لماذا نتعاون مع المختلفين معنا؟ عن فتنة «الاعتزال والمخاصمة»

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/30 الساعة 13:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/05 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش

أبدأ مقالتي هذه بسؤال يسأله كثير من الأحباب في ظروف مختلفة، يتساءلون: كيف تسمحون لفلان بالتدريس في شيخ العمود برغم كذا وكذا مما تعرفون عنه أو يجهر به (من فكره أو فعله)؟

كأن الأحباب أصحاب هذا السؤال وما يشبهه يقولون: ليتكم لا تتعاونون إلا مع من تتفقون معه 100%، وهم يعلمون كما نعلم أن الاتفاق بين الناس إلى هذا القدر داخل في حد الاستحالة والتعذر، ومع ذلك يطلبونه بلازم قولهم وإن لم يطلبوه بصريحه.

يعلمون كما نعلم أن الله تعالى يقول: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ  وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (سورة هود: 118 – 119).

ويعلمون كما نعلم أن الاختلاف بين الخلق سُنة لله تعالى في خلقه ماضية، وأن الإنسان لا يسلم من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل كما قال ابن الوردي في لاميته البليغة، وأن من علامات الساعة إعجاب كل ذي رأي برأيه، وأن الله تعالى قسم الأرزاق بين الخلق فسخط كثير منهم على ربه في أمر الرزق، لكن كلهم راض عنه سبحانه في ما قسم لهم من العقل، فترى كل إنسان يظن نفسه الأذكى والأعلم والأفهم والأحكم، وأن البشرية لن ينصلح حالها إلا إذا اتبعت رأيه السديد وحكمته البالغة، وأن مَن حوله جلهم من السذج الذين لم يفهموا حكمته المتعالية ولم يستطيعوا رؤية ما رأته نظرته الثاقبة!

يعلمون، أيضاً، كما نعلم ما بين الناس كلهم من الاختلاف، كما يعلمون ربما أكثر مما نعلم أن الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يفسد للود قضية، وأن ثمة فارقاً كبيراً جداً بين الاختلاف والخلاف، وأن الثاني ليس لازماً عن الأول إلا عند أصحاب العقول الضيقة والنفوس المأزومة، وأن العقلاء هم مَن يتعاونون في مواضع الاتفاق ولو كانت قليلة، وصولاً إلى تحقيق الأهداف المشتركة والتغلب على العدو المشترك.

وكلما تكرر هذا السؤال المستنكر الرافض المعترض (أعني قول بعضهم: لماذا تتعاونون مع فلان؟) أود أن أقول للسائل: نتعاون معه لأنه يتعاون معنا، ولأنه من أهل الإحسان ولو أساء، وكل الناس يحسن ويسيء، ولأن الواجب على العقلاء هو الاستفادة من إحسان الناس فيما يحسنون، وتجنُّب إساءتهم فيما يسيئون.

إن أشد ما يفتك بالأمة هو التعصب والتشرذم والتفرق، وإذا لم نتعلم جميعاً -وأساتذتنا من قادة الأمة وعلمائها ونخبتها خصوصاً- التعاونَ برغم الخلاف فبيننا وبين الخير والنجاح مسافات ومسافات، حتى أصبح الحال اليوم أن كل إنسان يخالف فريقه في أمر (فكري أو إداري أو غير ذلك) فإنه يعتزلهم ويمضي وحده، كما فعل واصل بن عطاء حين خالف الحسن البصري في مسألة فاعتزل درسه وجلس إلى سارية أخرى من سواري المسجد، فقال الحسن كلمته المشهورة: "اعتزلنا واصل" كأنه يعاتبه على ما فعل ويقول له: إن الاختلاف لا يوجب الاعتزال يا واصل!

وما أحرانا بتذكُّر قول الإمام الشافعي -رضي الله عنه- فيما يرويه عنه تلميذه يونس بن عبدالأعلى الصفدي حيث يقول: "ما رأيت أعقل من الشافعي، فلقد ناظرني يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟" ا.هـ

انظر إلى أدبه ورقيه -رضي الله عنه- كيف حدث تلميذه المخالف فناداه بكنيته تكريماً له، وطلب أخوَّته ومحبته ولو حصل الاختلاف، وجملة "وإن لم نتفق في مسألة" قد يكون معناها -وهو المتبادر- أننا اختلفنا في مسألة واحدة واتفقنا في مسائل كثيرة، فلا يمنع اختلافنا فيما اختلفنا فيه وهو قليل من أُخوّتنا بسبب ما اتفقنا عليه وهو كثير، لكن قد يُحتمل أيضاً أن معنى الجملة -وهو بعيد ربما لكنه جميل- أنه يقول له: هَب أننا لم نتفق ولا في مسألة واحدة من مسائل الفقه والفروع، أيمنعنا هذا من بقاء أخوة الإسلام بيننا؟!

لذلك فنحن نؤمن في شيخ العمود أنه ليس مَن أحسن في شيء يحسن في كل شيء، ولا مَن أساء في شيء يسيء في كل شيء، ولكن الإنصاف عزيز.

وعليه فنحن نؤمن كذلك بأن كل إنسان يحسن في أشياء كثيرة، والواجب على العقلاء -كما ذكرنا قبل قليل- هو الاستفادة من إحسان الناس فيما يحسنون، وتجنُّب إساءتهم فيما يسيئون.

ثم إن التعاون في عمل جماعي -تنموي أو دعوي أو دنيوي- لا يعني تبنّي جميع أعضاء الفريق بالضرورة لأفعال ومواقف وتصرفات باقي الفريق في غير أمور العمل ومواطن التعاون، فما دُمنا نتعاون على الخير ونلتقي على الخير ونتفرق على الخير فلا يضار المجموع بمواقف أفراده الشخصية سواء كانت حقاً وخيراً وبراً وفضلاً أو غير ذلك.

لذلك نتعاون في شيخ العمود مع كل من نستطيع التعاون معه فيما يحسنه، حتى لو أدى هذا إلى ظن الناظر من بعيد بأن التوجه غير موحد أو أن الأفكار داخل المكان متعارضة، فنقول: بل التوجه موحَّد وهو تقديم كل عون ممكن لمن يريد خدمة علوم الأمة وتعلم العلوم المختلفة وتعليمها ابتغاء وجه الله تعالى، وسنظل ندفع الطلاب والدارسين معنا إلى سماع الآراء المختلفة، والتعرض للمدارس المتنوعة، وسنحذرهم بقدر ما نستطيع من أحادية الفكر وقصور النظرة التي تحصل عندما لا يسمع الطالب إلا لشخص واحد ولا يتعلم إلا علماً واحداً، فيرى الخير كله في ناحية، ولا يدرك ما فيها من نقائص، كما لا يدرك ما في الناحية الأخرى من خيرات جديرة بالتحصيل والاستمساك.

نتشرف ونسعد بأن يكون معنا عشرات الأساتذة والعلماء المتخصصين الذين ندعوا أنفسنا وجميع أحبابنا إلى الانتفاع بهم جميعاً (على ما بينهم من خلافات أسلوبية وفكرية وعلمية وسياسية)، ونمتنع ونحاول من الأحباب من الدوران في فلك شخص واحد -حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم- (ولو كان هذا الشخص من كان في الفضل والعلم)، ونتذكر معا ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن حبيب بن أبي ثابت قال: رأى ابنَ مسعودٍ ناسٌ فجعلوا يمشون خلفه، فقال: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.

وفي المصنف أيضاً قال حدثنا ابن إدريس عن هارون بن عنترة عن سليم بن حنظلة قال: أتينا أُبي بن كعب لنتحدث عنده، فلما قام قمنا نمشي معه، فلحقه عمر فرفع عليه عمر الدرة فقال: يا أمير المؤمنين، أعلم ما تصنع؟ قال: إنما ترى فتنة للمتبوع مذلة للتابع.

إن التمحور حول شخص واحد أو فكر واحد وتوجه واحد وعدم الاستماع إلا له خطر كبير وفساد عظيم، والمطلوب هو الانفتاح على الجميع وتقبل الاستماع الآراء المختلفة، ثم يكون طالب العلم ملكة وعقلية يَعْرِفُ بها ويُنْكِرُ، لذلك اخترنا العمل الجماعي منهجاً، على ما في العمل مع الناس من منغصات وما في اعتزالهم من راحة، ولكن هذه المنغصات والصبر عليها ضرورة لتحقيق مجتمع سليم صحيح، وقديماً قالوا: أن يخطئ الجَمع مع الشورى خير من أن يصيب الفرد وحده، فللاجتماع بركة وفضل في الدنيا والآخرة لا يدركهما إلا من أدمن تأمُّل حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

إن عمل الجماعة أبطأ وأصعب لكنه أدوم وأبقى، وعمل الفرد أسرع وأسهل لكنه محفوف بمخاطر كثيرة، على رأسها ما قاله الفاروق الملهم عمر -رضي الله عنه- من أن ذلك فتنة للتابع والمتبوع، لذلك ينبغي الصبر على عمل العمل الجماعي، والتنازل عن الرأي الشخصي فيه لصالح رأي المجموع، وترك الخلاف والشقاق، وقد حصل موقف مهم لسيدنا عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في موسم الحج حين كان في مِنى مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فوجده يصلي الظهر أربع ركعات ولا يقصرها فقال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ومع عثمان صدرا من إمارته، ثم أتمها، ثم تفرقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. (يعني يتمنى لو صلى عثمان ركعتين فقط كما فعل عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزدها إلى أربع)[1] قال راوي الحديث: إن عبدالله بن مسعود صلى معهم أربع برغم اعتراضه على قرار سيدنا عثمان واختلافه معه، فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربع، فقال: الخلاف شر. الله أكبر ما أحكمها من كلمة ليتنا استوعبناها وفهمناها.

ومن جميل الأدب في ذلك ما رُوي أن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- لما صلى الصبح إماماً في مسجد الإمام أبي حنيفة ترك القنوت بعد الرفع من الركوع (وهو سُنة في كل صلاة صبح على مذهب الإمام الشافعي)، فلما قيل له: لم تركت القنوت؟ قال: احتراماً للإمام (يعني الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه).

حقاً ما أحوجنا إلى ذلك الأدب في أعمالنا الجماعية كلها (دينية ودنيوية) فنتعاون مع الجميع فيما اتفقنا فيه -وهو كثير جداً والحمد لله- ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه -وهو قليل جداً والحمد لله- ونعتقد أن الحق قد يكون مع مخالفنا، فلظن كل واحد منا أن رأيه صواب لكنه يحتمل الخطأ، وأن رأي غيره ظاهره الخطأ لكنه يحتمل الصواب، فلا يتكبر ولا يتعالى ولا يعجب أحد برأيه.

وأخيراً: فإن الخير في الشورى والتزام الجماعة، ومن أراد الانفصال عن عمل جماعي ما (خيري أو تنموي أو دنيوي) لعله وحكمة ومصلحة قدرها، فينبغي عليه أن يؤسس لعمل جماعي جديد يكون الأمر فيه شورى، والمسؤوليات موزعة، والاختلاف الصحي بين أفراده دال على أنهم بشر وليسوا آلات مستنسخة على قالب واحد جامد، وهذا الاختلاف ضمانة كون الناس أحراراً متحملين للأمانة التي حملهم الله إياها.

وللشورى بركات ومقاصد وآداب لعلنا نبسط الكلام عنها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

[1] ملاحظة للتوضيح: صلاة الظهر أربع ركعات، ويجوز قصرها في السفر ركعتين، ولا يجب القصر عند جمهور الفقهاء، فسيدنا عثمان ترك القصر -الجائز- لعلة وحكمة قدرها، ولم يكن بذلك مغيراً لشيء من الشرع حاشاه رضي الله عنه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنس السلطان
داعية وشيخ أزهرى، مؤسس مدرسة "شيخ العمود" للعلوم الإسلامية
داعية وشيخ أزهرى، مؤسس مدرسة "شيخ العمود" للعلوم الإسلامية