كان الأسبوع الذي بدأت فيه الانتفاضة الليبية في عام 2011 أسبوعاً عادياً مثل أي أسبوع آخر، بالنسبة إلى العاملين في شركة النفط الإيطالية "إيني" في الدولة الواقعة في شمال إفريقيا. فقد كانوا يلعبون كرة القدم ويشاهدون الأفلام، غافلين عن المعارك التي كانت دائرة حينذاك مع الشرطة والقتلى الذين أخذوا يسقطون في الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي.
ولم يدرك مهندس إيني السابق أحمد شيخي، الواقع إلا بعد خمسة أشهر، حين عاد من "مجمع مليته الصناعي للنفط والغاز" إلى منزله في غرب ليبيا، ليكون رد فعله مثلما يقول لوكالة Bloomberg الأمريكية: "شعرت كما لو كنت في بلد آخر".
عملاق النفط "إيني".. دولة داخل الدولة الليبية
ويتعرض هذا الانعزال عن الفوضى الآخذة في التكشف لأقسى اختباراته الآن، إذ تنزلق ليبيا إلى حرب أهلية كاملة. ويهدد القتال بين الحكومة الشرعية في طرابلس، وقوات حفتر، بتقسيمٍ دائم لإحدى الدول التي تُعتبَّر منتجاً رئيساً للنفط في "منظمة الدول المصدرة للنفط" (أوبك)، ومن ثم حدوث اضطرابات في أسواق النفط العالمية. فضلاً عن الفراغ الذي تسبب فيه هذا الوضع، والذي يمكن أن يسمح لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وعصابات التهريب بزعزعة استقرار الدول المجاورة لليبيا، بما في ذلك أوروبا.
لقد تمكنت شركة إيني من الصمود إزاء الانقلاب الذي أوصل القذافي إلى السلطة في عام 1969، والانتفاضة التي أطاحت بنظامه بعد 42 عاماً من خلال إدارة عملها بفعاليةٍ كدولة داخل الدولة كما تصفها بلومبرغ، لكن قدرة الشركة العملاقة الإيطالية على الازدهار تتمحور أكثر الآن حول النجاة في مكان هيمنت الشركة على صناعة النفط فيه على مدار 6 عقود، وتعد أكبر شركة مصدرة للبترول فيه.
النجاة من الفوضى
قامت شركة إيني التي تتخذ من روما مقراً لها، بإجلاء موظفيها الإيطاليين في أبريل/نيسان الماضي، عندما تقدمت القوات المتمركزة في الشرق بقيادة خليفة حفتر باتجاه طرابلس، للاستيلاء على الحكم من حكومة الوفاق المدعومة من الأمم المتحدة.
واشتد القتال على الجبهات الأمامية في الضواحي الجنوبية، مع استعداد قادة العالم للالتقاء لحضور الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة في نيويورك، الخميس 26 سبتمبر/أيلول لمناقشة المبادرة الأخيرة التي تسعى لإحلال السلام في ليبيا، وهذه المرة كانت المبادرة وليدة ألمانيا.
ولا يزال بضع مئات من موظفي شركة إيني المحليين يعملون في البلاد. ويسافر نحو 10 من المديرين دخولاً وخروجاً من ليبيا لحضور الاجتماعات، في الوقت الذي يفضلون عدم قضاء أكثر من ليلة واحدة في العاصمة، وفقاً لأشخاص مطلعين على سير العمل والعمليات في الشركة.
وقال كلاوديو ديسكالزي، الرئيس التنفيذي للشركة في يونيو/حزيران الماضي: "نواصل الإنتاج، والوضع مستقر، هناك اضطرابات في طرابلس، لكن هذه المسائل مستمرة منذ 10 سنوات". ثم التقى في الشهر التالي، رئيسَ المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج المدعوم من الأمم المتحدة وأكد التزامه الكامل بالبقاء في البلاد. لكن الشركة التي تسيطر على 45% من إنتاج الغاز والنفط الليبي، رفضت التعليق أكثر من ذلك حين تواصلت معها وكالة Bloomberg بشأن هذا التقرير.
السيطرة على حقول النفط تعني نفوذاً أكبر
خرجت البنية التحتية للنفط في ليبيا دون أن يلحقها أذى من الثورة التي انتهت بمقتل القذافي في أكتوبر/تشرين الأول 2011. ربما اضطربت صادرات النفط لكن الأطراف جميعها سعت إلى تجنب استهداف المنشآت النفطية. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من أن صاحبة أكبر احتياطي للنفط الخام في إفريقيا تمكنت من الحفاظ على نسبة أكثر من 95% من معدل أرباحها من تصدير النفط قبل الانتفاضة في 2011، كانت ليبيا هدفاً لفصائل تتناحر على النفوذ.
وشهدت البلاد احتجاجات وهجمات على خطوط أنابيب النفط وقتال حول المنشآت الرئيسة، متسببةً في اضطرابات شديدة. وعلى الرغم من عدم تمكن أي فصيل من تصدير النفط بطريقة قانونية مستقلاً عن المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، فإن السيطرة على حقول النفط والمحطات تمنح نفوذاً كبيراً لأصحابها.
يسيطر حفتر حالياً على الجزء الأكبر من نظام إنتاج النفط الليبي، من الحقول إلى خطوط الأنابيب إلى محطات التصدير. يقع مجمع مليته للنفط والغاز بالقرب من مدينة زوارة، ويدير عملية تشغيلية مشتركة مع المؤسسة الوطنية للنفط التي تزود إيطاليا بـ 8-10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً عبر خط أنابيب "الدفق الأخضر"، الذي يقع خارج منطقة نفوذ حفتر. لكنه لا يفتأ يحاول السيطرة على الأراضي المحيطة في المنطقة.
إيطاليا متضررة وتسعى لحل الأزمة
عارضت إيطاليا في البداية التدخل الدولي الذي أدى إلى إطاحة القذافي، وقالت روما حينها إنها تريد تجنب استدعاء المقارنات مع فترة حكمها الاستعماري من 1911-1943 للدولة الواقعة في شمال إفريقيا، إلا أنها خففت لاحقاً من حدة موقفها عندما تقرر أن يقود حلف الناتو التدخل. وعندما انقسمت البلاد في عام 2014 بين حكومتين متنافستين، دعمت إيطاليا الحكومة المتمركزة في الغرب.
لكن الأمور قد تتغير. التقى رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، رئيسَ المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني السراج في روما في 18 سبتمبر/أيلول لمناقشة بعض القضايا ومنها الهجرة، وهو قضية مهيمنة وحاضرة دائماً في السياسة الإيطالية، وقال مسؤول حكومي طلب عدم ذكر اسمه، إن إيطاليا سوف تسعى إلى الحوار مع قوى أخرى لأن الأزمة تتطلب حلاً سياسياً، وليس عسكرياً.
بالنسبة لأرتورو فارفيللي، الرئيس المشارك للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن هذه التصريحات علامة تشير إلى أن "الحكومة الإيطالية الآن اتخذت موقفاً شديد الغموض بشأن ليبيا، وتتجه للوقوف على مسافة متساوية من الطرفين".
وقال فارفيللي: "هذا لحماية مصالح إيني". فقد سيطر حفتر على بعض آبارها في الجنوب، وهذا "أدى إلى نهج لم يكن يُرى من قبل من الحكومة الإيطالية".
والواقع بالنسبة إلى إيني هو أن الفصائل المتحاربة في ليبيا لم تبد أي اهتمام حقيقي بالتوصل لاتفاق سلام، وازداد المواجهة سوءاً بالدعم الذي يتحصل عليه كلا الطرفين من الدول الأخرى. ولكن إذا كان ثمة شركة أجنبية تعرف كيفية إدارة أمورها خلال شبكة المصالح المعقدة تلك، فهي إيني.
وقال محلل ليبي إن شركة إيني، من بين جميع الشركات العالمية العاملة في ليبيا –بما في ذلك شركة الطاقة النرويجية Equinor، والشركة الإسبانية Repsol، والفرنسية Total، والإنجليزية BP- كانت أقل الشركات حذراً، ويعود ذلك جزئياً إلى أنها تعرف البلد جيداً. وأضاف الخبير أنها توقعت حتى التصدع الذي سيحدث بعد الثورة، وبناءً على تقييمات استخباراتية خاصة بها، لجأت إلى الميليشيات المحلية لحماية المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب.
أول شركة تعود للتنقيب عن النفط في ليبيا منذ الثورة
واصلت "إيني" ترسيخ وجودها. وخلال العام الماضي، باتت أول شركة أجنبية تعود إلى التنقيب عن النفط في البلاد منذ الانتفاضة، إذ وقعت اتفاقية مع شركة النفط الحكومية وشركة BP الإنجليزية. وتمثل ليبيا بالفعل مصدر 15% من الإنتاج العالمي لشركة إيني، ما يعني أن واحداً من كل ستة براميل نفط وغاز تضخها "إيني" في أي مكان في العالم، تأتي من هذا البلد.
وبعد 12 عاماً من العمل في إيني، قرر شيخي، المهندس، أن الوقت قد حان للحصول على وظيفة أقرب إلى منزله، في بنغازي. وحين يستذكر شيخي الأشهر الأولى من الثورة، يقول إن العاملين كانوا معزولين كلياً لدرجة أنهم لم يتأثروا على الإطلاق بالعجز والنقص في احتياجات كثيرة الذي كان يعاني منه الناس في أنحاء البلاد.
وقال: "سمعنا أن هناك أزمة وقود في المدن، لكننا لم نشعر بها لأن "إيني" وفرت لنا الوقود، وسمعنا أن هناك أزمة في الكهرباء، لكننا لم نشعر بذلك أيضاً". أما في ما يخص نقص الغذاء فقد قال: "كان نحصل على ثلاثة أنواع مختلفة من اللحوم خلال وجبة الغداء، وكانت جميع المشروبات متوفرة، على الأقل حتى شهر مايو (أيار) حينذاك".
ويفتقد شيخي العمل لدى الشركة التي كانت تدفع له مبلغ يزيد بنسبة 60% على ما يكسبه الآن للعمل بالوظيفة نفسها لكن في مكان آخر. لكنه يقول إنه عندما يتحدث مع زملائه السابقين هذه الأيام يشعر أنهم أقل ارتياحاً من ذي قبل، إذ إن "الحياة لم تعد جيدة مثلما كانت".