كل تفاصيل الجريمة تُثير في النفس الاستياء المَشوب بالشجن؛ بدءاً من دافعها الرئيسي، حيث المتحرش ينتقم ممن تجرَّأ ودافع عن عِرض فتاة لا يعرفها؛ فيقتله بعد تدبير وخُطة، مروراً بتفاصيل الحياة الشخصية للقاتل والقتيل والتي بدأت تتسرب للعلن وتخلق حالة الاهتمام الشعبي بالجريمة، فنحن هنا أمام فتى مقتول يُجمِع كل مَن عرفوه على أنه مثال لمَن تلقَّى تربية حسنة في زمن رديء، في مواجهة قاتل ينتمي بكل تفاصيل شخصيته إلى هذا الزمن الرديء، حيث المال الوفير الممنوح له دون حساب، دون تربية، دون أن يُغرَس في نفسه أي واعظ من أي نوع، دون تفكير صادق ممن منحوه، حول ماذا سيفعل "الفتى البلطجي ابن الناس الكويسين" بما تم منحه من إحساس مُفرط بالقوة وبالاحتقار لكل شيء حوله؟
لقد قَتَل؛ أهدر دم بريءٍ بدمٍ بارد، في اللحظة التي شعر فيها أن "أحدهم" تجرأ ومنعه من فعل شيء يريده.
بالتدريج، بدأ كل مِنّا يشعر بالخوف يتمكن منه، خوف شخصيّ غريزي أصيل؛ فهل هناك أعزّ على الإنسان من حياته كي يتملكه الخوف بسبب احتمالية فُقدانها في اندفاعة مراهق يشعر أن من حقه كل شيء؟
الأزمة أكبر من شخوص "محمد راجح" ومَن معه من متهمين في قضية اغتيال الشاب "محمود البنا"، بالرغم مِن فداحة الجريمة، إلا أن الأمر أعمق من هذا؛ فلقد شعر الجميع أن الجريمة تعد جرس إنذار لما هو أشد وطأة؛ فنحن هنا أمام قاتل لم يرتكب جريمته بدافع شهوة مباشرة أو لغرض مادي أو بدافع اجتماعي أو ديني، بل لشعوره بالقوة المُفرطة، بحقه في نيل كل شيء، مهما كانت رغباته مجنونة.
فهل "راجح" وحده، أم هناك الكثيرون في الكواليس، لكنهم لم يقتلوا بعد؟
(2)
من خلال كلمات أغاني "المهرجانات" الشعبية، وفي معظم الأفلام، والمسلسلات، رسائل واضحة تدخل إلى عقول متلقيها من شباب الأجيال الصاعدة: هذا زمن القوة واستعراضها، عصرٌ لا يعترف بالقانون أو النظام، كل شيء فوضويّ، الأشياء كلها مُستهان بها حتى الحياة والموت، ولا قيمة حقيقية لشيء إلا من خلال فرض الشاب "الشبح" لسيطرته من خلال السلاح و "الصُّحبة" التي تقف في ظهره.
وها نحن في مواجهة أجيال كاملة من "الأشباح" -كما يسمون أنفسهم- يمتلكون لغتهم الخاصة، يعيشون لاستعراض قوتهم وعدد صُحبتهم، فخورون بأنفسهم، بلا سبب حقيقي للفخر؛ فالإحساس بالفخر هنا جزءٌ أساسيّ من إحساس كل فرد فيهم بوجوده، حتى وإن عانى صاحبه من انعدام تحقيقه لأي إنجاز وغياب أي معنى لحياته.
يبدو "راجح" من صوره، وتفاصيل حياته التي تتكشف بالتدريج، ابناً مُخلصاً لهذه المرحلة التعيسة، حتى إنه نال تعاطفاً حذراً من بعض "الأشباح" على منصات التواصل الاجتماعي، خاصةً من الفتيات حديثات السن اللائي يقعن في غرام هذا النوع من الفِتية بالتحديد… وهذا شيء لو تعلمون مخيف.
(3)
في قرية "تلبانة" بمدينة "المنصورة"، قامت إحدى السيدات بإجبار شاب- تحت تهديد السلاح- على تكبيل أخيه وتعذيبه حتى الموت، بعد أن اتهمته بسرقة خاتم ذهبي من بيتها، وقامت بتصويره واحتفظت بالفيديو؛ كي يكون دليل براءتها إذا ما اقتضت الحاجة، لكن وقائع الجريمة انتشرتْ بين أهل القرية؛ فما كان منهم إلا أن حاصروا منزل السيدة، وقاموا بإضرام النيران فيه بأنفسهم، ثم منعوا سيارات الإطفاء والإسعاف من الوصول للبيت؛ حتى قضت عليه النيران تماماً.
يجد المتأمل أننا في هذه الواقعة أمام حالة خطيرة للمجتمع عندما يلجأ أفراده لتطبيق العدالة -أو التي يظنونها عدالة- بأنفسهم، بأيديهم المُجرَّدة، دون انتظار تحقيقات الجهات المَعنيَّة.. في بلد ذي كتلة سكانية ضخمة ومساحة جغرافية ممتدة مثل مِصر يبدو الأمر كابوسياً تماماً عندما تفكر في إمكانية انتشار مثل هذا الاعتقاد بين المواطنين، فلا يمكن تصوُّر مجتمع يطبق أفراده العدالة بأيديهم إلا كغابة مفتوحة يلتهم بعضها بعضاً، كالنار تأكل نفسها.
إيمان المواطنين بفاعلية مؤسسات تطبيق القانون، وانصياعهم لإجراءات التقاضي، ليس من الرفاهيات التي يمكن الاستغناء عنها.. فتصوُّر العكس يجعل استعادة هذه الثقة، إن كانتْ قد بدأت تُفقَد لدى البعض، واجباً وطنياً على كل عاقل؛ فهذا يبدو السبيل الرئيسي لحفظ تماسك النسيج المجتمعي، الذي يعاني بالفعل تحت وطأة ضغوط اجتماعية اقتصادية لا ترحم.
(4)
لسنوات طويلة عبر تاريخنا الحديث، احتفظ "القتل" لنفسه بهيبة في الوجدان المصري العام، حتى مع ارتفاع معدل الجريمة.. لكن هذه الهيبة نراها الآن تنكسر بالتدريج؛ فتجد جرائم القتل تلاحقك كل يوم في أرجاء مصر المختلفة، ولأسباب تافهة ومجهولة أحياناً؛ ففي نفس الفترة التي نالت فيها قضية قتل "البنا" اهتماماً جارفاً، مرَّت جريمة قتل أخرى دون ضجيج، وقع ضحية لها طالب لم يتجاوز السابعة عشر من عمره، في "بورسعيد"، بعد أن تلقى طعنة في صدره خلال مشاجرة في محيط "مدرسته" مع بعض "زملائه"، والخنجر الذي تسبب في سقوط الطالب القتيل "أيمن حسن" كان في صحبته أساساً؛ حيث أشهره في وجه مَن قتلوه مُهدداً في بداية المشاجرة، قبل أن تنقلب الأمور، ويستطيع أحدهم خطفه من يده، وغرسه في صدره.
لا أعتقد أن هناك خطراً يمكن أن يواجه تماسك أي مجتمع أعظم من أن يفقد القتل هيبته، ويصبح جريمة تُرتَكب بشكل عادي، كأي جريمة أخرى.
جريمة قتل "البنا" سجلتها كاميرات المراقبة بالصوت والصورة، وشاهدها الملايين، وتعاطفوا وبكوا على الدم البريء المهدور، وخافوا على أنفسهم وإخوتهم وأبنائهم من مصير مشابه، إذا ما صادف أحدهم أن يوقعه حظه العاثر تحت رحمة "راجح" آخر، أو "شبح" آخر ممن تسيطر عليهم أوهام القوة والفحولة والإحساس بالسطوة.
أصبحت الجريمة قضية رأي عام، ينتظر الملايين الحكم فيها، وتراقب مُجريات محاكمة المجرمين أجيال كاملة من جيل النشء، ينظرون وينتظرون المصير الذي سيلقاه القتلة المتورطون.. والشكوك والهمس يتصاعد حول محاولات لطمس معالم الجُرم؛ لتبرئة القاتل والمتورطين معه؛ فعائلة القاتل "الكبيرة" يبدو أنها لا تزال تقاوم أن يلقى ابنها المصير الذي يستحقه.. لا يمكن تخيُّل فداحة رد فعل ملايين من الشباب الصغير الذين يتابعون ما يجري إذا ما مَرَّ الأمر دون أن ينال أهل الشهيد قصاص دم ابنهم المهدور ظُلماً؛ فكأننا عندها نقول للأجيال الصاعدة: هذه غابة، لا رادع لكَ فيها ما دمتَ تمتلك درعاً تحميك؛ فافعل ما شئت، أي شيء، حتى لو أردتَ التحرُّش بمَن تشاء من البنات، وقتل مَن يحاول أن يمنعك.
وهذا مصير لا يتمنى أي عاقل أن يشهده.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.