مليار ونصف المليار جنيه طلبتها القوات المسلحة من وزارة المالية، بشكل غير قانوني، باسم مشروع أُوقف بعد أيام من تحويل الأموال بقرار من السيسي، وبشكل غامض، فأين ذهبت؟
من هنا بدأت القصة
في الأول من ديسمبر/كانون الأول من العام 2014 أصدرت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أمراً لوزارة التخطيط، تطالبها فيه بصرف 1.560 مليار جنيه وتضعها في حساب القوات المسلحة، لتبدأ العمل في مشاريع أطلقت عليها مشروع "القرى الأكثر احتياجاً".
حصل "عربي بوست" على الوثيقة التي خاطبت فيها هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة د. أشرف العربي، والذي كان يشغل منصب وزير التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري آنذاك، وأرسلت له تفاصيل التحويل، وحتى فرع البنك المفترض التحويل إليه، وهو فرع شريف "البنك الأهلي المصري".
وقف فوري للمشروع.
لكن سرعان ما عادت الهيئة الهندسية وأوقفت المشروع بعد 27 يوماً فقط من صرف الأموال، إذ أصدرت الهيئة العليا للقوات المسلحة أمراً -وفق وثيقة أخرى- في 28 ديسمبر/كانون الأول 2014، قالت إنه صادر بالأمر المباشر من رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي للجنة الوزارية الخاصة بالمشروع، تأمرها بوقف العمل الفوري على المشروع "القرى الأكثر احتياجاً"، وتسنده للجمعيات الخيرية.
قرار التحويل صدّق عليه أشرف العربي، والعربي نفسه علامة استفهام أخرى، فالرجل متخصص في مجاله، حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة كانساس الأمريكية، وعمل في خمس وزارات، ومع ثلاثة رؤساء، لكنه وبجرة قلم حوّل 1.560 مليار جنيه للجيش، ثم اختفى المبلغ بعد 27 يوماً من التحويل، واختفى الرجل أيضاً بعد إقالته من وزارة التخطيط عام 2017.
ظهر العربي مرة واحدة بعد أشهر من إقالته في حفل تكريم علماء اقتصاد بجامعة القاهرة، وكان أول ظهور له بعد خروجه الغريب من الوزارة، وغادر مصر إلى دولة الكويت، حيث يعمل مستشاراً لعدد من معاهد التخطيط، حاولنا التواصل معه مراراً، لكننا لم نتمكن من الوصول إليه للحصول على تعليق على ما ورد في الوثيقة.
لكن المهم ليس مصير العربي، إنما مصير الـ1.560 التي حوّلها لصالح القوات المسلحة بطلب من رئاسة الجمهورية.
فلم يصدر عن القوات المسلحة أو الحكومة ممثلة في وزارة التخطيط ما يكشف عن مصير تلك الأموال، ولم يتسن لـ "عربي بوست" التأكد من إعادة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الأموال التي حصلت عليها، خاصة أن جميع المشروعات التابعة للجيش عادة ما تحاط بسرية تامة، ولا تخضع لمتابعة الأجهزة والمؤسسات الرقابية.
لكن.. هل تدخُّل الهيئة الهندسية لإنجاز مشاريع مدنية بالأساس أمر قانوني؟
اعتمدنا في الإجابة عن هذا السؤال على "أشرف بدرالدين" وهو النائب السابق في البرلمان المصري ووكيل لجنة الخطة والموازنة المنوط بها مناقشة الميزانية السنوية للحكومة.
بدر الدين أكد لنا أن القانون لا يسمح للقوات المسلحة بالتدخل في المشروعات المدنية، وأوضح أن ميزانية أي مشروع تسير وفق الخط التالي:
- يدرج المشروع في الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من قبل الوزارة المعنية بالمشروع.
- تصدق وزارة المالية على المشروع وتوفر له الاعتماد اللازم.
- يدرج المشروع ضمن الموازنة العامة للسنة المالية.
- ثم يوافق مجلس الشعب على الخطة والموازنة لتتوفر الرقابة الشعبية على الميزانية.
- ومن ثم يبدأ تحويل الأموال.
عُدنا إلى ميزانية الدولة المدرجة على الموقع الرسمي لوزارة المالية في العامين الماليين 2013-2014، 2014-2015 للتأكد من إدراج مشروع تطوير القرى الأكثر احتياجاً في ميزانية عام التنفيذ؟ فوجدنا مفاجأة أكبر!:
خصصت وزارة المالية 150 مليون جنيه لاستكمال كل الوحدات الخاصة بالمشروع القومي لإسكان محدودي الدخل، المنقسم إلى 7 بنود، من بينهم القرى الأكثر فقراً، وكان اللافت في هذا البند أن مبلغ المليار ونصف المليار جنيه غير مدرج من الأساس في تلك الموازنة.
السيسي أوقف المشروع بالأمر المباشر
نشر "عربي بوست" في تقرير سابق وثيقة تكشف كيف تم إيقاف المشروع بطلب من السيسي، الذي أصدر توجيهاته بوقف العمل في تطوير 78 قرية محتاجة، لصالح مشروعات الجيش، رغم أنه ووفق القانون فإن رئيس الجمهورية لا يملك أية صلاحية لوقف مشاريع تنموية، أو حتى التصديق عليها دون أن تسير مسارها القانوني.
تواصلنا مع مصدر مطلع، صرح لنا أن رئيس الوزراء المصري آنذاك إبراهيم محلب سأل الرئيس عبدالفتاح السيسي عن أسباب إيقاف المشروع، فرد الثاني بأنه أوقفه لصالح مشروعات لها أولوية على أجندة مشاريع القوات المسلحة، مضيفاً -والكلام على لسان السيسي- "حين يحين الوقت المناسب لاستئناف المشروع لن ننساكم".
مشروع القرى الأكثر احتياجاً
ورغم أن مشروع القرى الأكثر احتياجاً هو مشروع بدأته الهيئة الهندسية في العام 2009، "أي قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني"، إلا أنه لم يكتمل حتى اليوم، يضم إجمالاً 1153 قرية على مستوى الجمهورية، وكان من المقرر الانتهاء منه في العام 2012.
لكنه توقف وتم تقسيمه لعدة مراحل تبدأ في 2012، وتنتهي 2017، وطبقاً للمرحلة الأولى كان مقرراً تطوير نحو 30 قرية في محافظة المنيا، بتكلفة 750 مليون جنيه، و22 قرية في أسيوط بتكلفة 607 ملايين جنيه، وتطوير 23 قرية بتكلفة 618 مليون جنيه، وفي محافظة الشرقية سيتم تطوير 31 قرية بإجمالي تكلفة 795 مليون جنيه، وفي البحيرة 19 قرية بإجمالي تكلفة تصل إلى 446 مليون جنيه.
إلا أن ميزانية المشروع -حسب الوثيقة- تم سحبها بالكامل، وأُسند المشروع إلى الجمعيات الخيرية، لصالح العمل على مشروعات أخرى تابعة للقوات المسلحة.
اتهامات للقوات المسلحة بالفساد
توقف المشروع، وتوقفت معه أحلام الفقراء ببيوت أفضل، ولا تزال الاتهامات الموجهة للقوات المسلحة بالفساد تتزايد، تلك التي فجرها مقاول الجيش محمد علي ضد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وبعض من قادة الجيش، حيث المليارت تنفق على بناء قصور واستراحات رئاسية، خاصة بأفراد في الجيش المصري.الأمر الذي أكده الرئيس المصري نفسه، مصرحاً بأنه بنى قصوراً رئاسية، وأن هناك أخرى ستُبنى "من أجل مصر"، في ظل استفهامات عن جدواها مع الحالة الاقتصادية القاسية التي تمر بها البلاد، والتي دعت الرئيس سابقاً إلى القول: "إحنا فقرا أوي".