لم ينتهِ الربيع العربي إذاً، وهو اليوم أبعد ما يكون عن النهاية، أو عن استبداله بـ "شتاءٍ عربي" لا نهاية له كما زعم الكثير من الباحثين والمُعلِّقين. إذ أُعيد نشر رماد الربيع العربي سريعاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكأنَّه من المُقدَّر له الاستمرار، ولكن بطريقةٍ مُختلفة أقل إثارة وأكثر محليةً وتفرُّقاً، وذلك لأنَّ أسباب انتفاضات عام 2011 لم تُعالج، وظلَّت الأوضاع على حالها أو ازدادت سوءاً.
وضعٌ غير مُستقر
يقول ألين غابون، رئيس قسم اللغة الفرنسية بجامعة ويسليان في ولاية فرجينيا الأمريكية، في مقالة منشورة له بموقع Middle East Eye البريطاني، إنَّ الأوضاع في كافة أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا العام الماضي كانت تُؤكِّد هذا الرأي. ولا شكَّ أنَّ الوضع لا يزال غير مستقر وغير مُؤكّد بشدة لكافة الأطراف المعنية. ولا يستطيع أحدٌ التنبُّؤ على وجه الدقة بشكل الشرق الأوسط بعد عشر سنواتٍ من الآن، كما عجز أفضل الباحثين في شؤون الشرق الأوسط عن التنبُّؤ بالسنوات الدراماتيكية المُذهلة التي أعقبت عام 2011.
ويظل الحذر والتواضع هما القاعدة، لكن المُؤكَّد هو التالي: صارت الأنظمة اليائسة للحفاظ على قبضتها على السلطة بأيّ ثمن أكثر وحشيةً وقمعيةً وإرهاباً مما كانت عليه قبل الربيع العربي، وهي أنظمةٌ تتميّز بحرمان غالبية الشعوب العربية من الحقوق الاقتصادية والسياسية عن طريق الفساد الهائل والمُمنهج من المغرب والعراق وصولاً إلى مصر والمملكة العربية السعودية.
واستثناء هذه القاعدة بالطبع هي تونس الشجاعة والمُثيرة للإعجاب، في حين كانت سوريا الأسد ومصر السيسي أسوأ أمثلةٍ على الوجه الآخر للمعادلة.
والوضع الراهن في كافة أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وجميع دولها، هو وضعٌ غير مُستدام بكل بساطة على المدى المُتوسط أو البعيد.
وربما تكون هذه الأنظمة، والنخب التي تدعمها، قادرةً على البقاء في السلطة لعدة سنوات أو عقود. ولكن عاجلاً أم آجلاً، ستُضطر تلك الأنظمة إلى الإصلاح وإحلال الديمقراطية -بعمقٍ وعلى نطاقٍ واسع، وعلى جميع المستويات- أو الانهيار على غرار ما حدث مع العديد من الأنظمة في عام 2011.
ولن يكون هناك وضعٌ راهن دائم، لأنَّ ذلك الوضع الراهن لا يُمكن تطبيقه أو العيش فيه لغالبية سكان المنطقة. ويصير ذلك الوضع أقل قابليةً للتطبيق بمرور الأيام.
ليس ربيعاً عربياً ثانياً
يردف الكاتب غابون: وبهذا، فمن المنطقي أنَّ الربيع العربي لم ينتهِ فعلاً. إذ شهدنا لفترةٍ من الوقت الآن على الكيفية التي أدَّت بها الموجات الجديدة من أعمال الشغب والاضطرابات والاحتجاجات الحاشدة والانتفاضات الحقيقية، على مدار العامين الماضيين، إلى هز أركان القوى الحاكمة وإرعابها بلا هوادة داخل بلادٍ مُختلفة مثل: الجزائر والعراق والأردن والمغرب ولبنان والسودان وإيران وفلسطين.
وينتفض الناس من كافة أرجاء المنطقة بأعدادٍ كبيرة -ليس بسبب البطالة وارتفاع أسعار الغذاء فقط، ولكن لأنَّهم وقبل كل شيء يحتاجون ويتوقون ويستحقون اعتراف حكوماتهم بهم. وهذا يُناقض التقارير السخيفة من غالبية المنافذ الإعلامية الغربية التي تُصِرُّ على عرض تلك الأحداث وكأنَّها تتعلَّق بالكامل -أو في غالبيتها- بقضايا لقمة العيش الاقتصادية، من أجل إنكار بُعدها السياسي الأساسي.
واندلعت الاحتجاجات أيضاً في مصر الشهر الماضي، رغم القبضة الحديدية التي يفرضها النظام الأكثر قمعيةً ووحشيةً وعنفاً وشمولية في كافة أرجاء المنطقة، ولا يسبقه في ذلك سوى النظام السوري، حيث تتواصل المُعارضة المُسلَّحة المُناهضة للنظام رغم القمع القائم على أساس الإبادة الجماعية الحقيقية.
وترغب تلك الشعوب في مكانٍ داخل بلادها، وهو المكان الذي لا يملكونه أو يعثرون عليه عادةً. وأدَّى ذلك بالتالي إلى هجرة الأدمغة الكبيرة من دولٍ مثل المغرب والجزائر، حيث تكشف الإحصاءات أنَّ أكثر من نصف الشباب سيُهاجرون إلى بلدان مثل فرنسا إذا سنحت لهم الفرصة.
ويسعى الناس إلى وضع حد لحياة الإذلال التي عاشوها على يد سلطاتهم الحاكمة، ويُريدون كرامتهم الاجتماعية والإنسانية، ويرغبون في حقوقهم المدنية والسياسية. وخلاصة القول هي أنَّهم يُريدون وظائف أكثر، وأرزاً ونفطاً وخبزاً أرخص، إلى جانب الحرية والمساواة والفرص والعدالة.
وكتب الناشط كنان الرحماني في صفحته على تويتر: "ظننتم جميعاً أنَّ الربيع العربي انتهى. وبعد تسع سنوات، تُذكِّرنا شعوب الجزائر والسودان ومصر والعراق ولبنان بأنَّها لم تيأس من الوقوف في وجه الحُكَّام الديكتاتوريين الفاسدين".
يقول الكاتب: ليس من التعسُّف أو المبالغة أن نقول إنَّ مطالب "الحشود" المُشاغبة في المنطقة تتطابق تماماً مع مطالب الحركات الاجتماعية الغربية هي الأخرى، مثل "السترات الصفراء" في فرنسا.
ورغم الاختلافات الشاسعة الواضحة التي تفصل بين الحياة في باريس والحياة في بغداد، من حيث الجوهر والمضمون، لكن كل أولئك الناس يضعون أرواحهم على المحك للأسباب نفسها تماماً.
فميدان التحرير أو ميدان النجمة (شارل ديغول حالياً) يعكسان نفس الصراعات المُتواصلة التي تندلع للأسباب الأساسية نفسها.
إرهاب الدولة
في مواجهة عصيان شعوبها المُتواصل ورفضهم قبول الوضع الراهن والعودة إلى منازلهم في هدوء بعد حفل عام 2011؛ استجابت الأنظمة العربية -باستثناء تونس- بالطريقة نفسها، ويبدو أنَّها الطريقة الوحيدة التي تعرفها: القمع، والقتل الجماعي للمُحتجين، والعنف على يد القوات "الأمنية" للدولة، والرقابة على حرية وسائل الإعلام، والاعتقالات الجماعية، وتطبيق سياسات الخوف. أو بعبارةٍ أخرى: إرهاب الدولة.
ومن المثير للدهشة أنَّ هذا العنف المُعربد والمُنتظم من جانب الدولة، لإخماد الاحتجاجات المشروعة تماماً والسلمية في مُعظمها أو مُجملها، لم يُقابَل برد فعلٍ قوي واحد من جانب حكوماتنا الغربية التي كان -ولا يزال- صمتها المخزي وسلبيتها ودعمها غير المشروط للأنظمة الإرهابية عامل تمكين رئيسياً لتلك الأنظمة.
لدرجة أنَّ الرئيس ماكرون، الذي تعرَّضت ولايته لضربةٍ مُوجعة خلال احتجاجات السترات الصفراء الحاشدة التي استمرت منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018 وحتى مارس/آذار عام 2019، استعان ببعض الصفحات من دليل حلفائه العرب الفاشيين. إذ أطلق العنان لعنف الشرطة الشديد في وجه المُحتجين العُزَّل -من شعبه- تاركاً شرطته تجرح وتصيب المدنيين العُزَّل دون عقاب.
وكتبت الباحثة مها يحيى التغريدات التالية في صفحتها على تويتر:
"إنَّه احتجاجٌ أجيالٍ مُختلفة. إذ يجمع أناساً من مختلف مناحي الحياة، وجيلاً دخل عمر إدراك السياسة وهو يشهد الانتفاضات العربية عام 2011، وأزمة القمامة عام 2015 في لبنان".
وفي مرحلةٍ ما وسط الاحتجاجات، أعلن الجنرال برونو لوراي، الحاكم العسكري لباريس، على قناة France Info الحكومية بكل وضوح أنَّ القوات العسكرية التي ستُنشر في شوارع باريس من الآن فصاعداً تلقَّت تصريحاً رسمياً بفتح النار على الحشود الفرنسية بالرصاص الحي في حالة الضرورة! -وعلى حدِّ علمنا، لم تنقل وسائل الإعلام الناطقة بالإنجليزية هي التطوُّر الصادم الذي يكشف حقيقة الأوضاع.
وبعبارةٍ أخرى؛ صارت فرنسا، التي تُقدَّم في كافة وسائل الإعلام الأجنبية باعتبارها مثالاً يُحتذى به في الديمقراطية، بكل وضوحٍ دولةً تستطيع داخلها أعلى السلطات العسكرية والسياسية إعلامك عبر وسائل الإعلام الوطنية أنَّ مُشاركتك في تظاهرةٍ سلمية قد تُودي بك إلى الإصابة أو حتى القتل على يد شرطة أو جيش بلادك. وهذا في حدِّ ذاته يُبرِّر إعادة تسمية تلك الدول بدول "ما بعد الديمقراطية".
النفاق الغربي
يقول غابون: وفي مثالٍ صارخٍ على النفاق والمعايير المُزدوجة، أعلنت فرنسا وألمانيا أنَّهما ستتوقَّفان عن بيع الأسلحة لتركيا بسبب عملية الرئيس أردوغان في شمالي سوريا. ومن الواضح أنَّ ماكرون وأنجيلا ميركل يعتقدان أنَّ بعض البلاد فقط -مثل بلادهما كما يبدو- هي التي يحق لها الدفاع عن سلامة أراضيها عن طريق ملاحقة التنظيمات الإرهابية في الخارج، في حين لا يحق للبلاد الأخرى فعل ذلك.
علاوةً على أنَّ تلك الدول الأوروبية، مثل فرنسا، لم تتوقف عن بيع الأسلحة للحكام المُستبدين الوحشيين والقتلة الجماعيين، مثل: عبدالفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، الذين يستطيعون اغتيال معارضيهم أو ناقديهم في هدوء وقصف السكان المدنيين من اليمن إلى غزة وسحق تظاهراتهم المحلية المُؤيدة للديمقراطية بالدماء -ويفعلون ذلك بمباركةٍ، وتورُّط سلبي، ودعمٍ سياسي ودبلوماسي ومالي وعسكري نشط في أغلب الأحيان من جانب تلك الحكومات الغربية.
وخير دليلٍ على ذلك هو هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات الحاشدة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي أعقبتها أمطارٌ من الرصاص وعصي الشرطة وخراطيم المياه -للمحظوظين- من جانب حكوماتهم.
"فجوة الديمقراطية" في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
يُعَدُّ افتقار هذا الجزء من العالم إلى الدول الديمقراطية التعدُّدية القائمة على المساواة بحق، مشكلةً أثارت دهشة المُحللين لوقتٍ طويل. وقدَّم البعض تفسيراً قائماً على "تخلُّف" الدين أو الثقافة، و "العقليات المُتحجرة" في جذورها وأصولها التي تعود إلى العصور الوسطى.
وأدرك آخرون أنَّ التخلُّف الديمقراطي لتلك الدول هو أمرٌ مُرتبط بالهياكل الاقتصادية والاجتماعية -بما فيها "لعنة النفط"- وليس الدين أو الثقافة، رغم أنَّه من الواضح أنَّ هذه الأخيرة تستطيع التأثير على الأولى وتشكيلها بدرجات مُختلفة.
وفي الغرب، اكتسبت هذه التفسيرات، التي تصُب في مصلحة العنصرية المُناهضة للعرب ورُهاب (الإسلاموفوبيا)، شعبيةً منذ وقتٍ طويل. ويحظى أي شخصٍ يُردِّد هذه التفسيرات بالشهرة المضمونة على وسائل الإعلام والاعتراف الرسمي، علاوةً على المنافع الأكثر ماديةً في صورة اللقاءات مدفوعة الأجر، وأعمدة الصحف، وعقود الكُتب المُربحة، وعروض الوظائف في الجامعات ومراكز الأبحاث، أو المناصب والتعيينات الرسمية في الحكومة.
ومنذ القرن الـ17، ألقى أهم المُفكِّرين الإسلاميين الحداثيين، مثل الفقيه والمعلم ووزير الإمبراطورية العثمانية خيرالدين الرملي، باللوم على الاستبداد بوصفه السبب الرئيسي لـ "تخلُّف" العالم الإسلامي.
واليوم، قلةٌ نادرة من تلك الأنظمة والدول، الإقصائية والطائفية والقمعية الوحشية، هي من تمنح شعوبها مكانهم المُستحق في حياتهم السياسية. ولكن لا يزال هُناك سببان جذريان لانعدام الديمقراطية والحرية السياسية والعدالة والمساواة.
الأسباب الجذرية لانعدام الديمقراطية والحرية
السبب الأول، والمتواصل منذ قرونٍ الآن، هو التطفُّل المُستمر وسياسات التدخُّل وفرض الهيمنة القسرية من جانب القوى الغربية في ذلك الجزء من العالم. ويأتي ذلك في أشكالٍ مُتنوعة، منها: الاستعمار المباشر، والغزو العسكري، والاحتلال، وتغيير النظام، والانقلاب العسكري، والدول الدمية، وسرقة الثروات الطبيعية (مثل النفط) والأراضي (بطرق قانونية أو غير قانونية).
علاوةً على الاستغلال السخيف لتلك الدول بوصفها أدوات في الحروب بالوكالة، وخلال التنافس الكبير على النفوذ إبان الحرب الباردة، وما أعقبها من صراعات فتكت بالشرق الأوسط. وأدَّى ذلك إلى تفكيك و "بلقنة" وتقسيم الوحدات السياسية القائمة والعاملة -مثل الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى- وذلك عن طريق استخدام الأقليات ضد دولها لإضعاف الأخيرة والحيلولة دون ظهور قوى عربية وطنية وقومية نافذة وغير مُنحازة، كما يحدث في حالة الأكراد وغيرهم.
والأسوأ هو أنَّه في كل مرةٍ تُطلق شعوب تلك البلاد حركةً ديمقراطية محلية حقيقية، تقف القوى الغربية على الحياد وتُشاهدهم في صمت وهم يتعرضون للقمع بواسطة الأنظمة العربية المُتحالفة مع الغرب -ويحدث ذلك عادةً بصيغة الموافقة، وباستخدام أسلحةٍ غربية الصنع- أو يتدخلون لتأدية المهمة بأنفسهم (كما حدث في إيران عام 1953 ضد حكومة مصدق).
وفي أعقاب ذلك، ينتحبون بنفاقٍ قائلين: "لماذا، لماذا ليس العالم الإسلامي العربي أكثر ديمقراطية؟". والسبب الثاني هو استبداد الدولة بالتأكِّيد.
الرحلة الطويلة والدموية
لكن هذه الأسباب ليست بمعزلٍ عن بعضها البعض، بل هي مُتداخلةٌ بعمق، نظراً لأنَّ غالبية الدول العربية المُستبدة -من المغرب إلى السعودية- لا تزال مدعومةً ومُؤيَّدةً ومصنوعةً أحياناً من جانب الغرب نفسه (مثل نظام الدولة البهلوية، ونظام رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003).
والحقيقة هي أنَّ شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي هي شعوبٌ تُفكِّر في الديمقراطية مثل أيّ شعبٍ طبيعي كما أثبت الربيع العربي، لم يسبق أن سُمِح لها بحُكم أنفسها بوصفها كيانات سياسية مُستقلة وذات سيادة.
وهذه الحقيقة هي أساس العجز الديمقراطي في المنطقة، وليست مُجرَّد سمةٍ وهمية يتعذَّر محوها تتعلَّق بـ "الإسلام" أو "تخلُّف العقليات العربية" التي يتفشى فيها التعصُّب.
وتكشف هذه الموجة الجديدة من أعمال الشغب والثورات بطول المنطقة عن أنَّه في رحلة الشعوب الدموية الطويلة من أجل الحرية والاستقلال والسيادة والعدالة نجد أنَّ القوتين الرجعيتين الرئيسيتين المُناهضتين للثورات واللتين تقفان في طريق تلك الشعوب -كما جرت العادة على مدار تاريخها- هي أنظمتهم العربية والقوى الغربية التي تدعم تلك الأنظمة في غالبية الأحيان.