لا أظن أن مينه قد وجد مشقة في كتابة أي من رواياته، كما وجدها في هذه الرواية، كونها رواية عن حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، ولكنها لم تصدر في طبعتها الأولى إلا في عام 1990، يدل على أن الرجل قضى وقتاً طويلاً يبحث ويقرأ ويقابل شهود عيان قاتلوا في تلك الحرب حتى يكتب رواية ذات تصوير شاهق دقيق ومفصل لحرب لم يحاربها الرجل بنفسه، ولكنه وفّق في صفحاتها التي ربت على المئات الثلاث في نقل صورة قلمية بديعة للحرب، تحدث عن مشاعر مقاتليها وتوقهم للتحرر من الهزيمة وروحهم المعنوية العالية، وتحدث عن لحظات خوفهم ولحظات إقدامهم، لحظات صحوتهم ولحظات أحلامهم الغارقة في تفاصيل حياتهم الإنسانية،
كما وُفِّق في وصف معارك البحر ومعارك الجو ومعارك الدبابات ومعارك المشاة ضمن بيئتها الجغرافية وضمن الأسلحة المستخدمة فيها، وكل ذلك لا يتأتى لكاتب جالس إلى مكتبه بل يحتاج لمطالعة في الزمان والمكان ووقوف على المواقع الجغرافية وتواصل مع أبطال الحدث، وكل ذلك حققه مينه بجودة عالية، لربما استفاض في الوصف، ما أوقع السرد أحياناً في شيء من الإملال، لكنه أسر قارئه ليظل شغوفاً أبداً للمقطع القادم مهما شعر بتباطؤ في بعض الأحداث، أبطال حنا هنا معظمهم يُكتب بحرف يرمز إليهم، اللهم إلا قليل كتبوا باسمهم الأول وهؤلاء استشهدوا مبكراً، البقية لم تتسمّ لنا ليظل مشهد البطولة متاحاً لكل الشعب لا لأفراد فيه، في الحرب الوحيدة التي انتصر فيها الجندي العربي على الصهاينة لم يكن المحارب فقط هو البطل وإنما كان الشعب أجمعه، هذا ما قالته الرموز.
أحسن حنا في حديثه عن الجبهة الشمالية (سوريا)
والجبهة الجنوبية (مصر) كأنهما ما زالتا قُطراً واحداً، واستخدم تعبيرات أيام
الوحدة، فالجيش الأول هو جيش الإقليم الشمالي والجيش الثاني والثالث هما
جيوش الإقليم الجنوبي، تسميات أيام الوحدة التي استمرت ربما حتى اليوم، فمصر
لديها الجيشان الثاني والثالث، أما الجيش الأول فهو جيش الإقليم الشمالي، والوحدة
التي عجزت السياسة عن تحقيقها يحققها الجنود في حربهم ضد العدو المشترك.
أما المرصد فهو موقع بنته إسرائيل على قمة جبل
الشيخ، موقع حصين يشكل دائرة عسكرية واستطلاعية توافر له من خصائص الموقع الجغرافي
ما يجعل مستحيلاً على أي جيش احتلاله، لكن جنود المشاة فعلوها وأنزلوا العلم
الإسرائيلي ليجدوا المرصد حافلاً بالتجهيزات التقنية، وجدوا أن ما يبدو منه هو
الطابق الأول الذي يقع تحته مجموعة من الطوابق تتجذر تحت سطح الأرض، توقف
المقاتلون عند الثلاثة طوابق العلوية، متحسبين لمكيدة يقوم بها جنود العدو
المتواجدون في المناطق السفلية، أو أن نجدة ستأتي من العدو، ولكن وعندما طال
الانتظار قرر القائد الاقتحام مهما كان الثمن، ليجد أن الجنود الصهاينة بأعدادهم
المتكاملة مختبئين خائفين، إذ سرعان ما اهتزت ثقتهم بأنفسهم، ونسوا ما يملكون من
تجهيزات، واختبأ كل منهم غافلاً عمن معه.
الأيام الأولى الجيش في الجبهة الشمالية يحرر المرصد ويكاد يصل جيش الدبابات إلى بحيرة طبرية مشرفاً على عمق دولة العدو، والطائرات المعادية تقع بالمئات في مصيدة سام ٦، وطائرات الميغ في الجبهة الشمالية ندّ قوي للفانتوم والميراج، وعلى البحر أسطولنا يمنع أي مقاتلة بحرية من الاقتراب، أما على الجبهة الجنوبية، الجيشان الثاني والثالث يتجاوران العائق المائي قناة السويس ويدمران خط بارليف أكثر العوائق تحصيناً في العالم، والسماء مغلقة في وجه طائرات العدو وأكبر موقعة دبابات تم تسجيلها حتى ذلك التاريخ تنتهي بأن تنبسط سيناء أمام الجيش العربي، فجأة تباطؤ بسيط في الجبهة الجنوبية ، وثغرة تدخل منها قوات إسرائيلية إلى غرب القناة، جيش مصر يتحرك لإبادة القوة المهاجمة، عسكرياً لا قيمة حقيقية لهذا التقدم الإسرائيلي، والجيش الثالث المحاصَر هو في الواقع اسم الفاعل،
القيادة في الجنوب مترددة وتكاد توافق على وقف إطلاق النار، الصهاينة يسحبون جيوشاً من الجبهة الجنوبية -التي ترفض قيادتها ضغوط قادة جيشها لتطوير الهجوم- إلى الجبهة الشمالية ينشأ جيب صهيوني داخل الإقليم الشمالي، يقول دايان وزير الدفاع الإسرائيلي إنه أحدث خرقاً في الشمال سيجعله يطل على الصحفيين بعد يومين من فندق سميراميس دمشق، وهكذا اختراق في الشمال وآخر في الجنوب ، لم يتحققا إلا بعد أن انكسرت الوحدة التي بدأ الإقليمان بها القتال، يرسم مينه صورة قاتمة لهذا الافتراق، الجنود في كلتا الجبهتين مستعدون للقضاء على الجيش المخترق، في الجنوب لا تسمح القيادة للجيش بالهجوم، في الشمال لا يعبأ الناس باقتراب الصهاينة من دمشق والمقاتلون يحاصرون الجيش المعادي المتقدم حتى يواجه الفناء ويصبح محاصراً، أي اسم مفعول،
في الجنوب يستطيعون أن يحسموا عسكرياً ولكن.. إسرائيل تركز على استعادة المرصد.. بلدوزراتهم تشق الطرق في صخور الجبال، فرقة المشاة تظهر بطولات كبيرة رغم أن الجيش المساند منصرف بكل قواه إلى منع الاختراق، المحاربون عن المرصد..نقاتل حتى آخر قطعة سلاح.. نحارب بأجسادنا.. وبالسلاح الأبيض.. الحرب تستمر أربعة أيام بلياليها.. جنود المشاة رغم نقص الإمدادات يبللون شفاههم بالصخور المرطبة بالندى.. لم يعد هناك ماء.. إذا قتل منهم واحد أخذوا ما بحوزته من سلاح.. مشاهد إنسانية بالغة التأثير متميزة وصفاً وعمقاً حيث يودع المحارب الحي زميل السلاح الذي يُقتل، ومشاهد أخرى للالتحام بين المدافعين القلائل والمهاجمين الكثر.. وأخيراً حيث لم يبق سلاح وحيث فني من الأعداء أضعاف ما قُتل من المدافعين.. ينسحب الباقون.. لكن سكان القرى اللبنانية المحيطة والذين جاؤوهم بالهدايا حين انتصروا يتلقونها وهم منسحبون بالترحاب.. فقد شاهد بطولاتهم واستبسالهم.. اليوم هنا غير ما حصل في حرب يونيو/حزيران هؤلاء منسحبون بشرف وأولئك كانوا هاربين.. ليس اليوم كالأمس.. ويختتم مينا روايته على لسان أحد أبطالها….اليوم تبدلت الرؤى.. وأشرقت الوجوه.. تشرين يا تشرين… كيف لو اكتملت فيك الأشياء… وما زلنا نردد إلى اليوم..كيف لو اكتملت فيك الأشياء.