منذ الخميس الماضي، 17 أكتوبر/ تشرين الأول، تجتاح لبنان احتجاجات واسعة وغير مسبوقة، كان سببها الأوّلي رفض إعلان الحكومة عن تضمين ضرائب جديدة في موازنة العام المقبل، تشمل قطاع الاتصالات المجانية عبر الهاتف الخلوي وغيره، بهدف توفير إيرادات جديدة لخزينة الدولة التي تعاني اقتصادياً.
لكن هذه الاحتجاجات التي ما زالت مستمرة وتتوسع بشكل كبير لتشمل جميع المناطق اللبنانية وجميع المكونات والطوائف، سرعان ما أخذت سوقفاً كبيرة، إذ يطالب المحتجون برحيل الرئاسة اللبنانية، والحكومة، والبرلمان أيضاً، وتنحية جميع الرموز والنخب التي ما زالت تدير المشهد السياسي في البلاد منذ عقود.
لكن في بلد كلبنان، تعتبر الخارطة السياسية فيه هي الأكثر تعقيداً، نظراً لتركيبته الديموغرافية وطريقة إدارة شؤون البلاد بالمحاصصة بين الطوائف المختلفة، يصعب التنبؤ بسيناريوهات المشهد السياسي القائم على التوازنات، فإلى أين ستقود هذه الاحتجاجات غير المسبوقة، وهل ينجح المحتجون بإسقاط جميع النخب السياسية كما يطالبون، وماذا سينتظرهم بعد ذلك.
الأزمة الاقتصادية نجحت في توحيد اللبنانيين لأول مرة
يقول وائل نجم، الباحث السياسي اللبناني لـ"عربي بوست"، إن الملف الاقتصادي استطاع أن يوحّد اللبنانيين حوله بشكل غير مسبوق، على الرغم من الانقسام السياسي الموجود بين النخب والأحزاب. إذ ينظر اللبنانيون على اختلاف تنوعهم السياسي والطائفي إلى أنّ هناك حالة فساد كبيرة موجودة في إدارات الدولة، سببها المحاصصات والمصالح الفئوية للقوى السياسية المختلفة، والتي تتقاسم الوزارات الحكومية فيما بينها، وذلك في الوقت الذي تفرض فيه الحكومة المزيد من الضرائب على اللبنانيين.
وبحسب نجم، فإن هناك اجماعاً كاملاً بين اللبنانيين الآن، على ضرورة رحيل الطبقة السياسية بالكامل، مضيفاً أن التظاهرات الحالية فاجأت النخب السياسية من حيث حجمها ورقعة توسعها، إذ إنها اجتاحت كل المدن والمناطق اللبنانية، ويشارك فيها كل المكونات الطائفية والمذهبية في البلاد.
ويرى نجم أن المواطن اللبناني فقد ثقته بالكامل في زعمائه السياسيين، وهذا سبب تحول المطالب من اقتصادية بحتة في البداية، إلى المطالبة برحيل رئيس الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي، وجميع قادة القوى والأحزاب.
حكومة الحريري تجسّ نبض الشارع
صحيفة "الأخبار" اللبنانية، كانت قد سرَّبت الأحد 20 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ورقةً يُعدّها رئيس الوزراء سعد الحريري، تتضمن أفكاراً لاقتراحات قوانين، الهدف منها تهدئة الشارع الغاضب، الذي يتظاهر منذ 3 أيام في مناطق عدة من لبنان وبأعداد كبيرة، مطالباً برحيل الحكومة.
وذكرت الصحيفة أنه بحسب مصادرها الحكومية فإن ورقة الحريري تتضمن أفكاراً لإقرار مجموعة من اقتراحات القوانين، وأنها تتضمن "خطوات نوعية غير مسبوقة"، منها:
– إلغاء كل أنواع الزيادات في الضرائب على القيمة المضافة، والهاتف، والخدمات العامة.
– إلغاء كل الاقتراحات الخاصة باقتطاع جزء من تمويل سلسلة الرُّتب والرواتب، وإعادة العمل بالقروض السكنية.
– أن تكون موازنة العام 2020 بلا عجز.
وبحسب المصدر نفسه، فإن "ورقة الحريري تتضمّن اقتراحاً بخصخصة قطاع الهاتف الخلوي قريباً جداً، والشروع في تطبيق خطة للكهرباء".
وكان وزير المالية اللبناني، علي خليل، قد كتب على حسابه في "تويتر" أمس السبت، إنه تم الاتفاق، خلال لقاء مع الحريري، على إنجاز موازنة عام 2020 من دون فرض أية ضريبة أو رسم جديد.
وأضاف أنه جرى الاتفاق أيضاً على إقرار خطوات إصلاحية جدية (لم يحددها)، مع مساهمة من القطاع المصرفي وغيره، بما لا يطول الناس بأي شكل، ولا يحمّلهم أية ضريبة مهما كانت صغيرة.
هل ترضي إصلاحات الحريري الشارع اللبناني؟
وحول قبول اللبنانيين بهذه الإصلاحات، شكّك الباحث نجم في أن اللبنانيين سيقبلون بهذه الاصلاحات بهذه المرحلة، لأنهم تجاوزوها بالفعل، وارتفع سقف مطالبهم الآن لما هو أكثر من ذلك.
مشيراً إلى أن الحكومة تعمدت تسريب ورقة الإصلاحات الممكنة، لكي تطرحها اليوم أو غداً، إذا وجدت أن الشارع هدأ وقبل بها، لكن حتى اللحظة، لا يبدو أن الشارع سيقبل بهذه الإصلاحات.
إذ قالت الصحيفة اللبنانية إن مسؤولين رفيعي المستوى، يتقدمهم الحريري، تساءلوا في المداولات التي تجري بينهم، عما إذا كانت هذه الإجراءات كافية لامتصاص نقمة الشارع. ونقلت الصحيفة تصريحات قالت إنها للحريري، تفيد بأنه قال لزواره إنه "يدرس الأمر لناحية كيفية إقناع الناس بجدّيتنا في المعالجة".
وشهد اليوم الثالث من الاحتجاجات الشعبية تطورات لافتة، حيث وعد الرئيس ميشال عون بـ "حل مطمئن" للأزمة، في حين أعلن حزب "القوات" استقالة وزرائه الأربعة من الحكومة.
وصرَّح رئيس حزب القوات اللبنانيّة سمير جعجع خلال مؤتمر صحفي عقده في معراب: "توصلنا إلى قناعة أن هذه الحكومة عاجزة عن اتخاذ الخطوات المطلوبة لإنقاذ الوضع الاقتصادي والمالي المتفاقم"، لافتاً إلى أنّ حزبه "قرَّر مطالبة وزرائه بالتقدم باستقالاتهم من الحكومة". وفور إعلان الاستقالة، احتفل المتظاهرون في وسط بيروت السبت، مطالبين باستقالة باقي الوزراء.
المرحلة القادمة غير واضحة وربما ستكون أكثر تعقيداً
وحول واقعية فرضية إسقاط جميع النخب السياسية وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية في لبنان، قال الباحث نجم إن ذلك أمر يصعب تحقيقه، مضيفاً أن النظام اللبناني قائم على التوازنات الطائفية، وهو معقّد بشّدة.
كما أنه من الصعب رحيل الرئيس عون أو حكومة الحريري، أو حتى حل المجلس النيابي الآن، لأن ذلك سيدخل البلد في دوامة جديدة قد تقود نحو الفوضى والفراغ السياسي، كما حذَّر من ذلك العديد من الساسة أنفسهم.
ويضيف نجم: نعم، فمن المفروض إنتاج نظام سياسي جديد بالكامل، لكن هذا ليس أمراً سهلاً ومتاحاً في بلد كلبنان، الناس انتفضوا احتجاجاً على كل مظاهر الفساد، لكنهم لا يملكون برنامجاً ورؤية للتغيير، لأن كل فريق أتى من مشرب سياسي أو طائفي معين، ولا توجد قيادة واضحة يُجمع عليها لهذا الحراك حتى اللحظة، بالرغم من قوّته.
فعلى فرض أن الرئاسة سقطت والحكومة كذلك وتم حل المجلس النيابي، فإن المتظاهرين لم يبلوروا أي رؤية لليوم التالي بعد إسقاط هذه النخبة، التالي غير واضح لأحد، وليس سهلاً على الإطلاق.
وحتى لو قام نظام سياسي جديد في البلاد على أنقاض هذا النظام، فإن النظام الجديد سيعكس حجم القوى السياسية اللبنانية المختلفة بشكل أو بآخر، وبالتالي سيعكس منطق "الغلبة"، وهذا سيدخل البلد في دوامة فوضى، ربما تكون أكثر تعقيداً من السابق.
في النهاية، من غير المعلوم إذا كانت خطة الحريري التي سيعلن عنها لاحقاً، سترضي اللبنانيين، وستجعلهم يقفون عند هذا الحد في احتجاجاتهم -التي ما تلبث أن تتوسع- أم أنها ستقود البلاد نحو المجهول؟.