الاحتجاجات بلبنان مختلفة في مشاهدها، لكن اختفاء الطائفية معجزة بكل المقاييس

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/21 الساعة 15:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/21 الساعة 16:20 بتوقيت غرينتش
المتظاهرون يواصلون احتجاجاتهم في العاصمة بيروت ومناطق لبنانية أخرى - رويترز

يشتهر لبنان بين بلدان الشرق الأوسط بطبيعته الخلابة ونظامه السياسي الفريد من نوعه، وأيضاً بكونه البلد الذي عانى حرباً أهلية طاحنة. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي قبل نحو تسع سنوات، لم يكن لبنان بين الدول التي شهدت تظاهرات، لكن مع اندلاع الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، وجدنا تلك الصورة تنتقل إلى لبنان، ولكن تقريباً كل شيء هناك مختلف، كيف ذلك؟

شرارة الاحتجاجات مختلفة

لا توجد اختلافات كبيرة بين أسباب خروج اللبنانيين إلى الشوارع والأسباب التي فجَّرت الثورات في بقية الدول العربية التي شهدت حراكاً شعبياً، وربما يكون الاختلاف الوحيد هنا هو الشرارة التي أشعلت الحراك اللبناني، والمقصود الإعلان عن فرض ضرائب على "خدمات الواتساب".

لكن بالطبع، لا يمكن تسمية الاحتجاجات الشعبية في لبنان بثورة الواتساب، حيث إن الحكومة تراجعت بسرعة عن تلك الضريبة، لكن الحراك في الشارع الذي بدأ الخميس 17 أكتوبر/تشرين الأول، سرعان ما تحول إلى أضخم تظاهرات شعبية، ربما في تاريخ لبنان.

اختفاء الطائفية هو المعجزة الحقيقية

أهم ما يميز احتجاجات لبنان أنها تتم تحت عَلم لبنان دون غيره من الأعلام الحزبية أو الطائفية، وهذا الأمر في حد ذاته يعد معجزة بكل المقاييس حتى الآن، لأسباب تكمن في طبيعة التركيبة السكانية المعقدة بالبلاد، حيث إن لبنان توجد فيها 18 طائفة رسمية، بين مسلمين سُنة وشيعة؛ ومسيحيين موارنة ودروز وغيرهم.

وعلى الرغم من أن لبنان بلد يتمتع مواطنوه بِحُرية التعبير عن الرأي والتظاهر، وربما يكون هو البلد العربي الوحيد في هذا الشأن؛ ومن ثم ففكرة تظاهر اللبنانيين في حد ذاتها ليست حدثاً، لكن هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها المظاهرات في شتى المدن اللبنانية، رافعةً شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".

ظهر علم لبنان واختفت أعلام الطوائف والأحزاب – رويترز

وهنا تكمن المعجزة بهذا الحراك، فالنظام السياسي اللبناني معقد في تركيبته التي تعكس التركيبة السكانية الطائفية، حيث يقوم النظام على المحاصصة الطائفية، على أساس توزيع السلطات بناء على الطوائف، فرئاسة الجمهورية للمسيحيين الموارنة، ورئاسة الحكومة للمسلمين السُّنة، ورئاسة البرلمان للشيعة.

ومجلس النواب يتألف من 128 نائباً، مقسَّمين بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، لكنهم في الوقت نفسه موزعون بحسب نسبة المذاهب في كل طائفة وبحسب المناطق الجغرافية، وكان عدد النواب المسيحيين قبل الحرب الأهلية ما بين عامي 1975 و1990 أكثر من عدد النواب المسلمين، لكن اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية أقر النظام الحالي.

"كلن.. يعني كلن"

هذا هو الشعار المرتبط بشعار "الشعب يريد النظام" الذي تردد بلبنان كما تردد في بقية الثورات العربية، ولكن عبارة "كلن.. يعني كلن" باللهجة اللبنانية تعني "كلهم.. أي يرحلون جميعاً"، وهو ما يعكس عمق معجزة الإجماع الشعبي اللبناني الذي قفز فوق الانتماءات الطائفية والحزبية للمرة الأولى، فالمطلب الوحيد هو استقالة الطبقة السياسية الحاكمة ومحاكمتهم بتهم الفساد واستعادة الأموال المنهوبة.

من ينظم المظاهرات؟

اليوم الإثنين 21 أكتوبر/تشرين الأول، هو اليوم الخامس لاندلاع الاحتجاجات اللبنانية، ولا توجد أي جهة تقف وراء تنظيم تلك المظاهرات التي شارك فيها ما يقرب من 35% من عدد السكان البالغ نحو 6 ملايين، بحسب التقارير الإعلامية التي أشارت إلى أن أعداد المحتجين تخطت 2.2 مليون، الأحد 20 أكتوبر/تشرين الأول.

وعلى الرغم من ذلك، عكست الصور المباشرة التي تنقلها كاميرات التلفزيون، محلية وعربية وإقليمية ودولية، مشاهد حضارية تتسم بالتنظيم وغياب المشاحنات ومشاهد التدافع، وهي كلها مشاهد معتادة بكل الاحتجاجات تقريباً في بقية الدول العربية، وهو ما يكشف عن مدى الوعي والتحضر لدى الشعب اللبناني المعتاد ممارسة الحرية السياسية منذ نهاية الحرب الأهلية.

حضور لافت للمرأة

المتظاهرون يرقصون خلال مظاهرة مناهضة للحكومة في وسط بيروت ، لبنان ، 20 أكتوبر / تشرين الأول 2019. (رويترز)
المتظاهرون يرقصون خلال مظاهرة مناهضة للحكومة في وسط بيروت ، لبنان ، 20 أكتوبر / تشرين الأول 2019. (رويترز)

المشهد الآخر المختلف كلياً عن الاحتجاجات في بقية الدول العربية هو الحضور اللافت للمرأة اللبنانية ومشاركتها بكثافة، وهو ما يؤكد نقطة الحرية التي يتمتعن بها في بلد، هو دائماً نموذج لما تتمتع به المرأة من حقوق سياسية واجتماعية متساوية مع الرجل. ومن المهم هنا أن نذكر أن منصب وزير الداخلية بالحكومة الحالية تشغله السيدة ريا الحسن، وهي الحالة الوحيدة في كل الدول العربية.

غياب القمع الأمني

ربما يكون مشهد قوات الأمن التي تتعرض للقذف بزجاجات المياه من جانب بعض المتظاهرين، وبينما يتصدى بقية المتظاهرين لمن يقذفون الزجاجات، تلتزم قوات الأمن ضبط النفس بصورة تامة- هو المشهد الذي نقلته كاميرات التلفزيون، خصوصاً في اليومين الأول والثاني للتظاهرات، ربما يكون هذا هو الاختلاف الأبرز بين كل مشاهد الاحتجاج الشعبي في البلاد العربية واحتجاجات لبنان.

المَشاهد التي تتكرر وتكاد تكون السمة المميزة للاحتجاجات في البلاد العربية التي شهدت حراكاً، هي مشاهد القمع الأمني سواء بقنابل الغاز والعصي وخراطيم المياه أو الرصاص المطاطي والحي. أما في لبنان فالمشهد أيضاً مختلف في مجمله.

عوامل تدعو إلى التفاؤل

النظام السياسي في لبنان معقد، وهناك حسابات إقليمية وتدخلات معروفة، فحزب الله تابع لإيران الشيعية، وللسعودية كلمة الفصل في مواقف تيار المستقبل السُّني، وللنظام السوري تأثيره وحساباته، هذا بخلاف القوى الأوروبية خصوصاً فرنسا، وهذه كلها أمور لها حسابات وتأثير على القرار السياسي.

أيضاً غياب قيادة أو جهة منظّمة للحراك الشعبي يجعل من الصعب جداً التوصل إلى اتفاق يحقق المطالب الشعبية ويضمن انتقالاً سلساً للسلطة بعد أن "يرحلوا جميعاً"، وهو ما يمثل معضلة أخرى في كيفية تحقيق مطالب الحراك الشعبي الجارف.

لكن التنظيم والوجه الحضاري والوعي الذي عكسته الاحتجاجات الشعبية في لبنان حتى الآن، يمثل نقطة مضيئة في إمكانية تحقيق مطالب الشعب دون الانزلاق إلى مخاطر المواجهات مع قوات الأمن والجيش وما قد يستتبع ذلك من غياب تدريجي لتلك الصورة الرائعة التي عكستها تظاهرات الأيام الخمسة حتى الآن والتي شهدت تفاعلاً كبيراً من الشعوب العربية على وسائل التواصل الاجتماعي.

تحميل المزيد