"أودُّ أن أتولى تدريب أحد المنتخبات الوطنية. عاجلاً أم آجلاً، سيحدث ذلك".
هكذا كانت إجابة بيب غوارديولا بعد أن وُجِّه إليه سؤال حول الأهداف التي يطمح إلى تحقيقها في عالم الكرة. وجاء هذا التصريح كجزء من حديث بيب كمتحدث رئيسي في المحاضرة السنوية التي تقام بقسم اللغات والثقافات الحديثة في جامعة ليفربول. وعلى الرغم من اشتمال ذلك الحديث على آراء بيب في السياسة والثقافة والشعر والاختلاف الجذري بين كرة القدم في إسبانيا وألمانيا وإنجلترا، فإن هذا التصريح تحديداً تصدَّر عناوين الصحف والمواقع، والسبب هنا أن المتحدث هو بيب غوارديولا وليس مديراً فنياً آخر.
يبقى بيب غوارديولا مدرباً له فلسفة خاصة، ونجح في ثلاثة أندية تولى إدارتها الفنية، في ثلاث دول مختلفة، عن طريق فرض تلك الفلسفة. لكن وفي سبيل إعلاء تلك الفلسفة، حرص بيب على أن يمتلك من الأدوات والأساليب ما يساعده على أن يفرض تلك الفلسفة، فهل يستطيع بيب أن يستمر في ذلك إذا ما تولى تدريب أحد المنتخبات أم يلقى مصير العبقري الأخر أريغو ساكي؟
لماذا يعتبر تدريب المنتخبات مختلفاً: أريغو ساكي مثالاً
لم يكن ساكي بأقل من غوارديولا، خاصةً فيما يتعلق بتناول كرة القدم بشكل مختلف. أحدث ساكي ما يمكن أن نسميه ثورة في عالم كرة القدم، وهو ما أفرد له جوناثان ويلسون فصلاً خاصاً في كتابه الشهير "الهرم المقلوب"، حيث أوضح ويلسون تمركز فلسفة ساكي، الذي تولى تدريب نادي إيه سي ميلان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حول إدراك أهمية مكان اللاعب في الملعب، وأهمية تحركه ليتناسب مع تحرُّك زملائه وتحركات الخصم، ومكان وجود الكرة، كما أنه قرر التخلي عن استخدام التكتيكات الدفاعية القديمة مثل الليبرو والرقابة اللصيقة، وطوَّر فكرة دفاع المنطقة، الذي يقتضي الاعتماد على نظام دفاعي ذي منظومة ضغط متكاملة.
ترك ساكي فريق الميلان، ليتولى مسؤولية المنتخب الإيطالي وكان في ذروة نجاحه المهني، لكنه وجد إيقاع تدريب الفريق الوطني صعباً، لأنه -وكما وصف ويلسون الأمر- اكتشف عدم قدرته على أن يقضي كل دقيقة من كل يوم لتعليم لاعبيه والعمل على إفهامهم ما يريد. كان تكتيك ساكي يحتاج تدريباً يومياً وتناغماً تاماً بين اللاعبين، وهو ما وجده ساكي نفسُه من المستحيل تحقيقه، في ظل معسكرات المنتخبات التي تتسم بقِصر المدة مقارنةً بالأندية.
حسناً، يبدو الأمر أكثر وضوحاً الآن. لا يقتصر الأمر على مدرب جيد ولاعبين جيدين لصنع فلسفة كرة قدم خاصة. لكن بم تتسم فلسفة غوارديولا؟ وأي المنتخبات كانت أقرب إليه؟ وأي القرارات كانت ستغير من مصيره المهني فيما يتعلق بتدريب المنتخبات؟
فلسفة بيب الأساسية والاقتران الأول بالمنتخبات
نستطيع أن نضع الاستحواذ كعنوان رئيسي لفلسفة بيب. ومن أجل تحقيق هذا الاستحواذ، كان بيب هو الأكثر جرأة فيما يتعلق باتخاذ القرارات الحاسمة.
بدأ بيب -كما يعلم الجميع- مسيرته التدريبية مع فريق برشلونة بعد تصعيده كمدرب للفريق الرديف عام 2008. كان قرار بيب الأول في أثناء معسكر إدنبره للاستعداد للموسم الجديد، الاعتماد على إنييستا وتشافي في وسط الملعب، والتضحية بأيقونة الفريق حينئذ رونالدينهو، كما تم تصنيف أسماء مثل ميسي وبيكيه وبوسكيتس كعناصر أساسية تمثل مستقبل النادي.
هنا عرف العالم بيب صاحب فلسفة الاستحواذ عن طريق القدرة المذهلة على التمرير المتقن، والتحرك الدائم من لاعبي الفريق من دون كرة، والضغط المستمر الخانق على المنافسين، من أجل استعادة الكرة والحفاظ على الاستحواذ. اعتمد بيب على المهاجم الوهمي في أحيان كثيرة، كما أنه عُرف عنه مساعدة اللاعبين لإخراج أفضل ما يمتلكون، وعدم قبوله تجاوز تعليماته أبداً.
خلال تلك المرحلة تحديداً، ظهر اسم بيب مقترناً بالمنتخب الإسباني لكن دون أن يكون مرشحاً لولايته، بل ظهر اسمه كرجل مؤثر في مسيرة المنتخب الذي تُوِّج بكأس العالم عام 2010، وهو ما تزامن مع سنوات بيب الذهبية رفقة برشلونة. إلا أن اسم بيب سيتم طرحه مرة أخرى بعد خمس سنوات، مقترناً بمنتخب عظيم آخر وهو المنتخب البرازيلي.
بيب بايرن والمنتخب البرازيلي
بعد فاجعة البرازيل التي حدثت خلال كأس العالم 2014 والمتمثلة في الهزيمة المذلَّة لصاحب الأرض أمام المنتخب الألماني بسبعة أهداف، خرج الظهير الأيمن للفريق داني ألفيش، ليؤكد أن بيب غوارديولا كان يمتلك استراتيجية كاملة لجعل البرازيل بطل العالم. تمنى بيب تدريب المنتخب البرازيلي، إلا أن المسؤولين عن الكرة هناك تخوَّفوا من تولي رجل غير برازيلي منصب المدير الفني.
خلال ذلك الوقت كان بيب غوارديولا على رأس الإدارة الفنية للفريق الألماني بايرن ميونيخ بعد أربع سنوات مثالية مع فريق برشلونة. وهنا يظهر السؤال الأكثر أهمية: هل كان بيب قادراً على جعل البرازيل بطلاً لكأس العالم بدلاً من الخروج المهين. دعنا نتناول تطوُّر فلسفة بيب مع البايرن ونقارنه بوضع البرازيل آنذاك.
بدأ بيب عهده مع بايرن ميونيخ بانتداب الإسباني تياغو ألكانتارا في وسط الملعب، ثم ماريو جوتزه من الغريم دورتموند. وخلال ثلاث سنوات، أنفق بيب أكثر من 200 مليون يورو، وفي المقابل حصل على تشكيلة متنوعة، حيث اتسم فريق بايرن حينئذ بعدم ثبات التشكيل. فيليب لام تنوعت أدواره بين الظهير الأيمن وخط الوسط. كما أن خط الوسط ذاته تنافس على الوجود به توني كروس وخافيير مارتينيز وشفاينشتايجر وتياغو ألكانتارا. كما أن ماريو جوتزه بدأ في منافسة مولر، الذي تحوَّل من مهاجم إلى لاعب خط وسط مهاجم، كما استغل بيب قدرة نوير الممتازة في بدء الهجمة.
فرض بيب فلسفته، ليصبح أفضل مدير فني في تاريخ الدوري الألماني. خلال موسمه الأول بالنادي لم يُهزم بايرن ميونيخ في أول 28 مباراة خاضها، محققاً 19 فوز على التوالي. مباراة وحيدة استقبل بيب خلالها أكثر من هدف، وأنهى الموسم بفارق أهداف بلغ 66 هدفاً، ليصبح أول فريق يفوز بالدوري في مارس/آذار. إلا أنه لم ينجح في التتويج ببطولة دوري أبطال أوروبا، حيث هُزم برباعية تاريخية أمام ريال مدريد. تكرر الأمر خلال السنوات الثلاث، هيمنة على الدوري مع سقوط أوروبي، تحديداً في الدور قبل النهائي.
يبدو إذن أن فلسفة بيب لا تضمن العبور في بطولات خروج المهزوم وهي البطولات التي تلعبها المنتخبات بالطبع. دعنا نفترض تولي بيب مقاليد الحكم في البرازيل.
تبدو البرازيل كارثة حقيقية بالنسبة لبيب، حيث يفضل بيب حارس المرمى القادر على بناء الهجمة والقدرة على التمرير، وهو ما لم يتوافر في حارس البرازيل الأساسي حينئذ جوليو سيزار.
يشارك مدافعو فرق بيب في تناقل الكرة بهدف الاستحواذ، وهو ما يجعله عرضة للهجمات المرتدَّة السريعة، كما عرَّضه للهزيمة خلال دوري أبطال أوروبا رفقة البايرن أكثر من مرة. لهذا يحاول بيب امتلاك تنويع دائم بين مدافعين يتسمون بالسرعة وآخرين يشاركون في صناعة الهجمة، وهو ما لا يتحقق أبداً في مدافعي المنتخب البرازيلي ( تياجغ سيلفا، دافيد لويز، دانتي، هنريك).
المنتخب الذي امتلك في خط الوسط فرناندينهو لم يمتلك أمامه لاعباً واحداً محورياً بحجم لاعبي الوسط الذين اعتمد عليهم بيب خلال ولايتي برشلونة وبايرن. أسماء مثل باولينيو، وراميريز، وأوسكار، وويليان، ولويس جوستافو، بالإضافة إلى المستبعد لوكاس مورا- لا تتوافر لديهم القدرة على التحكم في نسق المباراة.
أما عن الهجوم فلم تمتلك البرازيل حينئذ رأس حربة وحيداً من النخبة، والأسوأ أنها اعتمدت بالكامل على النجم الأوحد نيمار لقيادة الهجوم، وهو ما يكرهه تماماً بيب ويتنافى مع فلسفته.
ربما العنصر الوحيد الذي افتقد الجميع مشاهدته، هو كيفية تعامل بيب مع ظهيرَي ملعب بنوعية مارسيلو وألفيش.
لذا ربما لو وافق الاتحاد البرازيلي على تولي بيب الإدارة الفنية للمنتخب البرازيلي، لوجدنا ساكي آخر مهزوم متخلياً عن فلسفته الأثيرة.
انتقل بيب إلى تدريب فريق مانشستر سيتي الإنجليزي بعد ثلاث سنوات مع الفريق الألماني. تضاعف الرقم الذي أنفقه بيب خلال سنوات تدريبه، خاصة بعد اقتران اسمه بفريق ذي موارد ضخمة مثل السيتي. أنفق بيب أكثر من بليون يورو خلال مسيرته التدريبية، لكن المثير هنا أن أكثر من نصف هذا الإنفاق كان على المدافعين.
نوَّع بيب في أنماط المدافعين خلال وجوده مع فريق السيتي بشكل كبير، وهو ما يفسر الرقم الضخم الذي دفعه من أجل توفير عدد من المدافعين يستطيع بيب أن يختار من بينهم طبقاً للفريق الخصم. لكن بيب وبسيناريوهات مختلفة لم يستطع أن يكرر نجاحه الأوروبي مع السيتي. يبدو أن بيب قادر على تطويع لاعبي الوسط والهجوم لتنفيذ فلسفته، لكنه رغم الإنفاق الباهظ لا يمكنه أبداً خلق نظام دفاعي قادر على المشاركة في بناء الهجمة والتصدي للمرتدات السريعة في آن واحد. فما بالك إذا وجد بيب نفسه مجبَراً على اختيار مدافعيه من جنسية واحدة. حسناً دعنا نبدأ من الخلف، لكي نقرر أي المنتخبات أقرب إلى فلسفة بيب.
إسبانيا: أهواك بلا أمل
يبقى المنتخب الإسباني هو الأقرب أيضاً كما كانت البداية، دعنا ننظر نظرة سريعة. دي خيا حارس مرمى يتميز باستخدام قدميه جيداً في التصدي، ولا يستبعد أن يقوم بالمشاركة في التمرير بشكل جيد. يوجد تنوُّع في شكل المدافعين، فهناك المدافع السريع مثل لابورت، والأكثر قدرة على التمرير مثل بيكيه، والأكثر صلابة مثل راموس، ووجود ظهيرَين بحجم ألبا وكارباخال. أينما حلَّ بيب عبر مسيرته، فهناك لاعبو خط وسط من إسبانيا ضمن فريقه، لذا فسيسعد بيب بوجود لاعبه السابق ألكانترا والحالي رودري مع وجود أسماء تمتاز بقدرة التحكم في الإيقاع مثل إيسكو، وسيبايوس، وساؤول مع وجود بوسكيتس كخيار متاح يفضّله بيب حتى بعد مرور السنين. أما في الشق الهجومي فالجميع ينتظر ماذا يستطيع أن يفعل بيب مع أسماء متنوعة القدرات للغاية مثل مثل أسنسيو ومينديز وباكو ألكاسير وألفارو موراتا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.