هل تمجِّد «الأوسكار» فيلماً يبرِّر العنف ويُحرض عليه؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/01 الساعة 15:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/01 الساعة 18:16 بتوقيت غرينتش
الجوكر

 "الجوكر" هو الفيلم الأكثر إثارةً للجدل في الآونة الأخيرة، وهو الأكثر تعرضاً للهجوم من بين كل الأفلام التي تناولت تلك الشخصية. وكما تعرَّض الفيلم للنقد اللاذع الذي وصل إلى حد الاتهامات، فلقد تلقَّى أيضاً المديح والثناء.

حصل الجوكر على جائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 2019، كما حقق أرقاماً قياسية للإيرادات في الأيام الأولى من عرضه، بالإضافة إلى النجاح الكبير حول العالم، لكن ذلك لم يمنع عدداً من النقاد وأيضاً عدداً من أعضاء الأكاديمية المعروفة بالأوسكار من إبداء قلقهم وحيرتهم إزاء مشاركة الفيلم في التنافس على جوائزها، فبعضهم أثنى على التصوير والديكور والتمثيل، ووصفوه بأنه يميط اللثام عن مشاكل المجتمع، وكان من بينهم المخرج المعروف مايكل مور.

لكنَّ أعضاء آخرين وجدوا الفيلم غير مريح، مليئاً بالعنف ومحرضاً عليه، بل ووصل الأمر ببعضهم لوصفه بالحقير.  

"الجوكر" هو العدو اللدود لـ"باتمان" في كل سلسلة أفلامه، وهو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها. وهو شخصية شريرة ترتكب جرائم القتل بدم بارد وجنون مطلق وبدون تبرير لهذا العنف أو الجنون.

كان أول ظهور للجوكر عام 1940 في القصص المصوَّرة، ثم توالى ظهور الشخصية فيما بعد في  السينما والتليفزيون وكذلك ألعاب الفيديو، فكانت هناك سلسة "باتمان" التليفزيونية ولعبها سيزار روميرو عام 1966 وكذلك فيلم "باتمان" وكانت البطولة لجاك نيكلسون عام 1989، بالإضافة إلى فيلم فارس الظلام، بطولة هيث ليدجر عام 2008 ، وحصل فيه الأخير على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد.

اختلفت نسخة الجوكر في 2019 اختلافاً جذرياً، فالفيلم أضفى على الشخصية وللمرة الأولى بُعداً إنسانياً أكثر عمقاً مما قدمته الأفلام السابقة.

أصبح الجوكر البطل الرئيسي، وشخصيته هنا ليست شريرة كالمعتاد، لكنها شخصية مضطربة نفسياً، سوداوية ومضطهدة. وفي جزء كبير من وقت الفيلم يتم استعراض حياة هذا البطل الذي يبدو عليه الشحوب والهزال وهو مصاب بأمراض نفسية لا يقوى على تحمُّلها. تزيد قسوة المجتمع وعدوانيته وتنمُّره من ألم البطل ومعاناته، فيجد المشاهد نفسه في النهاية قد تعاطف معه بل ووجد مبرراً للعنف الذي سينتهجه لاحقاً.

الفيلم بطولة يواكين فينيكس، وإخراج تود فيليبس الذي شارك سكوت سيلفر في كتابة السيناريو والحوار. يحكي الفيلم عن آرثر غريب الأطوار والمثير للشفقة في آن معاً، هذا الشخص الذي بلغ الأربعين ولا يزال يقيم مع أمه المريضة ويعولها. يعيش آرثر على الأدوية التي تكتبها له طبيبته النفسية والتي يبوح لها بأمنيته في التخلص من الألم الذي يشعر به، كما يشرح لها معاناته من تجاهل وإهمال مَن حوله له ويتهمها هي شخصياً بأنها لا تستمع إليه. يعاني البطل من نوبات ضحك فجائية لا إرادية تحدث في أوقات غير مناسبة فتعرضه للأذى والإهانة والضرب أحياناً ممن حوله. يعمل آرثر كمهرِّج وحلمه الكبير هو أن يصبح فناناً كوميدياً لكنه لا يمتلك مقومات ذلك. لا يوضح الفيلم ما هو المرض النفسي تحديداً الذي يعاني منه البطل، وإن كان حقاً شخصية سيكوباتية كما وصفه بعض النقاد أم لا. لكننا نتابع ذلك التحول الذي يطرأ على شخصية البطل من اللطف والاستكانة والمعاناة في صمت من قسوة المجتمع من حوله، إلى انتهاج العنف كوسيلة للانتقام ممن ظلموه وكصرخة احتجاجية كي ينتبه العالم من حوله له ويراه، فالبطل يتمنى وبشدة أن تلتفت الأنظار إليه ويشعروا بوجوده ويقبلوه. وتعد هذه إحدى أخطر الرسائل التي مررها الفيلم، فالانتقام وإراقة الدماء كانا وسيلة البطل كي يجعل الجماهير تتعاطف معه وتشعر بوجوده. فالجوكر في ممارسته لذلك العنف يصبح ملهماً للجماهير الذين خرجوا في احتجاجات وأعمال شغب وعنف يضعون أقنعة الجوكر مطالبين بقتل الأغنياء ورافضين لأوضاع مدينة غوثام التي تنهار تحت أكوام القاذورات والظلم الاجتماعي.

  في بداية الفيلم  يتعرض الجوكر للضرب على يد مجموعة من الفتية يسرقون لوحة إعلانية يروّج لها وبدلاً من تفهُّم الموقف من شركته، يتلقى العقاب من مديره بخصم ثمن اللافتة من مرتبه. تغلق البلدية المكان الذي كان يتلقى فيه جلسات العلاج النفسي وتنقطع عنه الأدوية كذلك. لا يتوقف الأمر عند ذلك فنراه يُفصل من العمل ثم يكتشف أن أمه مريضة نفسياً وأنه تعرض للإيذاء الشديد والعنف بسببها في طفولته. وأخيراً يتعرض للاستهزاء من مقدم البرامج الشهير الذي يعتبره مثله الأعلى ولعب دوره روبرت دي نيرو. هكذا تمضي بنا الحكاية تضع طبقة من القهر فوق الأخرى لتبرير ما سيقوم به الجوكر لاحقاً، وهو ما يحدث بالفعل عندما يقتل مجموعة من السكارى في المترو قاموا بالاستهزاء منه ويستمر بعدها في الثأر والانتقام ممن آذوه. لا يقدم لنا الفيلم أبعاداً أخرى من حياة البطل، فقط نرى كل ما يتعلق بمعاناته في ميلودراما مأساوية كئيبة.

 وفي سياق التأكيد على المعاناة التي مر بها البطل وقادته لما وصل إليه في النهاية، يحكي الفيلم عن طفولة آرثر وما تعرَّض له من سوء معاملة وضرب من الرجال الذين ارتبطت بهم أمه، ومعاناته من الإهمال الشديد من قبلها. وبالرغم من أن الفيلم  طرح جزئية في غاية الأهمية وهي العنف ضد الأطفال، لما له من آثار كارثية على نفسيتهم وسلوكهم، فإن الافتراض بأن التعرض للقسوة والعنف في الطفولة بالضرورة يؤدي إلى الإجرام وتحول الإنسان إلى قاتل لهو شيء مرعب، فالكثير من البشر يتعرضون في طفولتهم للقسوة والعنف، لكنهم لا يكبرون ليمسكوا بالسلاح ويقوموا بتصفية  زملائهم أو مَن أهانوهم أو يخنقوا أمهاتهم.

 رغم أن المخرج والمؤلف تعمَّدا عدم إيضاح طبيعة الأمراض النفسية التي يعاني منها البطل، فإنهم قدموه لنا كمريض  يحضر جلسات للعلاج النفسي ويتناول سبعة أنواع مختلفة من الأدوية.

ورغم وصف بعض النقاد لشخصية البطل بأنها شخصية سيكوباتية بسبب توافر بعض من سماتها في البطل، فإنني حقيقة لا أجد الأمر كذلك، فالشخصية السيكوباتية تعني باختصار أن يمتلك المريض النفسي "صفات شخصية تتسم بالقسوة وعدم إظهار التعاطف مع الآخرين أو الاكتراث لحالهم. مشاعرهم ضحلة ولا يشعرون بالذنب أو الإحراج أو الخجل. يلقون باللوم على الآخرين بسبب أخطاء هُم في الحقيقة مَن قاموا بفعلها. يمتلكون جاذبية مصطنعة ويتسمون بعدم الصدق وعدم الإخلاص وكذلك الكذب المرضي. لديهم شعور كبير بقيمة الذات. يتصفون بالأنانية وعدم القدرة على التخطيط للمستقبل، وعدم وجود أهداف واقعية لأجل طويل. لديهم حدة في الطبع وعدوانيون".  (1)

ورغم أن البطل لم يبدِ أفعالاً تدل على التعاطف مع الآخرين وكان لديه شعور بالاستحقاق في أن يكون فناناً كوميدياً على عكس الواقع، لكنه لم يمتلك أي جاذبية من أي نوع، بل امتلك هيئة خارجية تدعو إلى الرثاء والشفقة. كذلك لم يكن هناك ما يدل على أنه كاذب، بل رأيناه يتخيل أشياء غير حقيقية. لم يكن أيضاً أنانياً بل قدمه الفيلم على أنه الشخص الذي يكرس حياته من أجل أمه.

في الحقيقة لم يكن المخرج في حاجة لجعله مريضاً نفسياً لتبرير حمامات الدم التي اقترفها الجوكر، فالكثير من الجرائم ارتكبها أشخاص عاديون لم يشخّصوا بالمرض النفسي وكان يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى كونه يعاني من الاضطراب العقلي.

أعتقد أن صُنَّاع الفيلم تعمدوا جعلنا نتعاطف مع الجوكر، وأن نوجد له كل العذر في أفعاله الدموية القاسية بعد أن  استعرضوا كل ظروف وأسباب القهر التي تعرض لها، دون أن يقدموا للبطل أي مخرج آخر من كل هذا الظلم سوى العنف.

أرادوا أن يمنحوا شخصية خيالية في القصص المصورة بُعداً إنسانياً وأن يتفوقوا على مَن سبقهم في تقديم تلك الشخصية الشريرة فقدموا لنا شخصية مرعبة ربما تكون مصدراً لإلهام المختلين في العالم.

 وأخيراً وبرغم براعة أداء فينيكس في بعض المشاهد، وهو الممثل المعتاد على أداء مثل هذه الأدوار النفسية المعقدة، فإن أداءه أحياناً كان ميلودرامياً يميل إلى المبالغة. نعم لقد أتقن فينيكس دور المضطرب العقلي، وهذا بالتحديد ما جعلني والكثير من المشاهدين وكذلك أعضاء "الأوسكار" نشعر بعدم الارتياح أثناء مشاهدة الفيلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          https://www.psychologytoday.com/us/blog/mindmelding/201301/what-is-psychopath-0

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هالة منصور
كاتبة ومخرجة
أكتب في مجال النقد السينمائي منذ عام 2005 ، لي مقالات منشورة في جريدة القاهرة ودبي الثقافية. عملت كمخرجة ومذيعة في عدد من المحطات العربية مثل: عرب ميديا جروب، تليفزيون أبوظبي - ART راديو وتليفزيون العرب ، والجزيرة الوثائقية. أخرجت فيلمين وثائقيين أحدهما تسجيلي (النهاردة حصان) عام 2003 والآخر (برتغالي)عام 2005