بعد 8 سنوات من الثورة.. التونسيّون نجحوا في التمازج مع الديمقراطية، وتجربتهم ملهمة للعالم العربي

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/14 الساعة 10:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/15 الساعة 16:32 بتوقيت غرينتش
(MEE)

دُعي سبعة ملايين تونسي في 6 أكتوبر/تشرين الأول، بين جولتين من الانتخابات الرئاسية، لاختيار 217 ممثلاً عنهم في البرلمان. وكانت هذه الانتخابات هي الانتخابات البرلمانية الثانية منذ اعتماد دستور عام 2014 في تونس.

وقد نجح التونسيّون، الأحد 13 أكتوبر/تشرين الأول، في انتخاب رئيس جديد لهم، خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إذ أظهرت النتائج الأولية غير الرسمية للانتخابات فوز المرشح المستقل قيس سعيد بنسبة هي الأعلى منذ الثورة التونسية تجاوزت 70% من مجموع الأصوات، على منافسه نبيل القروي رئيس حزب "قلب تونس".

بالعودة للانتخابات التشريعية التونسية، وهي محور هذا التقرير، تتحدث الباحثة الجزائرية المقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، داليا غانم، عن تجربتها في المراقبة الدولية للانتخابات التونسية، وكيفية اكتساب التونسيين للقيم الديمقراطية بعد 8 سنوات من الثورة، حتى أصبحت عادة طبيعية لهم، وتحولت لمصدر إلهام للعالم العربي.

اكتساب الديمقراطية ودعمها

تقول داليا في مقالة نشرت لها بموقع Middle East Eye البريطاني: أُتيحت لي الفرصة لأكون مراقبة دولية للانتخابات في المعهد الجمهوري الدولي (IRI) والمعهد الديمقراطي الوطني (NDI) في مهمة دولية مشتركة لمراقبة الانتخابات.

وقد كُلِّفت بالمراقبة في بلدة زغوان. وكانت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية أقل من نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي قاربت 50%. وتقدر نسبة المشاركة بحوالي 41.3% على مستوى الدولة، ووصلت إلى 41%  في زغوان.

يوضح المراقبون أن هذه النسبة ما تزال متواضعة بالنظر إلى أهمية القضايا السياسية. وصحيح أن التونسيين يشعرون بخيبة أمل كبيرة بسبب التبعات الاجتماعية والاقتصادية التي أدى إليها التحول السياسي، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن دعمهم للديمقراطية لا يعوقه شيء.

فبعد ثماني سنوات فقط من الثورة، أصبح التمازج الثقافي مع الديمقراطية في هذا البلد الصغير الواقع في شمال إفريقيا حقيقة واقعة، إذ عدّل التونسيون القيم الديمقراطية واعتمدوها واكتسبوها، وأصبح التصويت الشفاف عادة. ورغم انخفاض نسبة المشاركة في هذه الانتخابات التشريعية، أظهر التونسيون التزامهم بالممارسات والعمليات الديمقراطية.

كان المواطنون مشاركين بقوة في هذا المشهد الانتخابي، وبدا ذلك واضحاً في حضور وكلاء المرشحين والمراقبين المحليين وممثلي وسائل الإعلام الذين قابلتهم خلال يوم الانتخابات. وقالت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إنها اعتمدت حوالي 700 مراقب دولي، و17 ألف مراقب محلي، و95 ألف وكيل للمرشحين في البلاد.

داخل زغوان.. نموذج مصغّر للديمقراطية شمال تونس

تقول داليا: رغم أنني لاحظت بعض المخالفات البسيطة المتفرقة، فقد راقني احترام الموظفين ومعرفتهم وكفاءتهم المهنية. وفي زغوان على الوجه الخصوص، كانت الانتخابات تُدار إدارة جيدة وتمت في جو هادئ ومنظم بما يتماشى مع اللوائح المعمول بها.

تقع زغوان على سفح جبال أطلس في شمال تونس، على بعد حوالي 60 كم جنوب العاصمة، ويبلغ عدد سكانها 281,50 نسمة. وهذه الولاية هي من بين أقل المدن سكاناً في تونس، إلا أنها الأعلى في مستوى التعليم، إذ بلغ معدل الالتحاق بالمدارس فيها 95% عام 2017.

وتبلغ مساحة الأرض الزراعية في هذه المنطقة حوالي 282 ألف هكتار. ولذا، يعتمد الاقتصاد المحلي على الزراعة التي تستوعب حوالي 13% من القوى العاملة.

يقترب متوسط نسبة الفقر في ولاية زغوان من 20%، وتوجد تباينات ملحوظة بين المناطق الفرعية مثل صواف والناظور. ففي هاتين المنطقتين، وصلت نسبة الفقر إلى 26% و29% على التوالي مقابل 13% و18% في زغوان والزريبة.

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات اعتمدت حوالي 700 مراقب دولي، و17 ألف مراقب محلي، و95 ألف وكيل للمرشحين في البلاد/ رويترز
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات اعتمدت حوالي 700 مراقب دولي، و17 ألف مراقب محلي، و95 ألف وكيل للمرشحين في البلاد/ رويترز

ووفقاً للمعهد الوطني للإحصاء، انخفض معدل البطالة بدرجة ملحوظة في المنطقة، إذ انخفض من 20% عام 2004 إلى 9% عام 2018. ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى تطوير منطقة صناعية كانت حتى نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 تضم نحو 288 شركة.

وبفضل هذا الوضع الاقتصادي الأفضل نسبياً، شهدت الولاية اضطرابات واحتجاجات أقل من الولايات الأخرى في تونس. ولكن في عام 2017، انضم سكان زغوان إلى الاحتجاجات تضامناً مع متظاهري كامور -الذين احتلوا منشأة للنفط والغاز في جنوب تونس اعتراضاً على تهميش منطقتهم ونقص مشاريع التنمية- ولكنهم لم يشاركوا في الاحتجاجات الوطنية عام 2016 أو 2018 التي كانت تدور حول قطاعي الصحة والتعليم.

ووفقاً لمقابلات أجريت في اليوم الذي سبق الانتخابات مع السلطات المحلية في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، يتوفر في البلاد 137 مركز اقتراع و257 محطة اقتراع لما مجموعه 118,219 ناخباً. وتنافست 53 قائمة انتخابية في المجمل، منها 27 مستقلة مقابل 21 قائمة حزبية لحصد خمسة مقاعد في البرلمان.

ولما لم تتمكن أي قائمة من الوصول إلى الحصة الانتخابية، التي تبلغ حوالي 9800 صوت، وُزعت المقاعد الخمسة على القائمة التي حصدت معظم الأصوات. فحصلت حركة النهضة الإسلامية المعتدلة التي يتزعمها راشد الغنوشي على المركز الأول بعدد أصوات يبلغ 6304 أصوات؛ وجاء في المركز الثاني حزب نبيل القروي "قلب تونس" بـ 4873 صوتاً؛ وجاء في المركز الثالث الحزب العلماني نداء تونس بـ 2227 صوتاً؛ ثم جاء في المركز الرابع الحزب الدستوري الحر بـ 2,012 صوتاً؛ وجاءت في المركز الأخير قائمة "الخير" المستقلة بـ 1788 صوتاً.

لا مخالفات.. كل شيء منظم تنظيماً دقيقاً

خلال اليوم الذي سبق الانتخابات، كانت الأجواء هادئة في زغوان، باستثناء بعض الحملات الانتخابية التي لا تزال تعلق ملصقات مرشحيها للبرلمان على بعض الجدران في محيط مراكز الاقتراع. ولا تسمح الهيئة العليا للانتخابات بذلك، لأنها تفرض فترة صمت انتخابي لمدة 24 ساعة؛ وخلاف ذلك، لم تُرصد أي مخالفات.

واستقبلت مراكز الاقتراع جميع المواد الانتخابية الحساسة وكان يحرسها جنود من الجيش أقاموا في مراكز الاقتراع لحماية هذه المواد. وكانت المفاتيح بحوزة رؤساء مراكز الاقتراع.

خلال يوم الانتخابات، وصلت إلى مركز الاقتراع الأول في الساعة 7:15 صباحاً، ولاحظت أنه فتح أبوابه في تمام الساعة 8:00 صباحاً. وقضيت من 30 إلى 45 دقيقة في كل محطة اقتراع، ولاحظت أن ثمة تسعة مراكز اقتراع تنتشر بين بلدة زغوان، وحمام الزريبة، وقرية الزريبة، وجبل الوسط.

كان مستوى معرفة التونسيين بديمقراطيتهم عالياً جداً/ رويترز
كان مستوى معرفة التونسيين بديمقراطيتهم عالياً جداً/ رويترز

وكان رجال الجيش والشرطة يؤمّنون جميع مراكز الاقتراع التي زرناها وتمركزوا في الخارج التزاماً بالقانون. وكانت الأجواء هادئة وانهماك موظفي الاقتراع في عملهم كان واضحاً للعيان.

كان مستوى معرفتهم بالإجراءات وكفاءتهم المهنية مرتفعاً. وكان كل شيء منظماً تنظيماً دقيقاً: إذ كان الموظفون يتحققون من هوية الناخب واسمه بشكل منهجي في السجل الذي سيوقع فيه، وكانت ورقة الاقتراع تختم أمام الناخب في جوانبها الأربعة، فيما يغمس الناخب سبابة يده اليسرى في الحبر.

ولم يكن يُسمح باصطحاب الهواتف في مراكز الاقتراع، والتزم الموظفون بتطبيق هذا القانون.  وكانت شفافية العملية الانتخابية في جميع مراكز الاقتراع التي زرتها على مدار اليوم واضحة.

وكانت كل محطة اقتراع تضم ثلاثة موظفي اقتراع، رئيساً واحداً ومساعدين. وعلى مدار اليوم، لاحظت أن غالبية موظفي الاقتراع كانوا من النساء مقارنة بالناخبين الذين كانت أغلبيتهم من الرجال. وكان الموظفون المعتَمدون من مواطني البلاد والمراقبون المحليون والدوليون حاضرين، وقد استقبلوني بحفاوة عدة مرات، لأنني كنت "الشقيقة الجزائرية".

وجُهزت جميع المواد (سجلات الناخبين؛ وأوراق الانتخاب؛ وصناديق الاقتراع؛ وكابينات الاقتراع الكرتونية، والأختام، والحبر والدفاتر) بحذر. ولم تُلاحظ أي مخالفة خطيرة باستثناء بعض المشكلات البسيطة التي لاحظتها خلال اليوم، مثل غياب قوائم الناخبين أمام كل محطة اقتراع، وصعوبة وصول الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة أو الذين يعانون من مشاكل في التنقل إلى المراكز الانتخابية.

التونسيّون يعرفون القيم الديمقراطية وتعلّموها جيداً 

لوحظ بعض الارتباك بين كبار السن أو الأشخاص الذين لم يكونوا على دراية بما يجب فعله، فيما أصرت بعض النساء على أن يرافقهن أزواجهن. وشرح موظفو الاقتراع القواعد والتزم الناخبون بها؛ وحتى الأطفال الصغار لم يُسمح لهم بالدخول مع والديهم.

وعادة ما يظلون مع موظف مركز الاقتراع الذي ينشغل بإلحاحهم على غمس أصابعهم على الحبر. أما الممارسات الأخرى مثل التصويت الجماعي أو التصويت بالوكالة (التصويت نيابة عن شخص آخر) فتستحيل رؤيتها اليوم.

"التونسيون تعلموا الديمقراطية"

مثلما أوضحت امرأة تونسية تبلغ من العمر 48 عاماً، وهي موظفة في وزارة المالية بقولها: "اليوم، الأمور مختلفة في تونس. دعيني أخبرك قصة. أنا تزوجت عام 1995، وجئت من تونس العاصمة إلى زغوان. وطوال تلك السنوات، لم أغير إقامتي أبداً. وحتى عام 2009، كانت والدتي تتصل بي في كل انتخابات لتخبرني أنها صوتت بالنيابة عني باستخدام بطاقتي الشخصية. تخيلي ذلك؟ واليوم، هذه الألوان من الممارسات لا يمكن رؤيتها. القواعد تُحترم، والتونسيون تعلموا".

تقول داليا غانم: بعد ثماني سنوات فقط من الثورة التونسية، أظهر التونسيون أنهم يعرفون القيم الديمقراطية واستنسخوها وتعلموها. وهم يعملون بنشاط لرفع مستوى العملية الانتخابية وثقة المواطن في الانتخابات. ويجب أن يكون نموذجهم مصدر إلهام للعديد من دول المنطقة، وخاصة لبلدان شمال إفريقيا المجاورة.

تحميل المزيد