من المؤكد أن معظم من يقرأ هذه السطور قد شاهد مسرحية "شاهد ماشفش حاجة" التي لعب دور البطولة فيها الممثل المصري عادل إمام، ومسرحية "شاهد ماشفش حاجة" لمن لم يشاهدها؛ تحكي عن رجل بسيط ساذج عديم الخبرة تقع جريمة قتل في الشقة التي تقع أسفل شقته، ويتوجب عليه أن يدخل المحكمة للمرة الأولى في حياته لكي يدلي بشهادته عن الواقعة، وتحدث خلال هذه القصة مواقف كوميدية مليئة بالإسقاط على واقع علاقة المواطن البسيط بالدولة، أبدع القائمون على العمل في تجسيدها حتى صارت هذه المسرحية من كلاسيكيات المسرح العربي في مخيلة جيلنا.
قد تستغرب صديقي القارئ وتقول وما علاقة هذه المسرحية الكوميدية بحادث القطار المأساوي الذي أبكى الكثير منا وجعل بعضنا لا ينام من الهم والكمد على الشاب محمد عيد الذي أجبر على القفز من القطار وهو بكامل سرعته، لمجرد أنه لا يحمل ثمن التذكرة، وعلى مستوى السلبية التي تردى مجتمعنا إلى أسفل دركاتها لدرجة تفرج باقي الركاب على الكمسري، وهو يرتكب هذه الجريمة في حق ذلك الشاب المسكين.
أقول لك: لا تتسرع وتظلمني فهذه المسرحية تحمل بين طيات مشاهدها الإجابة عن السؤال الذي حير الكثيرين وهم يسمعون أحداث حادثة التذكرة المريعة، كانت الناس تسأل لماذا قفز الشاب؟ ما الذي يجبر إنساناً على القفز إلى موت محتوم؟ لماذا لم يقاوم هذا الكمسري؟ أكان سيسجن، أليس السجن أهون بأي حال من هذه الميتة الرهيبة؟
ولكي أجيبك على هذه الأسئلة، أعود بك إلى بعض مواقف المسرحية والتي تعبر بعبقرية عن العلاقة بين المواطن والدولة، وما هي نظرة المواطن البسيط لسلطة الدولة عليه؟
الموقف الأول: فاتورة التليفون
يحكي سرحان هذا الموقف وهو يطعم الأرانب في حديقة الحيوان، ويقول إنه فوجئ بوصول فاتورة الهاتف وبها مكالمات زائدة 18 جنيهاً –وهو مبلغ كبير في وقت عرض المسرحية- مع العلم أنه لا يتكلم مع أحد إلا في النادر، ثم إنه في الأساس لا يمتلك تليفون! فذهب إلى مصلحة التليفونات ليتظلم ليخبروه بوجوب الدفع قبل التظلم، فيذهب إلى الخزينة فلا يجد الموظف المختص ويخبرونه أن يأتي في اليوم التالي.
وفي اليوم التالي ذهب سرحان عبدالبصير ووقف في طابور طويل؛ وعندما وصل إلى موظف الخزينة أخبره أنه تأخر في الدفع؛ ويجب عليه أن يدفع غرامة وإلا سحبت منه عدة الهاتف –التي لا يمتلكها في الأساس- فيخاف المواطن الصالح سرحان ويدفع الغرامة!
الموقف الثاني: رعب في المحكمة
مشهد المحكمة بالطبع هو الأبرز والأشهر في هذه المسرحية، بداية من رعب سرحان عبدالبصير من الوقوف أمام المحكمة لدرجة نسيانه لاسمه، وقد رأيت من واقع عملي كمحامٍ رعباً يقترب من رعب سرحان من شهود يدخلون المحكمة للشهادة على أمور لا تتعلق إطلاقاً بالأمور الجنائية – كشؤون الأسرة مثلاً- والجمل الشهيرة التي قيلت في هذا المشهد تعبر بوضوح وقوة عن نظرة المواطن للدولة وسلطتها، وأهم وأشهر هذه العبارات: السؤال المتكرر والذي لازم سرحان طوال المشهد "اسمي مكتوب؟" والذي يعبر عن رعب شديد من مجرد ذكر الاسم في الأوراق الرسمية.
عبارة أخرى عندما سألوا سرحان عن الطريقة الصحيحة لنطق اسمه فيقول: "هو أنا هعرف اسمي أكتر من الحكومة".
لو تأملنا هذه المشاهد وتمعنا في الرسالة التي تصلنا عبرها لعرفنا وفهمنا نظرة المواطن البسيط للدولة وموظفي السلطة، فالمواطن تربى في ظل حالة ضبابية عن الحقوق والواجبات، فلا يستطيع تمييز حقه من واجبه، وهذه الحالة الضبابية تعمدت الأنظمة المتعاقبة على نشرها وترسيخها في نفوس أكبر عدد من المواطنين.
فلو أنك احتجت على سبيل المثال للتعامل مع مصلحة حكومية لاستخراج أي وثيقة، فأنت لا تعرف على وجه اليقين الفترة التي قد تحتاجها لاستخراج هذه الوثيقة، وتتوجه في بداية النهار إلى المصلحة الحكومية وأنت تحمل في حقيبتك شهادة ميلادك وشهادة وفاة الجد الأول لحماتك وكل المستندات التي من الممكن أن يطلبها موظف من كتيبة الموظفين الذين ستمر عليهم أثناء إنجاز وثيقتك، كل هذا وأنت تشك في أنه قد يطلب منك رخصة مزاولة المهنة للطبيب الذي قام بتوليد جدتك، هذا الهاجس لن يفارقك إلى أن تتسلم وثيقتك وأنت تشعر بالانتصار لنجاحك في تخطي هذه العقبة الكؤود.
كلنا نحمل في نفوسنا هذا الشك تجاه الدولة، وهذا الخوف الذي كان مسيطراً على نفس سرحان عبدالبصير لنا منه نصيب، وإن كان يتفاوت من شخص لآخر على حسب مستوى وعيه وطبقته.
لو وضعت كل هذا في حسبانك، وتخيلت أنك بائع جائل مسؤول عن أسرة كاملة، رأسمالك في الحياة حقيبة بها سلع بعشرات الجنيهات، أنت تهرب باستمرار من موظفي البلدية حتى لا يصادروا بضاعتك، وتتحاشى الوقوع في أي مشكلة قد تؤخرك عن إيصال لقيمات الطعام لأمك وإخوتك، فمن الممكن جداً ألا يعجب شكلك أحد المخبرين ويأخذك إلى القسم لأنه يشتبه بك، وأنت تعرف جيداً أنك إن دخلت القسم فلن تخرج منه إلا بشق الأنفس، وفي وقت لا يعلم مدى طوله إلا الله.
في هذا اليوم لم تبِع أي شيء، فالأمطار شغلت الكل عن سلعك التي لا تسترعي انتباههم في الأساس، فوجدت أنه من الأنسب أن تذهب إلى بيتك لتجتمع مع عائلتك، المشكلة أنك لا تملك حق تذكرة القطار، إلا أنك ركبت القطار على أمل الإفلات من قبضة الكمسري، فقد جرى العرف على ترك البائعين "يسترزقوا" من البيع للركاب لعلك تبيع بعض سلعك التي فشلت في بيعها.
ركبت القطار ولم تنجح في بيع أي شيء من بضاعتك، ووجدت الكمسري يتوجه صوبك، وبعد محاولات استرضائه فوجئت به يفتح باب القطار وهو يجري على سرعته ويأمرك بالقفز، فكرت: هذا الرجل هو ممثل السلطة في القطار وإذا اشتبكت معه، فستسجن وتضيع أسرتك، وقد تصفحت وجوه الركاب عل أحدهم ينهر الكمسري أو يتوسط بينك وبينه إلا أنك لم ترَ في عيونهم إلا نظرة الفرجة للتسلية ومتابعة ما سيسفر عنه هذا الموقف المسلي، والذي قطع ضجر السفر الطويل، نظرت مرة أخرى إلى الكمسري فوجدت وجهه جامداً لا يلين، فقفزت وأنت تشكو إلى الله وحدتك وسط هذا الجمع الذي لم يخلُ من قاسي القلب أو متفرج!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.