وفي الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، قررت المدينة الباسلة استكمال مسيرة النضال الطويل، لكن هذه المرة ضد أعدائها الداخليين، والمتمثلين في المحافظ (ممثل الدولة) وأجهزة الأمن والمنتفعين من النظام القائم حينها.
المدينة في مواجهة تحالف الاستبداد
تعرضت المدينة خلال فترة حكم مبارك لشتى أنواع الاضطهاد والتنكيل من التحالف الثلاثي: أجهزة الأمن، المحافظة، والشركات. فالمدينة التي تعتبر مقراً لعدد كبير من الاستثمارات والشركات مثل شركات الحديد والصلب والبتروكيماويات وشركات النقل وهيئة الموانئ، لم تنعم بشيء من هذه الاستثمارات الضخمة. فكانت هذه الاستثمارات مُحتكرة من قبل عدد من رجال الأعمال المحسوبين على النظام، وتحديداً أحمد عز ومنصور عامر ومحمد الكومي، ورغم تخمة المدينة بالاستثمارات فإن المحافظة شهدت حالة غير مسبوقة من البطالة وهي النتيجة الطبيعية لرفض المُحتكرين توظيف أبناء المدينة وجلب قوى عمل من خارج المحافظة إما عن طريق الواسطة وإما عن طريق استقبال الرشى. وهناك طريقة أخرى هي "التعيين الموجَّه"، أي يتم تعيين من ينتمون إلى محافظات أصحاب العمل ورأس المال. ليتبقى أمام أبناء السويس طريق واحد وهو دفع مبالغ مالية نظير تعيينهم، هذه المبالغ تصل إلى 50 ألف جنيه، على أن يتم التعيين بعقد عمل قصير الأمد مدة عام واحد، ويظل العامل مهدَّداً بالفصل أو عدم تجديد التعاقد، في حال الاعتراض على ضعف الأجور أو تأخيرها أو مناقشة عدد ساعات العمل. وهو ما تكرر مع كثير من العاملين في تلك المصانع والشركات خلال العقدين الماضيين.
وعليه قرر أصحاب الاستثمارات تسليط المحافظة ورجال الأمن على أهل السويس، لضمان استمرار الوضع كما هو عليه وإخراس ألسنة السوايسة المتعرضين والمتذمرين. لتمارس الشرطة المصرية قدراً من القمع المبالَغ فيه تجاه أهل السويس، بداية من تلفيق التهم والمحاضر وحتى الاعتداء على الأهالي داخل القسم وخارجه، وظهور أساطير عن أفراد من الأمن توحي بالقسوة والجبروت وحتى القتل خارج القانون، ليقابل أهالي السويس كثيراً من التعنت واللامبالاة من قِبل المحافظ سيف الدين جلال، الذي كَنَّ له أهل السويس الكراهية والبغضاء، لتعنُّته وإهماله أهل المدينة وتحالفه مع رأس المال ضد مصلحة السويس وأهلها، وفساده وانتفاعه من النظام القائم.
كل هذه الظروف والمعطيات دفعت أهل السويس إلى الثورة ورفض الأوضاع القائمة التي أذلَّتهم وحطَّت من صورتهم الذاتية عن أنفسهم بوصفهم أهل مقاومة ونضال. وفي الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني استجاب عدد من النشطاء ومعهم أهالي السويس للنزول إلى الشارع والتظاهر ضد النظام القائم، لتتفاقم الأمور بسقوط أول شهيد في المدينة وفي مصر بأَسرها، ويتبعه اثنان آخران. وفي اليوم الثاني 26 يناير/كانون الثاني، تحولت الساحة القابعة أمام المشرحة إلى ساحة لحرب شوارع بين أهالي الشهداء وقوات الأمن؛ بعد تعنُّت الشرطة في تسليم الأهالي جثث أبنائهم الشهداء وطلبهم أن يتم الدفن سراً.
تحولت بعد ذلك السويس بالكامل إلى ساحة حرب بين الأهالي والشرطة، سقط خلالها كثير من المتظاهرين بين قتلى وجرحى، لتنتهي بإحراق قسم شرطة الأربعين ومبنى المحافظة، وانسحاب الشرطة بالكامل بعد أن كانت قد استدعت أغلب قواتها من مدن القنال، لتأتي هذه الأحداث بمثابة دافع للثورة والخروج للتظاهر في جميع ميادين مصر؛ اعتراضاً على تعامل الأمن العنيف مع شباب وأهالي السويس.
الباسلة لم تستسلم
وبعد تسع سنوات من اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني، لم تتغير الأوضاع
كثيراً، فلقد عادت أجهزة الأمن بقوتها بالكامل، وزاولت مهام القمع والعنف وإظهار
نفسها بمظهر السيد المسيطر. كما لم تحدث محاكمة عادلة لقاتلي شهداء المدينة، وخرج
أغلب المتهمين من السجون بعد حصولهم على أحكام بالبراءة.
وفي آخر إحصاء لجهاز التعبئة العامة والإحصاء فنسبة من هم تحت خط الفقر، أي من
يحصدون 735 جنيهاً شهرياً، تصل إلى 20% من أهالي السويس، وبعيداً عن الإحصاء
الرسمي المُتلاعَب به سياسياً يمكننا أن نقول بضمير مرتاح، إن نسبة الفقراء في
المدينة لا تقل عن نصف سكان المدينة.
واستجابت "الباسلة" منذ بداية دعوات 20 سبتمبر/أيلول للتظاهر، لتتحول المدينة إلى ساحة حرب يوم السبت الماضي، أمام مرأى ومسمع ما يزيد على مليون ونصف المليون مشاهد عبر بث حي لاعتداءات الأمن واستعماله للخرطوش وقنابل الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين في محيط ميدان الأربعين، توّج الأمن مساعيه بإطلاق حملات اعتقال واسعة وعشوائية طالت عديداً من المواطنين والمتظاهرين، ووصلت حالة السعار إلى إطلاق الخرطوش على سكان العمارات واقتحام البيوت والتفتيش العشوائي، حالة سُعار عنيفة تعيد إلى الأذهان مشهد الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، ليثبت الأمن المصري للعالم أنه لم يتعلم شيئاً من تاريخه القريب.
والأمس 22 سبتمبر/أيلول، قام الأمن بتفريق تجمع الأهالي للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهم مستخدماً الأعيرة النارية في الهواء، وقام بإغلاق ميدان الأربعين؛ تحسباً لأي مظاهرات، كما انتشرت قوات الأمن في المدينة بشكل غير مسبوق. وفي وسط هذه الحالة من القلق والسعار لدى الأمن المصري وحالة عدم اليقين والحيرة في الشارع المصري، يبقى الأكيد أن ما حدث خلال الأيام الماضية في السويس لن يتوقف عند هذا الحد، وأنه قد يتجه إلي التصاعد خلال الفترة القادمة، وصولاً إلى يوم الجمعة، حيث وُجهت الدعوات لمظاهرات مليونية في جميع أرجاء مصر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.