رغم أن السعودية تعتبر نظرياًً في حالة حرب متعددة الجبهات ولا أحد يمكنه التنبؤ بما قد يحدث في الأزمة مع إيران بعد الهجمات الأخيرة، فإن مسألة طرح جزء من أسهم أرامكو للاكتتاب العام تظل المأزق الأبرز حالياً، فالتراجع أمر يبدو غير مطروح والمضي قدماً مسألة يصعب توقع نجاحها، لماذا كل هذا التعقيد؟
صحيفة "لا تريبيون" الفرنسية تناولت القصة في تقرير بعنوان: "لماذا تتوجه السعودية إلى خصخصة أرامكو بينما هي في خضم حرب؟".
استهداف منشآت النفط
تَسبَّب الهجوم بطائرات من دون طيار، نهاية الأسبوع الماضي، على منشآت نفط بالسعودية في ارتفاع حاد بأسعار خام برنت يوم الإثنين 16 سبتمبر/أيلول، بنسبة تقارب 20% قبل أن تهبط مرة أخرى. وأسفر الضرر الذي نتج عن الهجوم، وأعلنت جماعة الحوثي المتمردة في اليمن مسؤوليتها عنه، عن تعطيل نصف الإنتاج، أي 6% تقريباً من حجم إنتاج النفط عالمياً. وجاءت هذه العملية في الوقت الذي تستعد فيه السعودية لطرح شركة أرامكو للاكتتاب العام الأوَّلي في بورصتي لندن وهونغ كونغ، وهو ما يشكّل مسألة حيوية للمملكة.
منذ أربعة أعوام مضت، وتحديداً في مطلع يناير/كانون الثاني 2016، أعلنت السعودية عن خطة مستقبلية لتخصيص شركتها الوطنية للنفط "أرامكو". وفي تلك الفترة، وُضِعَ تشخيص للمسألة؛ فمنذ عام 1981، بلغت عوائد صادرات النفط نحو 81% من إيرادات الدولة، لكنها ارتفعت تدريجياً منذ عام 2010 حتى وصلت إلى 90%، لكن مع التغيرات التي طرأت على قطاع الطاقة، بدأت أسعار النفط في الهبوط. وفي الوقت نفسه، ارتفع متوسط الإنفاق السنوي بمعدل 18% منذ السبعينيات.
طرحٌ تأخر كثيراً
وضيَّعت السعودية المسار القديم الذي حددته لنفسها؛ فلم يعد ممكناً الحفاظ على ميزانية الدولة دون عجز، في ضوء اضطراب الإيرادات. إذ أخذ معدل الإيرادات يتراجع عاماً تلو الآخر؛ ففي عام 2008-2009 وصل معدل التراجع إلى 54%، ومؤخراً ما بين عامي 2014 و2016 تراجعت أسعار النفط إلى درجة تسببت في انقلاب توازن حسابات الدولة من تحقيق فائض بقيمة 43 مليار يورو (47.58 مليار دولار) إلى عجز بقيمة 88 مليار يورو (97.36 مليار دولار). لذا لجأت الرياض فوراً إلى خفض النفقات بنسبة 26%. لكن في الوقت نفسه، وقع حدثٌ صادم دفع المملكة إلى تحمُّل مديونية دائمة؛ إذ ارتفعت من 76 مليار يورو كانت متوقعة في 2020 إلى 177 مليار يورو -أي ما يزيد على إجمالي ميزانية المملكة في 2017- ويُتوقَّع أن تصل في 2023 إلى 75% من ميزانية الدولة.
خصخصة أرامكو أمر حيوي للمملكة
مع تراجع الإيرادات وتردي الإنفاق العام واستمرار ارتفاع المديونية العامة، التي يشكل عدم استقرار عوائد النفط عقبة أمام جهود محاربتها، يضاف لها غياب الإصلاحات، بدأت الدولة تدخل في مرحلة ركود طويلة. وفي هذا السياق، وضعت المملكة "رؤية 2030″؛ في محاولة لإيجاد التوازن بين المصروفات والإيرادات من خلال زيادة عوائد الصادرات غير النفطية، وتعديل استراتيجية الإنفاق العام -وبالأخص الدعم على الطاقة والمياه- ومن ثم تعديل القدرة على الادخار ككل، وتعزيز القطاع الخاص من خلال خصخصة بعض الكيانات، ومنها أرامكو.
وتبدو الخطة بسيطة، لكنها تواجه بعض القيود. فمنذ عام 2016، بدأت السعودية تنفذ إصلاحات، لكن في عام 2019، عادت عوائد النفط -وهي المؤشر الحقيقي للتغيير- إلى متوسطها التاريخي. وصحيح أنَّ طرح جزء من أرامكو للاكتتاب العام، الذي يُتوقَّع أن يشكل 33% من ميزانية الدولة في عام 2023، لم يحدث بعد، فقد أصبح الآن ضرورياً أكثر من أي وقت مضى.
قبول المستثمرين للطرح
على الرغم من تطلُّع البنوك إلى فرض رسوم على الاستشارات المتعلقة بالطرح، فإنَّ نسبة 33% تبرر تأنّي الرياض في اتخاذ الخطوة. وكجزء أساسي من الإصلاحات، يتعين ألا تضع الرياض أية عقبات من شأنها عرقلة عملية الخصخصة الجزئية لـ "أرامكو" أو الإخلال بعملية تقييم الشركة.
وفي الواقع، يبدو أنَّ إعراب البعض داخل السعودية عن تحفظاتهم على مدى جدوى عملية الطرح، هو الذي دفع الرياض إلى تبني التغييرات الأخيرة في وزارة الطاقة السعودية والهيكل الوظيفي لـ "أرامكو"؛ وذلك لتمهيد الطريق للإبقاء فقط على القيادات التنفيذية المؤيدة للطرح بحلول 2020 و2021، وتحظى هذه التغييرات بالقبول لدى المستثمرين المرتقبين.
ومن العناصر المهمة أيضاً التي يتوقف عليها الطرح، مدى جاذبية الشركة؛ وهو ما يعتمد على عوامل كثيرة. لكن بالطبع يسبق هذا سعر النفط، فكلما كان أعلى، ازدادت الأرباح وكان سعر بيع الأسهم مريحاً. لكن على الرغم من أنَّ منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) ومجموعة (أوبك+) -التي تضم إلى جانب الدول أعضاء أوبك دولاً منتجة للنفط على رأسها روسيا- اتفقتا على خفض إنتاجها من النفط، تتوقع الوكالة الدولية للطاقة حدوث فائض بإنتاج النفط في 2020 وليس عجزاً. أي إنَّ العلاقة بين حجم الإنتاج العالمي والمنظمة ليس بالقوة التي اعتقدناها.
أضخم شركة عالمياً
أما مدى جاذبية الشركة السعودية فهو ثاني العوامل التي يعتمد عليها الطرح. وتعد أرامكو أضخم شركة في العالم بقيمة 2 تريليون دولار (أي ضعف حجم شركة Apple، أو يعادل حجمها شركتي Apple وAmazon مجتمعتين)، ويبلغ حجم احتياطياتها المُعلن أكثر من 50 عاماً من الإنتاج، أي ما يعادل نحو 8 سنوات من حجم الطلب العالمي ونحو 9 أو 10 أضعاف إنتاج Exxon's. وتُنتِج أرامكو وحدها ما يعادل إنتاج روسيا بأكمله تقريباً، وتعتبر تكلفة إنتاجها ضئيلة مقارنة بتكلفة إنتاج النفط الصخري الأمريكي، ويصل صافي دخلها إلى نحو مليار دولار كل ثلاثة أيام، و4000 يورو كل ثانية، وحجم ديونها منخفض.
ومع ذلك، يتعيَّن قبل إتمام عملية الطرح، تحسين قيمة الشركة عبر وسيلتين: الأولى عمودية وتتمثل في زيادة الأصول؛ وهذا هو سبب الاستحواذ على 70% من الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) هذا العام. أما الوسيلة الثانية فهي أفقية وتشمل الاستحواذ على أصول تكرير نفط؛ مثلما حدث الصيف الماضي مع 20% من معمل تكرير Reliance Industrie الهندي، و50% من مصفاة SASREF، وهي حصة Shell.
ومن المقرر أن تحدث عمليات استحواذ أخرى، لكن في كل مرة سيدفع سياق انخفاض أسعار النفط أرامكو إلى زيادة تأمين توزيع إنتاجها من النفط ضمن شبكة تسويقها المحصورة، وكذلك تعزيز جهود الصناعات النفطية ذات الأسعار المرتفعة؛ بهدف تعزيز الأرباح المستقبلية، وجعل الشركة أقل تأثراً بهبوط أسعار النفط.
العلاقة المثيرة للجدل بين الدولة والشركة
وثالث العوامل التي يعتمد عليها الطرح؛ العلاقة بين أرامكو والحكومة السعودية، وإلى أي مدى ستظل مستمرة؟ إذ يعارض المستثمرون استمرار الصلة بين الشركة والدولة، وهو ما سيستدعي خفض الاندماج (تكتل شركات) بقيمة 1.500 مليار دولار. ومع ذلك، هناك شركات طاقة وتعدين وتكنولوجيا في مختلف قارات العالم ترتبط بصلات وثيقة مع دولها، التي تحميها، وفي المقابل تكون هذه الشركات مثل بيادق الشطرنج التي تحركها الدولة. وفي ضوء هذا، يصبح الأمر بيد السوق ليقرر ما إذا كان يقبل بهذه الصلة أم لا. ويأتي الهجوم الذي وقع نهاية الأسبوع الماضي، على أصول لشركة أرامكو باستخدام طائرات من دون طيار، في قلب هذه العلاقة.
إضافة إلى ذلك، أصبحت الإصلاحات الاقتصادية والحرمان مشكلات جيوسياسية أساسية في المنطقة. لذا حتى وإنَّ ارتفعت أسعار النفط، فمن سيشتري شركة عُرضة لهجمات؟ لكن على الجانب الآخر، من الذي ﻻ يشتري أحد أصول دولة أنهكها صراع سينتهي يوماً ما؟
أما عن حجم الجزء الذي سيُطرَح للاكتتاب، فأعلنت الرياض أنه سيكون 5% من رأس مال الشركة، بقيمة 100 مليار دولار. وتعادل هذه القيمة نحو ثلث شركة Exxon، وتقريباً نصف شركة Shell أو Chevron. ومع ذلك، فإنَّ 5% غير كافية لضمان تمتُّع حمَلة الأسهم المستقبليين بقدر من التمثيل داخل مجلس إدارة الشركة؛ وستكون نسبة 15% أنسب، لكنها ستحتاج استثمارات بقيمة 300 مليار دولار.
تكهنات
إنَّ طرح طلب لجذب استثمارات بقيمة 300 مليار دولار أو حتى 100 مليار دولار لشراء أسهم شركة نفط- ليس عادياً في عالم يتحمل مسؤولية مجتمعية ويحاول الفرار من روائح المواد الهيدروكربونية. وعلى الرغم من أنه يمكن طرح أرامكو للاكتتاب في عديد من الأسواق المالية (الرياض، وطوكيو، وشانغهاي، وهونغ كونغ، وباريس…)، فمن شأن الحجم المطروح أن يتسبب في تجفيف سريع لرؤوس الأموال المتدفقة عبر أسواق النفط. إذ قد ينجذب المستثمرون إلى شراء أسهم أرامكو مقابل بيع حصصهم Exxon وChevron وTotal وBP وGazprom وShell. وإذا فقدت هذه الشركات قيمتها الأساسية، فهل من المتوقع أن تحدث حركة لتعزيز القطاع؟ ومن قد يشارك فيها؟ بلا شك، أرامكو ومعها الشركات البارعة الأكثر استعداداً.
منذ 4 سنوات تقريباً، والحديث يدور عن خصخصة أرامكو، لكن بالنظر إلى الجيواستراتيجية الخليجية وحجم الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها السعودية، تزداد عملية الطرح تعقيداً. ما الذي سيحدث إن انتظرت عاماً أو اثنين قبل الشروع في هذا الطرح المهم؟ أصبح صانعو القرار السعوديون الحاليون أول جيل يشهد عالَماً يستنزف مخزون النفط لديه، ويتطلع ليدخل مرحلة جديد يستهلك فيها نفطاً أقل. وكونهم يتمهلون في اتخاذ الخطوة، فهذا لأنهم لا يتمتعون برفاهية ارتكاب أخطاء.