قبل عدة أشهر أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عاصفة من الانتقادات عندما قال إنه يريد شراء جزيرة غرينلاند في القطب الشمالي، الأمر الذي تسبب في توتر بين الدنمارك والولايات المتحدة على خلفية هذه التصريحات، لكن الأمر الهام الذي لم يتطرق له أحد أن ما قاله ترامب هو جزء بسيط مما يفكر فيه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.
بحسب تقرير لموقع Lobelog الأمريكي فإن بومبيو وضع استراتيجية جديدة للتعامل مع القطب الشمالي بالكثير من الاهتمام الجيوسياسي وكذلك من ناحية الموارد الطبيعية أثناء حضور وزير الخارجية الأمريكي اجتماعاً للمجلس في روفانييمي بفنلندا إذ العداوة والرغبة في الاستيلاء على الموارد المستقبلية قد ظهرت بالفعل إلى العلن من قبل بومبيو.
لماذا كل هذا الاهتمام بالقطب الشمالي؟
في منتصف أغسطس/آب، نظراً لأنَّه من غير المرجح أن ينسى أحدٌ ذلك، فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المراقبين الدوليين بالتعبير عن اهتمام أمريكا بشراء جزيرة غرينلاند، وهي منطقةٌ تتمتع بحكمٍ شبه ذاتي في الدنمارك. واعتبر معظم المعلقين هذه الخطوة مجرد مثالٍ آخر على سلوك الرئيس غير المنتظم بشكل متزايد. ووصفت رئيسة الوزراء الدنماركية، ميت فريدريكسن، فكرة مثل هذه الصفقة بأنَّها "سخيفة"، مما دفع ترامب في فورةٍ غاضبة إلى وصف تعليقاتها بأنَّها "سيئة"، وإلغاء زيارةٍ رسمية مُخطَّطة منذ فترةٍ طويلة إلى كوبنهاغن.
إلَّا أنَّ إلقاء نظرةٍ أعمق على هذه الحادثة، وتحركات الإدارة ذات الصلة، يُوحي بتفسيرٍ مختلف تماماً لما يحدث، مع وجود تأثيرٍ كبير على الكوكب وحتى على الحضارة الإنسانية. وبموجب إشارة مايك بومبيو، ينظر البيت الأبيض بشكلٍ متزايد إلى القطب الشمالي، باعتباره ساحةً رئيسية لمنافسة القوى العظمى في المستقبل، حيث تُمثِّل الجائزة النهائية مجموعةً رائعة من الموارد القيمة، بما في ذلك: النفط والغاز الطبيعي واليورانيوم والزنك والحديد والذهب والماس والمعادن الأرضية النادرة. وأضف إلى ذلك عاملاً واحداً: رغم أنَّه من غير المحتمل أن يشير أيّ شخصٍ في الإدارة إلى المصطلح المحظور "تغير المناخ"، أو "أزمة المناخ"، فهم جميعاً يُدركُون جيداً أنَّ الاحتباس الحراري هو سبب مثل هذا التزاحم على الموارد في تلك المنطقة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تهتم فيها القوى العظمى بالقطب الشمالي. إذ تمتَّعت تلك المنطقة ببعض الأهمية الاستراتيجية خلال فترة الحرب الباردة، حين خططت كلٌ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لاستخدام سماء القطب الشمالي بوصفها ممرات للصواريخ والقاذفات المسلحة بالقنابل النووية المرسلة لضرب أهداف على الجانب الآخر من العالم. ومنذ نهاية تلك الحقبة، جرى إهمال القطب الشمالي إلى حدٍ كبير. إذ منعت درجات الحرارة شديدة البرودة، والعواصف المتكررة، والمياه المليئة بالجليد معظم الرحلات الجوية والبحرية العادية. لذا، فبعيداً عن الشعوب الأصلية القليلة التي تكيفت طويلاً مع مثل هذه الظروف، من الذي يريد المغامرة هناك؟
هل تغير المناخ فقط هو السبب؟
وبحسب الموقع الأمريكي فإنه مع ذلك، فإنَّ تغيُّر المناخ يُغيِّر الوضع بالفعل بطرقٍ جذرية: إذ ترتفع درجات الحرارة في القطب الشمالي بوتيرةٍ أسرع من أيّ مكان آخر على هذا الكوكب، وتذوب أجزاء من الغطاء الجليدي القطبي، مما يجعل المياه والجزر التي كان يتعذر الوصول إليها قابلةً للتنمية التجارية. وجرى اكتشاف احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في المناطق البحرية التي كانت (ولكن لم تعد) مغطاةً بالجليد البحري غالبية أيام السنة. وفي الوقت نفسه، هناك فرصٌ جديدة للتعدين تظهر في غرينلاند! ونظراً لقلق الولايات المتحدة من أنَّ الدول الأخرى، بما فيها الصين وروسيا، قد تجني ثمار هذا التغير المناخي هناك؛ أطلقت إدارة ترامب بالفعل حملةً شاملة لضمان السيطرة الأمريكية هناك، حتى لو وصل الأمر لخطر المواجهة والصراع في المستقبل.
وبدأت عملية التدافع على موارد القطب الشمالي في وقتٍ مبكر من هذا القرن، عندما بدأت شركات الطاقة الكبرى في العالم، بقيادة BP وExxonMobil وShell وشركة الغاز الروسية العملاقة Gazprom، في استكشاف احتياطيات النفط والغاز في المناطق التي لم يجر الوصول إليها مؤخراً إلَّا عن طريق تراجع الجليد البحري. واكتسبت هذه الجهود زخماً في عام 2008، بعد أن نشرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية تقريراً بعنوان "تقييم موارد محيط القطب الشمالي"، وأشار إلى أنَّ ما يصل إلى ثلث النفط والغاز غير المكتشفين في العالم يقعان في مناطق شمال الدائرة القطبية الشمالية. وقيل إنَّ الكثير من هذا الوقود الأحفوري غير المستغل يكمُن تحت مياه القطب الشمالي المتاخمة لألاسكا (أي الولايات المتحدة)، وكندا، وغرينلاند (التي تسيطر عليها الدنمارك)، والنرويج، وروسيا، وهي ما تُسمى بـ"دول القطب الشمالي الخمس".
وبموجب القانون الدولي الحالي، المدون في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، فإنَّ الدول الساحلية لها الحق في استغلال الموارد البحرية حتى 200 ميل بحري من خطها الساحلي (وما بعده، إذا كان منحدرها القاري يمتدُّ إلى أبعد من ذلك). واستحوذت جميع الدول القطبية الشمالية الخمس على "المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZs) التابعة لها" في تلك المياه، أو في حالة الولايات المتحدة (التي لم تصادق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار)، فقد أعلنت عزمها على القيام بذلك. وجرى العثور على معظم احتياطيات النفط والغاز المعروفة داخل هذه المناطق الاقتصادية الخالصة، على الرغم من أنَّه يُعتقد أنَّ بعضها تقع في مناطق متداخلة أو حتى متنازع عليها تتجاوز حد الـ200 ميل، بما في ذلك المنطقة القطبية نفسها. من يملك غرينلاند، بالطبع، يملك الحق في تطوير المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها.
وبالنسبة للجزء الأكبر، أكَّدت دول القطب الشمالي الخمس عزمها على تسوية أي نزاعات تنشأ عن الادعاءات المتنازع عليها من خلال الوسائل السلمية، وهو المبدأ التشغيلي وراء تشكيل مجلس القطب الشمالي في عام 1996، وهي منظمةٌ حكومية دولية لدولٍ لها أراضٍ فوق دائرة القطب الشمالي (بما في ذلك دول القطب الشمالي الخمس، وفنلندا، وآيسلندا، والسويد). ويجتمع المجلس كل سنتين، ويوفر منتدى -من الناحية النظرية على الأقل- حيث يُمكن لقادة تلك البلدان والشعوب الأصلية التي تعيش هناك معالجة الشواغل المشتركة والعمل على إيجاد حلول تعاونية، وقد ساعد بالفعل في تخفيف التوترات بالمنطقة. ولكن في السنوات الأخيرة، أصبح عزل القطب الشمالي من تصاعد عداءات الولايات المتحدة وحلف الناتو، تجاه روسيا والصين، أو من الصراع العالمي على الموارد الحيوية أمراً متزايد الصعوبة. وبحلول مايو/أيار 2019، حين كان بومبيو يقود وفداً أمريكياً إلى آخر اجتماعٍ للمجلس في روفانييمي بفنلندا، كانت العداوة والرغبة في الاستيلاء على الموارد المستقبلية قد ظهرت بالفعل إلى العلن.
جني ثروات القطب الشمالي
عادةً ما يكون هذا المنتدى بمثابة ملتقى للإدلاء ببيانات حول التعاون الدولي والإشراف البيئي المناسب، لكن الغطاء انكشف في آخر اجتماع لمجلس القطب الشمالي في مايو/أيار، عندما ألقى بومبيو خطاباً عسكرياً استفزازياً بلا خجل، ويستحق اهتماماً أكبر بكثير مما حصل في ذلك الوقت. لذا دعونا نأخذ جولةً صغيرة حول ما قد يكون إعلاناً تاريخياً (بالمعنى الأليم الممكن) لعقيدةٍ جديدة تنتهجها واشنطن في أقصى الشمال، بحسب الموقع الأمريكي.
إذ بدأ وزير الخارجية حديثه بشكل معتدل، قائلاً: "في العقدين الأولين، كان لدى مجلس القطب الشمالي رفاهية التركيز بشكلٍ شبه حصري على التعاون العلمي، والمسائل الثقافية، والبحوث البيئية. كلها موضوعات مهمة، ومهمة للغاية، ويجب أن نستمر في القيام بذلك. لكن لم يعد لدينا هذا الترف. فنحن ندخل عصراً جديداً من المشاركة الاستراتيجية في القطب الشمالي، مع اكتمال التهديدات الجديدة للقطب الشمالي، وأراضيه، ولكل مصالحنا في تلك المنطقة".
وفي ما تبين أنه خطاب متشدد، ادعى بومبيو أننا الآن في عصرٍ جديد بالقطب الشمالي. نظراً لأن التغير المناخي -وهي عبارة لم ينطق بها بومبيو فعلياً- يجعل الآن من الممكن استغلال ثروات الموارد الهائلة في المنطقة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وهناك صراع الآن للسيطرة عليها. وأصبحت هذه المنافسة على الموارد متورطةً على الفور في مواجهةٍ جيوسياسية متنامية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، مما ولَّد مخاطر جديدة للنزاع.
وفي ما يتعلق باستغلال الموارد، لم يستطع بومبيو احتواء حماسه. وفي إشارةٍ إلى السخرية المرحبة بشراء ويليام سيوارد لألاسكا عام 1857، أعلن:
"بعيداً عن كون المنطقة قاحلة غير مأهولةٍ بالسكان، بحيث اعتقد الكثير من الناس أنَّ هذا الشراء مماثل لشراء ألاسكا في زمن وزير الخارجية الأمريكي ويليام سيوارد، فإنَّ القطب الشمالي في طليعة الفرص والوفرة، إذ يضم 13٪ من النفط غير المكتشف في العالم، و30٪ من الغاز غير المكتشف، ووفرة من اليورانيوم، والمعادن الأرضية النادرة، والذهب، والماس، وملايين الأميال المربعة من الموارد غير المستغلة".
وأشار إلى أنَّه من بين عوامل الجذب المتساوية، هناك إمكانيةٌ لزيادة التجارة البحرية بشكلٍ كبير من خلال طرق التجارة المتجمدة حديثاً عبر القطب الشمالي، والتي ستربط المنطقة الأوروبية الأطلسية بآسيا. وقال بحماس إنَّ "التلقصات المستمرة في الجليد البحري تفتح ممرات، وفرصاً جديدة للتجارة. وهذا يمكن أن يخفض الوقت الذي يستغرقه السفر بين آسيا والغرب لمدةٍ تصل إلى 20 يوماً.. ويمكن أن تصبح الممرات البحرية في القطب الشمالي بمثابة قناتي السويس وبنما في القرن الحادي والعشرين. وهذه التقلصات المستمرة في الجليد البحري" هي النتيجة الوحيدة لتغير المناخ التي لم تذكر، ولكن هي حقيقةٌ أخرى من عالم الاحترار لدينا. وإذا أصبحت المنطقة القطبية الشمالية ذات يوم هي المكافئ الشمالي لممرات استوائية مثل قناتي السويس أو بنما، فإنَّ هذا سيعني على الأرجح أنَّ أجزاءً من تلك المناطق الجنوبية ستصبح مكافئات الصحارى غير الصالحة للسكن.
وأكَّد بومبيو أنه مع ظهور فرص التجارة والحفر الجديدة، تنوي الولايات المتحدة أن تكون في المقدمة للاستفادة منها. ثم بدأ يتفاخر بما أنجزته إدارة ترامب بالفعل، بما في ذلك تشجيع توسيع الحفر لاستكشاف النفط والغاز في المياه البحرية، وتحرير "استكشاف الطاقة في مأوى الحياة البرية الوطني في القطب الشمالي"، وهو امتدادٌ أصلي لشمال ألاسكا الذي يحظى بتقدير خبراء البيئة بوصفه ملاذاً آمناً لحيوان كاريبو المهاجر وغيره من الكائنات المعرضة للخطر. ووعد بومبيو ببذل جهود إضافية لاستغلال الموارد الحيوية في المنطقة خلال السنوات المقبلة.
حلبة جديدة للمنافسة (والأسوأ)
ومن الناحية المثالية، أشار بومبيو بهدوء إلى أنَّ المنافسة على موارد القطب الشمالي ستجري بطريقةٍ منظمة وسلمية. وطمأن مستمعيه إلى أنَّ الولايات المتحدة تؤمن "بالمنافسة الحرة والنزيهة والمفتوحة، بحكم القانون". وأضاف على نحوٍ منذر بالسوء أنَّ الدول الأخرى، وخاصة الصين وروسيا، لن تمتثل للقواعد في أغلب الأوقات، وبالتالي يجب أن تخضع للإشراف الدقيق، واتخاذ إجراءات عقابية إذا لزم الأمر.
وأشار إلى أنَّ الصين تعمل بالفعل على تطوير طرق التجارة في القطب الشمالي، وإقامة علاقات اقتصادية مع الدول الرئيسية هناك، على عكس الولايات المتحدة (التي لديها بالفعل قواعد عسكرية متعددة في القطب الشمالي، بما في ذلك قاعدة ثول الجوية في غرينلاند، ولديها وجود راسخ هناك). وادعى بومبيو أنَّ بكين تستخدم بشكلٍ خفي مثل هذه الأنشطة الاقتصادية المفترضة لأغراض عسكرية، بما في ذلك أمور شنيعة بما فيه الكفاية مثل: التجسس على غواصات الصواريخ الباليستية الأمريكية العاملة في المنطقة، مع تخويف شركائها المحليين للرضوخ.
واستشهد بعد ذلك بأحداث بحر الصين الجنوبي البعيد، حيث قام الصينيون بالفعل بعسكرة عددٍ من الجزر الصغيرة غير المأهولة بالسكان (وتجهيزها بمهبط طائرات وبطاريات صاروخية وما شابه ذلك). وردَّت الولايات المتحدة على ذلك بإرسال سفنها الحربية إلى المياه المجاورة. وفعل بومبيو ذلك للتحذير من حدوث مواجهات عسكرية مستقبلية مماثلة، واشتباكات محتملة في القطب الشمالي. وقال بومبيو: "دعنا نسأل أنفسنا فقط، هل نريد أن يتحول المحيط القطبي الشمالي إلى بحر صيني جنوبي جديد، مليء بالعسكرة والمزاعم الإقليمية المتنافسة؟" وأكَّد لمستمعيه أنَّ الإجابة "واضحةٌ تماماً". (وأنا متأكد أنه يمكنكم تخمين ما هي).
ثم استخدم وزير الخارجية لغةً أقوى في وصف "السلوك الروسي العدواني في القطب الشمالي". وادعى أنَّ الروس بنوا مئات القواعد الجديدة في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب موانئ جديدة، وقدرات للدفاع الجوي. وقال: "تترك روسيا بصماتها بالفعل على الثلج في شكل آثار أقدام جنودها داخل المحيط القطبي الشمالي"، وهو تهديدٌ لا يمكن تجاهله. وتابع: "لمجرد أنَّ المنطقة القطبية الشمالية هي مكانٌ للبراري لا يعني أنَّها يجب أن تصبح مكاناً للفوضى. ولا يجب أن يكون الأمر كذلك ونحن على استعداد لضمان ألا يصبح الأمر كذلك".
وهنا نصل إلى جوهر رسالة بومبيو: الولايات المتحدة، بالطبع، سوف "ترد" من خلال تعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي، من أجل حماية مصالح الولايات المتحدة بشكل أفضل، مع مواجهة الغزو الصيني والروسي في المنطقة:
"في عهد الرئيس ترامب، نحن نعزز الوجود الأمني والدبلوماسي الأمريكي في المنطقة. وعلى الجانب الأمني، ورداً بشكلٍ جزئي على الأنشطة الروسية المزعزعة للاستقرار؛ فإنَّنا نستضيف مناورات عسكرية، ونعزز وجود قواتنا، ونعيد بناء أسطول كاسحات الجليد لدينا، مع زيادة تمويل خفر السواحل، وإنشاء مركز عسكري جديد كبير لشئون القطب الشمالي داخل جيشنا".
وللتأكيد على صدق الإدارة، أشاد بومبيو بأكبر مناورات عسكرية لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة منذ حقبة الحرب الباردة، وهي مناورة "الرمح الثلاثي Trident Juncture" المنجزة حديثاً (والتي أشار إليها بشكل غير صحيح باسم "Trident Structure")، وشارك فيها حوالي 50 ألف جندي. وعلى الرغم من أن السيناريو الرسمي للمناورة تحدَّث عن قوة "معتدية" مجهولة الهوية، إلَّا أنَّ القليل من المراقبين لم يكن لديهم أيّ شك في أنَّ الفريق المتحالف جرى تجميعه لصد غزوٍ روسي افتراضي للنرويج، حيث جرت محاكاة المعركة.
تنفيذ العقيدة
وبهذا تصير أمامك الخطوط العريضة لعقيدة بومبيو الجديدة، التي تركز على الموضوع المحظور لدى إدارة ترامب: أزمة المناخ. وبأكثر الطرق المشاكسة التي يمكن تخيلها، تفرض هذه العقيدة مستقبلاً من التنافس والصراع اللانهائيين في القطب الشمالي، وتزداد حدة الصراع مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب وذوبان الغطاء الجليدي. لقد كانت فكرة مواجهة الولايات المتحدة للروس والصينيين في أقصى الشمال، مع استغلال الموارد الطبيعية في المنطقة، تنتشر بوضوح في واشنطن. وبحلول شهر أغسطس/آب، من الواضح أنَّ عرض الرئيس ترامب لشراء غرينلاند أصبح بالفعل من الأمور المألوفة في البيت الأبيض (ناهيك عن مجلس الأمن القومي والبنتاغون).
وحين يتعلق الأمر بالموارد والنزاعات العسكرية في المستقبل، لم تكن هذه الفكرة ساذجة. بعد كل شيء، غرينلاند لديها موارد طبيعية وفيرة، وكذلك القواعد الأمريكية الجوية في ثول. ويجري بالفعل تحديث قاعد ثول الجوية، وهي في الأساس قاعدة رادار، وأحد بقايا الحرب الباردة، بتكلفة تبلغ نحو 300 مليون دولار لتتبُّع إطلاق الصواريخ الروسية بشكلٍ أفضل. ومن الواضح أنَّ المسؤولين الرئيسيين في واشنطن ينظرون إلى غرينلاند على أنها قطعة قيمة من الأرض في الصراع الجيوسياسي الناشئ الذي وضعه بومبيو، وهو تقييمٌ تسلَّل بوضوح إلى وعي الرئيس ترامب أيضاً.
وتلعب آيسلندا والنرويج أيضاً أدواراً رئيسية في الحسابات الاستراتيجية الجديدة لبومبيو والبنتاغون. إذ أعادت القوات البحرية احتلال منشأة سابقة للحرب الباردة، وهي قاعدة كيفلافيك في آيسلندا، وتستخدم الآن في مهام الحرب ضد الغواصات. وفي الوقت نفسه، نشرت قوات مشاة البحرية الأمريكية عدة مئات من القوات المقاتلة في قواعد بالقرب من تروندهايم، النرويج، وهي أول عملية نشرٍ دائم للجنود الأجانب على الأراضي النرويجية منذ الحرب العالمية الثانية. في عام 2018، قام البنتاغون بإعادة تنشيط الأسطول الثاني البائد للبحرية، واستثمره في تحمل مسؤولية حماية شمال الأطلسي، وكذلك الطرق البحرية في القطب الشمالي، بما في ذلك تلك التي تتاخم غرينلاند وآيسلندا والنرويج. وهذه العلامات تذكرنا بأوقات التوترات في أيام الحرب الباردة.
وكل هذا هو مجرد بداية لتراكم كبير، واختبار منتظم لقدرة الجيش الأمريكي على العمل في أقصى الشمال. وفي جزء من مناورة الرمح الثلاثي، على سبيل المثال، جرى إرسال حاملة الطائرات Harry S. Truman وأسطولها الصغير من سفن الدعم إلى بحر النرويج، وهي المرة الأولى التي تبحر فيها المجموعة القتالية لحاملة طائرات أمريكية فوق الدائرة القطبية الشمالية منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991. وبالمثل، أعلن وزير البحرية ريتشارد سبنسر مؤخراً عن خططٍ لإرسال سفن حربية سطحية في مهام عبر القطب الشمالي، وهي خطوةٌ عسكرية جديدة أخرى. لكن الغواصات النووية الأمريكية تقوم بهذه الرحلات بانتظام، وتبحر تحت الجليد البحري.
مفارقة ذوبان القطب الشمالي
على الرغم من أنَّ الوزير بومبيو وأتباعه لم يذكروا أبداً مصطلح تغير المناخ، فإنَّ كل جانب من جوانب عقيدته الجديدة هو نتاجٌ لتلك الظاهرة. وبينما تطلق البشرية الغازات الدفيئة أكثر فأكثر إلى الغلاف الجوي، وتستمر درجات الحرارة العالمية في الارتفاع، سيستمر الغطاء الجليدي في القطب الشمالي في التقلص. وهذا بدوره سيجعل استغلال احتياطيات المنطقة من النفط والغاز الطبيعي الوفير في المنطقة أمراً ممكناً أكثر، مما يؤدي إلى المزيد من حرق الوقود الأحفوري، وزيادة الاحترار، وذوبان أسرع للجليد. بعبارةٍ أخرى، تُعَدُّ عقيدة بومبيو صيغةً لكارثةٍ بشرية وحضارية.
أضف إلى هذا الانتهاك الواضح للكوكب، احتمال ارتفاع درجات الحرارة وزيادة نشاط العاصفة، مما يجعل استخراج النفط والغاز في أجزاء من العالم أقل قابليةً للتطبيق. ويعتقد الكثير من العلماء الآن أنَّ درجات الحرارة في فصل الصيف خلال النهار في المناطق المنتجة للنفط في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، من المرجح أن تصل إلى 120 درجة فهرنهايت بحلول عام 2050، مما يجعل شتى أنواع العمل البشري في الهواء الطلق مسبباً للموت. وفي الوقت نفسه، فإن الأعاصير العنيفة والعواصف المدارية الأخرى التي تمر فوق مياه المحيط الأطلسي وخليج المكسيك الذي ترتفع درجة حرارته، قد تعرض استمرار تشغيل الحفارات البحرية هناك للخطر (وفي مناطق حفر أخرى بها عواصف مماثلة). وفي حال لم تتحول البشرية إلى أنواع وقود بديلة بحلول ذلك الوقت، قد يُنظر إلى القطب الشمالي على أنه المصدر الرئيسي للوقود الأحفوري في العالم، مما يزيد من حدة الصراع للسيطرة على موارده الحيوية.
وربما لا يوجد جانب من جوانب الاستجابة الإنسانية لأزمة المناخ أكثر شيطانيةً من هذا. وكلما زاد عدد أنواع الوقود الأحفوري التي نستهلكها، قمنا بتغيير القطب الشمالي بسرعة أكبر، مما يدعو إلى المزيد من استخراج هذه الأنواع من الوقود ومساهمتها في الاحتباس الحراري. ونظراً لأنَّ المناطق الأخرى أقل قدرةً على الحفاظ على اقتصاد استخراج الوقود الأحفوري، فإنَّ الإدمان المستمر على النفط سيضمن خراب أقصى الشمال الذي كان بكراً في وقتٍ من الأوقات، وذلك بالتزامن مع تحوله إلى حلبة منافسة من النمط الذي يريده بومبيو لإشعال الصراع وإحداث كارثةٍ حضارية.