في قريتنا الكبيرة، وعلى شاطئ الترعة، كانت هناك نخلة مخيفة. تسألني: وكيف يكون النخيل مخيفاً؟ سأشرح لك.. يمتد عمر نخلتنا إلى عشرات السنين، لا أحد يعلم متى نبتت بالتحديد ولا مَن زرعها، لكن الأهالي يتهامسون فيما بينهم أنها من صنع الجن، أو من غرس جندي أجنبي كان يتردد على المنطقة في ساعات متأخرة من الليل، دارت الشكوك حول ما يفعله هناك، قالوا إنه -والعياذ بالله- يفعل الفاحشة، وقالوا إنه يتخفى ويشرب الحشيش الذي كان محرماً عليهم في المعسكر، لكن الأقرب إلى الحقيقة أنه كان يفعل ذلك حسب أوامر ومهمة رسمية سرية، وهو أن يزرع نخلة بمواصفات معينة.
سماها الناس "النخلة الملعونة"؛ إذ إنها نبتت فجأة بلا مقدمات، وتسرق المياه من الترعة حتى يحل الجفاف كل بضعة أعوام على أهالي القرية وتتشقق غيطان الفلاحين، وطلعُها كما يقول الكتاب "كأنه رؤوس الشياطين"، وعودها ليس واحداً ولا مستقيماً، وإنما كأنه مقلوب، والعراجين لا تتدلى من تحت الجريد، وإنما تشعر أنها تخرج الجمر بدلاً من التمر، والمخيف أكثر أنها تُخرج بلحةً واحدةً كل جيلٍ من الزمان، وبدلاً من إنتاج آلاف البلح فإنها تركز النمو في البلحة التي أُثمرت، فتكبر، وتستوي، وتكبر، وتطيب، وتكبر، وتزداد ضخامةً وسمنةُ، وبالرغم من ثقَلها فإنها لا تسقط، بل تشعر وأنت تنظر إليها أنها تتحدى -بعد قانون الزراعة- قانونَ الجاذبية، إذ تتمسك بالنخلة أكثر مما تقترب من الأرض.
تداول الناس الأخبار والحواديت عن أكثر من حادثة يختفي فيها صاحبها، يدفعه الفضول أو الاختناق أو الغضب ربما، إلى خرق الأعراف بالقرية، وتغره جرأته، فيذهب إليها في "أنصاص الليالي"، ويختفي، ليموت ومعه سره، أو ليعيش سرُّه ليخطف مَن بعده، ويموت هو. حتى إنه لا أحد يعلم هل مات أم لا، أو كيف مات، بعضهم لا تجد له أثراً، وبعضهم يعثرون عليه على البر الثاني من الترعة، عليه آثار عذابٍ طويل، وميتة قاسية.
في يومٍ من الأيام، عزم الذين تغرهم جرأتهم، على إرضاء فضولهم أو غضبهم في وضح النهار بدلاً من جنح الليل، ذهبوا، واقتربوا من النخلة، كان جريئين إلى حد الاقتراب، لكن لم يلمسها أحد أو يتعدى الحدود المحيطة بها، انتشر الخبرُ في القرية، وهرول الأهالي ووقفوا بعيداً يشاهدون المهاويس الصغار، المجانين المساكين، الذين يفصلهم عن الموت بضع دقائق.
اقترب الشبان أكثر، كان عددهم نحو 25 شاباً، يتبادلون النظرات فيما بينهم، معبأةً بمزيج من الخوف والاطمئنان، من اليأس والأمل، لأنهم إن استطاعوا فسيقتلون الخوف واليأس، وإن لم يستطيعوا ستقتلهم لعنة النخلة ويموتوا شهداء الأمل، تكاتفوا، تعانقت أياديهم، والناس يرقبونهم من بعيد، يراقبونهم ويبتعدون أكثر، بما فيهم أهاليهم، اقترب الشبان حتى مال أحدهم وضرب النخلة بحجر، فسقط عليه جسم غريب منها، فأصابه في عينه، خاف الشباب قليلاً لكن الموت واحد، والرب واحد، اقتربوا، النخلة لا تستطيع إصابة 25 شاباً في وقت واحد، تصيب اثنين ويصيبها البقية، حتى اهتزت، واهتزت الجمرة الكبيرة، تجرأوا أكثر، رموها بالحجارة، حتى سقطت، دهسوها تحت أقدامهم، فوجدوا الثعابين تجري منها، قتلوا ما استطاعوا الوصول إليه، والبقية اختفت، لكن الجمرة سقطت، والنخلة عارية، يهزونها وتهتز لكنها لا تُخلع، تركوها، وانصرفوا، وصارت –رغم هيبتها- ضعيفةً في عيونهم.
بعد سنوات نمت بلحةٌ جديدة، منتفخة أكثر، بشعة أكثر، تقتل المقتربين منها في جنح الظلام بشكل أفظع بكثير، هرب الشبان من القرية، وهجر أصحاب الحقول المحيطة بالنخلة حقولَهم، واستقبلوا العصر الجديد على أنه انتقام النخلة من البلاد بسبب جرأة الشبان السابقين، وبدت القرية مظلمة أكثر، مظلومة أكثر، ظالمة أكثر، والنخلة تتعالى في طولها، ولا تجرؤ الرياح أن تحوم حولها، والترعة بدت شاحبةً كأن الماء لم يجرِ بها يوماً، والفجر بدا بعيداً بعيداً، حتى يئس الكبار أن يسمعوا أذانه ثانيةً، فقتلهم الشوق مرةً، ثم قتلهم اليأس مرة، ودُفنوا في أراضيهم لأن المقابر لم تعد تتسع للموتى.
اقترب الصغار من النخلة، وهزوها، وتفاجأت النخلة نفسها من الجرأة التي يموت أصحابها ولا تموت، تظل إرثاً من جيلٍ إلى جيل، وسقطت قشورٌ من البلحة، ودهست تحت الأقدام، وما زال الصغار يدهسونها حتى دهش الجميع، حتى ملأهم الأمل، حتى فار الحماس في عروقهم، وهم على يقين أن النخلة لن تنجب ثانية إن وقعت ثمرتها –أو جمرتها- هذه المرة، ستموت النخلة، ويزرعون مكانها نخلة صالحة بأيديهم.
أهالي القرية أطلقوا على المشهد الجديد الذي ذكرهم بالقديم، أنه "موسم اهتزاز النخيل"، أنه موعد سقوط البلحة البشعة، أنه موعد الحصاد، يحصدون جزاء ثورتهم ودمائهم، وتحصد النخلة جزاء شرها ومكرها، فتموت بلعنتها، ويعيشون بموتها.
الأهالي جميعهم رأوا في منامهم تلك الليلة، أن الرياح الآتية من الاتجاهات الأربعة عادت إلى أماكنها، وأن السواد الذي غطى السماء قد انقشع وأشرق بدلاً منه قرص الشمس العظيم، وأن البلحة المولودة بلا أصلٍ، بنت الحرام، صارت على مدخل القرية "دواسة" يمسح المسافرون والضيوف فيها أقدامهم، ورأوا الترعة يجري فيها الماء ويمرح من جديد، ونساء القرية وفتياتها يملأن منها دلاءهن، ويغنين معاً -بينما الصغار يستحمون-: "البحر بيضحك ليه ليه ليه؟".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.