قبل حوالي شهر، وبعد وقتٍ قصير من بدء الاحتجاجات الجماهيرية في العراق ضد الحكومة، وصل الجنرال الإيراني قاسم سليماني إلى مطار بغداد في زيارةٍ ليلية. ثم واصل زيارته على متن مروحيةٍ من المطار إلى قلب المنطقة الخضراء في بغداد، التي تضم وزارات الحكومة العراقية ومقر وزارة الدفاع، إلى جانب السفارة الأمريكية، وفقاً لتقرير نشرته وكالة The Associated Press.
وفاجأ سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، مجموعةً من كبار المسؤولين في قوات الأمن العراقية حين حضر لإدارة اجتماعٍ كان من المفترض أن يرأسه رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي.
وتمكَّن بعض الصحفيين التابعين لوكالة The Associated Press من التحدث إلى اثنين من كبار المسؤولين العراقيين الذين شاركوا في الاجتماع، أو أبلِغوا بما حدث لاحقاً. وقال المسؤولان إنَّ سليماني قال للمشاركين العراقيين في الاجتماع: "نعرف في إيران كيفية التعامل مع الاحتجاجات".
تقول صحيفة Haaretz: يبدو أنَّ المسؤولين العراقيين بدأوا العمل بإرشاداته في الأيام القليلة التالية: إذ فتح بعض القناصة، الذين يتهمون بأنَّهم أعضاء في ميليشياتٍ شيعية مسلحة، النار على المتظاهرين. وقُتِل حوالي 150 متظاهراً. ثم استؤنفت الاحتجاجات قبل أسبوع، بعد توقف استمر 3 أسابيع، وقُتِل العشرات مرةً أخرى في جميع أنحاء العراق.
وعلى غرار الاحتجاجات التي بدأت في منتصف الشهر الماضي أكتوبر/تشرين الأول في لبنان، أعرب المتظاهرون العراقيون عن استيائهم من الوضع السياسي الداخلي، الذي يشهد فشل الحكومة في التعامل مع القضايا الاقتصادية، وتفشي الفساد، وإنفاق الأموال على القطاعات والجماعات النافذة، مثل الميليشيات الشيعية المؤيدة لإيران في العراق وحزب الله في لبنان. وقد ظهرت مشاعر معادية لإيران في خلفية هذه المظاهرات؛ إذا دعا بعض المتظاهرين في كلا البلدين طهران إلى التوقف عن التدخل في شؤونهم الداخلية. بل إنَّ بعض المحتجين في العراق أحرقوا العلم الإيراني، وتظاهروا أمام القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء، التي تعد مدينةً مُقدَّسة للشيعة، بل وأحرقوا جدار القنصلية نفسها.
في لبنان قد لا يختلف الحال كثيراً
وفي لبنان كذلك، يعمل حزب الله على قمع الاحتجاجات، لكنَّه لم يستخدم الأسلحة النارية في قمعها حتى الآن، بل أرسل شبيحةً على دراجات نارية مُسلَّحين بالهراوات لضرب المحتجين وتخويفهم، لكنَّه فشل في ذلك حتى الآن. وفي منتصف الأسبوع الماضي، أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الشريك الرئيسي لحزب الله في الائتلاف الحكومي، استقالته بسبب الاحتجاجات.
تقول هآرتس: تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سليماني كان مُحقاً. فالإيرانيون لديهم خبرةٌ في قمع الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة النطاق. ففي عام 2009، أي قبل حوالي عام ونصف من اندلاع ثورات الربيع العربي، قمعت السلطات في طهران مظاهرات جماهيرية بدأت في أعقاب مزاعم تزوير الانتخابات الرئاسية قمعاً وحشياً. وفشلت ثورة الحركة الخضراء. ولكن حتى الآن، يجد الإيرانيون صعوبةً في نقل هذه الخبرة إلى حلفائهم في بغداد وبيروت.
فالاحتجاجات ما زالت مستمرة، وقد أدت في العراق إلى سفك الكثير من الدماء. ويبدو أن سقوط الحكومة في بيروت يثير قلق طهران ورجلها في بيروت: الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي اتهم الولايات المتحدة وإسرائيل في خطاباته الأخيرة بدعم الاحتجاجات من وراء الكواليس. وقد كرَّر الموقع الإلكتروني لـ "المرشد الأعلى" الإيراني علي خامنئي هذه المزاعم.
كيف ترى إسرائيل هذه الاحتجاجات؟
تضيف هآرتس: لكن من الصعب تصديق هذه المزاعم من إيران وحزب الله. فمن المنظور الإسرائيلي، لا توجد أي مؤشراتٍ في الوقت الحالي على ظهور تداعياتٍ فورية للتوترات القائمة في بيروت. إذ تتابع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الأحداث بعنايةٍ، لكنَّها ليست قلقة حتى الآن. فالاحتجاجات المستمرة في البلدين يمكن أن تزعزع ثقة القيادة الإيرانية، التي بدا في الأشهر الأخيرة وكأنها حققت سلسلةً من النجاحات، في ظل عدم وجود رد أمريكي على أفعالها العسكرية في الخليج، واستسلام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تخلت عن الأكراد في شمال سوريا.
وترى إسرائيل أنَّ الاحتجاجات تلحق الضرر بالشرعية التي اكتسبها حزب الله بفضل مشاركة وزرائه في الحكومة اللبنانية. وكذلك كان من المريح جداً لنصر الله أن يختبئ وراء الحريري. ويبدو أنَّ تقسيم الغنائم في الحكومة قد مكَّن حزب الله من توفير سبل العيش لأفراده بالسماح لهم بالانضمام إلى بيروقراطية الوزارات الحكومية الخاضعة لسيطرة حزب الله. وقد كان ذلك بمثابة ربحٍ خالص لحزب الله في الفترة التي عانى فيها انقطاع الدعم المالي الإيراني، الذي نتج عن عقوبات أمريكية أشد قسوة على إيران.
هل تخشى تل أبيب هذه الأحداث؟
ويُذكَر أنَّ حزب الله اتخذ خطواتٍ أعنف في الماضي، من بينها ما حدث في عام 2008، حين هدَّد الحزب بدخول مواجهةٍ مباشرة مع الحكومة، بعدما طلبت منه إخراج رجاله من جزءٍ من مجمع مطار بيروت، والتوقف عن استخدام بنيتها التحتية الوطنية. وعلى المدى البعيد، يمكن أن تؤدي المواجهة الداخلية المستمرة في لبنان إلى تعريض إسرائيل للخطر، تقول هآرتس؛ ففي عام 2006، وافق نصر الله على خطف جنود إسرائيليين بسبب التوترات الداخلية في لبنان، مما أسفر عن اندلاع حرب لبنان الثانية.
غير أنَّ حزب الله كان يواجه نوعاً مختلفاً من المتاعب آنذاك. إذ كان الحريري وأنصاره يتهمون نصر الله بقتل رفيق الحريري، والد سعد ورئيس وزراء لبنان الأسبق، في اتهاماتٍ كان لها ما يبررها على ما يبدو. وتزايدت المطالبات في لبنان آنذاك بنزع سلاح حزب الله، وهو وعدٌ لم يُنفَّذ قط، بالرغم من إدراجه في اتفاق الطائف الذي أبرِم في عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية في البلاد. وكذلك كان الهدف من التصعيد مع إسرائيل هو تمكين نصر الله من تقديم نفسه مرةً أخرى على أنَّه حامي حمى لبنان.
كيف تتأثر الساحة الفلسطينية بهذه الاحتجاجات؟
وعلى صعيدٍ آخر، تعكس الاضطرابات في لبنان والعراق بصورةٍ غير مباشرة ما يجري على الساحة الفلسطينية. ويبدو أنَّ المؤشرات على اندلاع موجةٍ ثانية من انتفاضات الربيع العربي تُجدِّد إيقاظ المطالبات غير المحققة بتعزيز العمليات الديمقراطية في العديد من البلدان العربية. إذ تعاني الضفة الغربية وقطاع غزة من حالة عدم استقرار سياسي، لأنَّ آخر انتخابات جرت في الأراضي الفلسطينية كانت في عام 2006. ويُدرك محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الانتقادات المتزايدة ضده في الضفة الغربية، وكذلك نموذج الاحتجاجات الشابة السلمية العلمانية في الأساس، الذي يتبناه المتظاهرون في بيروت، والذي قد يُغري إخوانهم في رام الله. وهذا يكمن في خلفية الحوار العام الذي يجريه عباس مع حماس بشأن إمكانية إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية فلسطينية جديدة.
ولذلك، فالحوار الذي بدأ في صورة تبادل اتهاماتٍ بين عباس وحماس يمكن أن ينتهي نهايةً مختلفة. وكما أشار مايكل ميلشتاين من مركز موشيه ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية بجامعة تل أبيب، فهناك ديناميات كثيراً ما تنشأ في الأراضي الفلسطينية وتكون أقوى من المصالح الأساسية للأطراف المعنية. لذا يمكن أن يتطور الوضع ويتحول إلى موقفٍ يخشى فيه كلا الطرفين المتنافسين أن يُنظَر إليه على أنَّه الجانب الذي يعارض العملية الديمقراطية، ومن ثَمَّ، سيعربان عن استعدادهما لإحراز تقدم نحو الانتخابات. وهذه التطورات يمكن أن تؤثر على إسرائيل، كما قال ميلشتاين لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
وعلى غرار ما حدث في عام 2006، قد يطالب الفلسطينيون بإجراء انتخاباتٍ في القدس الشرقية كذلك. ويُذكَر أنَّ حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون استسلمت لضغوط إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن آنذاك. ولكن في ظل الظروف السياسية الحالية، فمن الصعب تصديق أنَّ حكومة إسرائيلية -برئاسة بنيامين نتنياهو أو حتى بيني غانتس- ستوافق على تقديم مثل هذا التنازل.