على دينه معلماً بيته وأسرته مراعياً فيهم ربه شخصاً دقة قديمة ورجلاً عادياً لا يجب أن نتخذه كقدوة أو نعتبره مثالاً حسناً؟ لماذا بات إظهار النجاح أهم من النجاح ذاته؟ لماذا صار التفاخر بالإنجازات وإبرازها أهم من الإنجازات نفسها؟
هل يريد جميعنا السفر والتجول حول العالم والهجرة من البلد؟ هل نحتاج كلنا أن ننشئ بادئة الأعمال الخاصة بنا؟ هل يليق بنا جميعاً أن نلقي بدراستنا وكلياتنا في مهب الرياح ونلتفت للأنشطة التطوعية والمجتمعية؟ هل يليق بنا جميعاً هذا اللون؟ أشك!
3- قدسية حياتنا الشخصية تتهاوى، وأمورنا التي كانت سرية باتت على المشاع، شرع الإسلام فقأ العين إن تسوّر أحدهم على بابك "المغلق" وحاول النظر منه. ونحن نشرع أبوابنا للجميع، للذاهب والغادي، للقريب والغريب، يعرف الجميع عنك كل التفاصيل، ماذا تأكل ماذا تشرب! ما طبيعة علاقتك بأهلك وكيف تعاملهم ومن تحب منهم ومن تكره؟ أين تذهب أين تتنزه أين تقضي أمسياتك أين تتناول طعامك؟ تخيلوا يا إخوتي أن الممثلة الأمريكية سيئة السمعة كيم كارديشان كوّنت ثروتها من السماح لبرامج الواقع في التلفاز بتصوير حياتها 24 ساعة وإتاحتها للناس، نحن نتحول جميعاً إلى كيم كارديشان ولكن بلا ثروات طائلة كثروتها.
فصل القول ومسك الختام:
نحن نتحول لمسوخ دون أي شخصية وأي هوية، كلنا نماذج مكررة مستنسخة نتوّهم سعادتنا في أمور لا نريدها، ونضع شغفنا في مساحات لم نقترب منها يوماً، ونسأل الله الستر..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.