لا تزال القسوة المروعة التي تمت بها عملية قتل وتقطيع الصحفي جمال خاشقجي على يد فرقة اغتيال سعودية قبل عام تقريباً تتبدى في أحدث نص ظهر مؤخراً لتسجيل صوتي لحوار بين قاتليه أثناء انتظارهم وصوله إلى القنصلية السعودية في إسطنبول.
تسجيل جديد مروّع
وفي التسجيل يسأل العقيد ماهر المطرب، أحد المسؤولين عن العملية والعضو البارز في فريق حراس ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: "هل من الممكن وضع الجثة في حقيبة؟". وسأل بعدها عما إذا كان "حيوان الأضحية" قد وصل إلى القنصلية.
كان المطرب يتحدث إلى صلاح الطبيقي، خبير الطب الشرعي المسؤول عن تقطيع الجثة الذي راح يعدد بهدوء التحديات المهنية التي سيواجهها. وأجاب رداً على السؤال الخاص بوضع الجثمان في حقيبة بقوله: "لا. إنه ثقيل جداً، وطويل جداً أيضاً. في الواقع، أنا معتاد على التعامل مع الجثث. وأعرف كيف أقطعها جيداً. لم أتعامل أبداً مع جثمان دافئ، لكنني سأتمكن من ذلك أيضاً بسهولة".
وراح الطبيقي يشرح للمطرب ما يجب فعله بجثة خاشقجي: "بعد أن أقطع أوصاله، ستلف القطع في أكياس بلاستيكية، وتضعها في حقائب وتأخذها خارج المبنى".
تقول صحيفة The Independent البريطانية، إن هذا الحوار الصادم سجَّله جهاز تنصت قيل إن جهاز الاستخبارات الوطنية التركية، الذي يسرب تسجيلاته بطريقة ممنهجة إلى الصحافة التركية منذ مقتل خاشقجي في 2 أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، وضعَه في القنصلية.
وأُطلعت محققة الأمم المتحدة أغنيس كالامارد، التي أكدت في تقريرها أن السعودية مسؤولة عن "قتل خاشقجي مع سبق الإصرار والترصد"، في وقت سابق من هذا العام على بعض هذه المحادثات. ووجدت أغنيس "أدلة قاطعة كافية" لفرض "عقوبات محددة" على ولي العهد وممتلكاته حتى "تُقدَّم أدلة تؤكد أنه لا يتحمل أي مسؤولية عن هذا القتل".
ولكن مسؤولين أمريكيين قالوا إنه لم يكن من الممكن تنفيذ العملية دون علم ولي العهد. وقالت الحكومة السعودية إنه لا هو ولا الملك سلمان كانا يعلمان بأمر القتل مقدماً. وقالوا إنها عملية "مارقة".
ولي العهد يتوق لمحو هذه الحادثة
وفيما تقترب الذكرى السنوية الأولى لمقتل خاشقجي في غضون أيام قليلة، تتوق السعودية إلى أن يتلاشى أثر هذه الجريمة وأن تتخلص المملكة من حالة النبذ التي اكتسبتها في نظر الكثيرين في جميع أنحاء العالم.
وبحسب ذي إندبندنت، يحرص ولي العهد، أكثر من أي شخص آخر، على التأكد من أن مقتل خاشقجي لن يمثل مشكلة حين تبدأ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. إذ أن علاقة الرئيس ترامب الوثيقة بالزعيم السعودي ستجعل ترامب عرضة لهجوم المرشح الديمقراطي خلال الانتخابات. وقد حاول ترامب مرة تلو الأخرى حماية حليفته السعودية من انتقادات الحزبين في الكونغرس بشأن خاشقجي وإمدادات الأسلحة الأمريكية والحرب في اليمن.
وقد اعتمد ولي العهد استراتيجية تهدف إلى محو جريمة القتل من الأجندة السياسية قبل أن تبدأ حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية جدياً، وفقاً لتقرير سري يستخلص معلوماته من مصادر رفيعة المستوى في الإمارات العربية المتحدة نَشَره موقع Middle East Eye البريطاني. ويقول هذا التقرير المكتوب ليتداوله قادة الإمارات إنها "كانت خطوة حكيمة من جانب الرياض أن تتحرك بسرعة لغلق القضية وإدانة المسؤولين قبل بدء الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وإلا سيتحول قتل خاشقجي إلى أحد مواضيع النقاش بين المرشحين للرئاسة".
يبدو أن خطة ولي العهد هي التخلص من أثر جريمة القتل من خلال المبادرة بتسريع وتيرة محاكمة أعضاء الفريق السعودي المتهمين بالقتل، حتى تنتهي إجراءات المحكمة قبل احتدام المنافسة في انتخابات الرئاسة الأمريكية. ويمضي التقرير ليوضح أن الجزء الثاني من الاستراتيجية هو غلق القضية بطريقة مختلفة عن طريق إقناع أفراد عائلة خاشقجي بقبول "الدية" والتنازل عن حق الثأر وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. ووفقاً لتقارير الصحف الأمريكية، مُنح أفراد عائلة خاشقجي في السعودية بالفعل تعويضات في صورة 10 آلاف دولار شهرياً ومنازل بملايين الدولارات.
هل تنجح الخطّة بتجاوز قضية خاشقجي؟
وكتب التقرير مركز الإمارات للسياسات الذي تربطه علاقات وثيقة بالحكومة الإماراتية وأجهزة المخابرات. وتتمتع الإمارات بوضع يمكّنها من التعرف على نوايا الزعيم السعودي، باعتبارها أقرب حليف للسعودية حتى نشب الخلاف الأخير الذي نشب بينهما حول السياسة المُتبعة في اليمن وإيران.
تقول ذي إندبندنت، قد تنجح خطة ولي العهد لتجاوز مقتل خاشقجي ببساطة، ولكنها تواجه عدداً من العقبات. ومنها أن أي محاكمة تُجرى في السعودية لن تتمتع بمصداقية تُذكر بسبب تاريخها المعروف في المحاكمات وهو اعتمادها فقط على أدلة تستند إلى اعترافات كاذبة انتُزعت تحت وطأة التعذيب وتهديدات بالإعدام. بل إن قمع المعارضة في السعودية -التي كان القضاء على خاشقجي يمثل جانباً واحداً منها فقط- تصاعد منذ موته.
فمن المعروف أن ما لا يقل عن 134 عملية إعدام نُفِّذت في النصف الأول من هذا العام، ومن بينها إعدام 37 ناشطاً سياسياً دفعة واحدة يوم 23 أبريل/نيسان، وفقاً لتقرير صادر عن البارونة المستشارة هيلينا كينيدي حول عقوبة الإعدام والإعدام غير القانوني في السعودية. وتقول إن عمليات إعدام الناشطين تأتي بعد "البقاء لفترة طويلة في الحبس الانفرادي، والتعرض للتعذيب، ومحاكمات جائرة للغاية".
صعوبات كثيرة ستواجهها السعودية وكذلك ترامب
ومن الصعوبات الأخرى التي ستواجهها السعودية في محاولتها تلميع صورتها هي أن قضية خاشقجي قد أثارت موجة انتقادات من أصدقاء سابقين. إذ كان السيناتور الجمهوري ماركو روبيو هو من قال إن ولي العهد قد تحول إلى "رجل عصابات بامتياز"، وهو قول ردده سيناتور جمهوري آخر. وأصبح القصف السعودي على اليمن قضية سياسية ملتهبة بدرجة لم يسبق لها مثيل، رغم أن الغارات الجوية السعودية مستمرة منذ عام 2015. وقد بعثت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي برسالة إلى ولي العهد تطالبه فيها بالوفاء بتعهد السعودية بتقديم 750 مليون دولار للأمم المتحدة في اليمن لتوفير الغذاء والوقود والأدوية.
يدرك جميع الساسة تمام الإدراك تقلُّب قوة أصدقائهم وحلفائهم ويسارعون إلى الهروب من السفينة الغارقة. ولا يوجد من الساسة ممن ينطبق عليهم هذا الأمر أكثر من الرئيس ترامب، الذي طرد مستشاره للأمن القومي جون بولتون شر طردة، وكانت سياسة بولتون العدوانية تجاه إيران أقرب إلى سياسة السعوديين منها لسياسة ترامب نفسه الذي يعرب عن رغبته هذه الأيام في تجنب الصراع المسلح مع إيران وإبرام صفقة.
وبغض النظر عما توقعه ترامب من السعودية حين زار البلاد بعد فوزه عام 2017، فإن النتائج أقل بكثير من التوقعات. ففي أعقاب مقتل خاشقجي، دفع ثمناً سياسياً لقاء علاقته الوثيقة مع الزعماء السعوديين، وقد يصبح هذا الثمن أعلى بكثير إذا أصبحت قضية خاشقجي مشكلة في الانتخابات الرئاسية. يشتهر مرشحو الحزب الديمقراطي بقدرتهم على إهدار الأهداف المحققة، لكنهم قد يرون أن ترامب ضعيف بسبب صلاته بولي العهد والسعودية، اللذين لطخ سمعتهما مقتل خاشقجي.