هبّات شعبية، مظاهرات أو إن شئت قلت انتفاضات، جرت وتجري الآن في العراق، ولبنان، والسودان، وتشيلي، وهاييتي، والجزائر، ومصر، وفرنسا، وغيرها من مختلف البقاع على وجه كُرتنا الأرضية. أعراق وأديان وطوائف وطبقات اجتماعية مختلفة تتجسد الآن في الميادين، تعلن الرفض والاستهجان لحال العالم ومآلات الأمور على كوكب الأرض.
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني الآن هو: هل تزامُن هذه الانتفاضات مجرد صدفة كونية؟ هل اشتعلت نار الغيرة فجأة بين شعوب العالم فقرروا تقليد بعضهم بعضاً؟ أم أن هنالك روابط حقيقية بين هؤلاء الأفراد الذين يملؤون ساحات العالم الحقيقي والافتراضي؟
الطعمية وصندوق النقد الدولي
قامت العولمة، عن طريق الأسواق والمؤسسات الدولية ذات الطابع الإمبراطوري، مثل البنك الدولي والبورصات العالمية والأمم المتحدة، بجعل العالم متصلاً بعضه ببعض، لتضمن تدفق السلع والبضائع والمنتجات الثقافية والسياسية بشكل سلس ومستمر وبلا عوائق. تنتقل هذه البضائع في اتجاه معاكس لاتجاه رأس المال، إذ تنتقل البضائع من عواصم الهيمنة والسلطة إلى ضواحي الفقر والجوع، وفي المقابل تتحرك الأموال من عواصم الفقر والجوع إلى عواصم الهيمنة. في هذا الطريق تمت التضحية بقدر كبير من سلطة وسيادة الدولة القومية، من أجل من يسمون بالفاعلين العالميين، صحيح أن الدول باقية -حتى اللحظة- لكنها لم تعُد ذلك الفاعلَ المهيمن والمسيطر على مجريات حياة وعقول وخيال أفراد المجتمع كما كانت قبل قرن مضى. "الفاعلون العالميون" هو الاسم المهذب الذي يطلق على مؤسسات النَّصْب العالمية التي يرتدي ممثلوها رابطات عنق في غاية الجمال وبذّات آية في الروعة، ويجتمعون في فيينا وفينيسيا وتلك المدن البرّاقة.
ومن أجل إتمام عملية العولمة والإحلال للفاعلين الجدد محل الفاعلين القدامى، تجري عملية إذابة أو إزالة الحدود كافة، وتسييل لكل ما هو صلب، بحيث تفتح الأسواق والعقول كافة أمام حركة الأموال العالمية بأقل قدر من القيود والمراقبة والتدخل من أي كيان أو فرد. فلم يعد ممكناً تصوُّر دول العالم المعاصر كمجموعة من الجزر المنعزلة بعضها عن بعض، ولا يمكن تصوُّر أي مؤسسة اجتماعية (مثل الأسرة)، اقتصادية مثل (سوق العمل)، سياسية (مثل الدولة)، أو دينية (مثل المساجد والكنائس) كمؤسسات مستقلة صلبة تتمتع بدرجة عالية من السيادة تمكّنها من توليد قراراتها من داخلها بما يتوافق مع توجهاتها ومصالحها مع إهمال كامل للعوامل الخارجية.
على سبيل المثال، يؤثر قرار صندوق النقد الدولي بإقراض مصر عدة مليارات في قرار أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة إرسال ابنها إلى الجامعة من عدمه. لأن صندوق النقد الدولي سيفرض على مصر عدة شروط، مثل رفع الدعم عن رغيف الخبز والمحروقات والماء والكهرباء؛ وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع في أسعار معظم السلع الحيوية، وزيادة مصاريف الأسرة بشكل قد يتعذر معه إرسال ابنها إلى الجامعة، والصبر 4 سنوات كاملة حتى يصير قادراً اقتصادياً. كما سيؤثر أيضاً في كل تفصيلة بحياة أفراد الأسرة، وضمن ذلك حصة الفرد من الطعمية (الفلافل) المأكولة في كل صباح.
وتتبع هذه الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي على الدول سياسة الـ "نيو ليبراليزم" أو الليبرالية الجديدة.
على المستوى الاجتماعي، فلقد صار من المستحيل أن يؤذّن أحدهم في مالطا دون أن تلتقط أذنٌ ما، أذانه أو دون أن تلتقط له كاميرات المراقبة المحيطة صورته وتسجّل حديثه. ولم يعد من الممكن أن تغنّي على ليلاك. فليلى لم تعُد حبيبتك وحدك، ولا يمكنك أن تغنّي أغنية لم يغنها أحدٌ من قبلك. فكل الأغاني قد تم تلحينها وإذاعتها بالفعل، وكل ما يمكنك فعله هو ترديد أغنيةٍ ما أو إعادة تلحينها مرة أخرى. وأزيدك من الشعر بيتاً، ليس من حقك أن تختار الأغنية التي تود غناءها أو تلحينها. كل كلمات الأغنية مفروضة عليك من أعلى، من خارج نطاق سيطرتك، لكن إن أنت فشلت في الغناء أو التلحين فأنت المسؤول الأول والأخير عن ذلك الفشل.
نحن في عالم فرضت فيه المؤسسات والنظم الكبرى كل قواعد اللعب على المشاركين المجبَرين، مجبَر بحكم أنه موجود بالفعل على ظهر الكوكب، ثم تخلَّت عن المسؤولية ووضعتها على عاتق الأفراد تحت دعاوى تحرير الإنسان من القيود. هذا هو مصير الإنسان في الزمن المعاصر، زمن "التحرير العظيم" للفرد، الزمن الذي سيصبح فيه الفرد حراً من النسيج المحكم لعلاقات الاعتماد المتبادل والمراقبة والإلزام التي تتسم بها الحياة الاجتماعية، كما يقول زيغمونت باومان. سيتحرر الإنسان مقابل أن يكون هو المراقب والمُلزم على نفسه، أن يكون هو المسؤول عن كل ما يحدث في حياته وإن لم يكن له أي حرية اختيار حقيقية.
لقد تم ربطنا جميعاً كأفراد، قسراً، في أطول سلسلة قهر عرفها التاريخ البشري. وأي محاولة لإنكار أثر العولمة على مستوى حياتنا، سيواجهها بالرفض القاطع والاستهجان هاتفك الآيفون الذي صنعه رجال ونساء صينيون، وتم تجميعه في ولاية كاليفورنيا، ثم قطع المحيط ليصل إلى يدك، لتقرأ هذه الكلمات المكتوبة في مدينة إسطنبول.
ماذا يمكن أن يُنتج مثل هذا الوضع سوى اللامبالاة والأنانية والتمحور حول الذات، والابتعاد عن كل ما يخص الشأن العام. لم يكن لمثل هذه المنظومة سوى أن تنتج هجرة نحو كل ما هو خاص، يغذّي انعزال الأفراد، ويتصور أن يكون فيه خلاصهم الفرديّ. هجرة تُرضي ملذات الفرد وتُشبع رغباته الأنانية على حساب كل ما هو جماعي وتكافليّ وتراحميّ. بلغة أخرى، لقد مات المواطن المهتم بشؤون الوطن وأحواله، من أجل أن يحيا الفرد وملذاته.
بهذا الموت بدأت السياسة في الانزواء إلى الركن البعيد الهادئ، وصارت مجالاً غير مثير للاهتمام، لأنه لا يُرضي أية رغبات فردية.
من أجل مزيد من الطعمية
إذن، ماذا تفعل هذه الملايين في شوارع وميادين العالم؟ ما الذي يجبر مليون تشيليٍّ على النزول معاً في مظاهرة ضد سياسات الإفقار والتجويع، ضد النيوليبرالزم؟
في الوقت الذي كانت تنتشر فيه الفردية كما تنتشر النار في الهشيم، كان الملل والضجر والرتابة تنتشر أيضاً. كان وعدُ الحرية الذي مُنح للأفراد يتآكل أمام تحت تروس ماكينة الروتين والانتظام والتكرار. الفرق الوحيد عن الماضي هو أن كلاً منهم صارت له ماكينته الخاصة التي تلتهم حياته أمام عينيه. ولم تصبح حياة كل منهم رحلة وقصَّة فريدة مميزة تختلف عن بقية رحلات أبناء جلدتهم كما تخيلوا، ليدركوا أنَّ وعد التحرر العظيم والانعتاق من قبضة المؤسسات الاجتماعية التسلُّطية لم يعُد كونه سراباً براقاً يلوح في الأفق. وإن التغيير الذي حدث هو أنهم صاروا فريسة للمؤسسات والنظم الكبرى البعيدة التي لا يمكن أن تراها أعينهم.
فهل سمعت عن أحد رفع قضية يوماً ضد صندوق النقد الدولي، لأنه أدى إلى تقليل حصته من الطعمية؟ أو ضد مؤسس موقع فيسبوك مارك زوكربيرغ، لأنه سرَّب بياناته الشخصية؟
لا يمكنك فعل ذلك، وإن سمح لك فإنك ستكون مثار سخرية أياماً طويلة على فيسبوك، وستكون قصتك مُلهمةً لصنَّاع الكوميكس بالعالم. في المقابل، بإمكانك رفع قضية على أبيك إن هو أساء معاملتك، أو ضد معلمك إن ضربك في الفصل.
موجة من القلق والتوتر ضربت شبان وشابات العالم، توتر ممزوج بالقرف والغضب من سياسات الإفقار والنصب المتواصلة، ومن الشعور الدائم بفقدان السيطرة على حياتهم، السيطرة والتحكم اللذان وُعدوا بهما. هذا دفعهم إلى مغادرة الفقاعات التي تم تسكينهم داخلها خلال العقدين الأخيرين، مع ارتفاع وتيرة عمل تلك السياسات وبدء موسم حصادها. فقرروا النزول إلى الشارع مرة أخرى؛ علَّهم يجدون من يشاركهم مشاعر الضجر والإحباط نفسها.
في هذه اللحظة من التاريخ، يمكن ادعاء أن هذه المشاعر قد بدأت في الانتصار على
مشاعر ونزعات اللامبالاة والأنانية. المفارقة هي أن النيوليبراليزم والأوضاع التي
أنتجتها تواجه أزمة عالمية حادّة من إنتاجها شخصياً. فالأفراد الذين يملؤون
الساحات الآن ليسوا سوى منتجات رأسمالية/نيوليبرالية بدرجات متفاوتة، وأعدادهم
ضخمة تماماً كما الهواتف والقمصان التي يتم إنتاجها بكميات هائلة لإغراق الأسواق.
وهُم أبناء العالم الذي لا يؤمن بأنه قد "قتل الإله"، ولم يعد يوجد أية
حدود تقف عندها قدرته على الفعل والإنجاز، وهم أبناء خطابات التنمية البشرية التي
تضخّم الذات وتجعل المرء يتصور أنه قادر على قهر المستحيل.
لا أعلم إن كانت السياسات النيوليبرالية والنظم المحلية ستنجو من
هذه الأزمة أم لا، لكن المؤكد أن العالم لن يعود إلى صورته السابقة.
لكن تتبقى معضلة رئيسية لا بد من حلّها حتى تُترجم التضحيات
والجرأة الموجودة في الميادين إلى نتائج ملموسة وتغيير حقيقي، ألا وهي استعادة
السياسة من الموت، إعادة إحياء المواطن الذي قُتل من أجل أن يعيش الفرد، الخروج من
عالم الأفكار اليوتوبية، والانتقال إلى عالم الهيمنة حينها قد تزداد حصة الجماهير
من الطعمية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.