وأنا صغير، وأنا مراهق، وأنا شاب، كانت الوفاة بأزمة قلبية هي علة موت الكبار وحدهم. الذين ماتوا في نفس عمري ماتوا في حادث أو برصاصة أو بعد صراع مع المرض، صدقنا أن عضلة القلب عند الشاب لا تستطيع التوقف المفاجئ، لا تستطيع أن تعتذر إليه عن العمل بلا مقدمات، طلب استقالتها مرفوض، قد يهزل الجسد لكنها تبقى تعمل إلى آخر لحظة، أما أن تتوقف هي والجسد يعمل، فلم نسمع به عن أصحابنا -رحمهم الله- من قبل.
كان أول وجع قلبٍ في حياتي عند استشهاد صديقٍ لي، ثم استشهاد قريبٍ لي، ثم مع قصص الحب الفاشلة والوحدة القاحلة، على أعتاب المطارات ومواقف الحافلات بين المدن، في لحظات الاشتياق الشديد، في ليالي الحاجة القاتلة، عند أول مرة للنوم جائعاً، عند أول اختفاءٍ مفاجئ لصديق قديم.. حينها عرفتُ ماذا يعني وجع القلب، عرفت مكان الغصة التي تضرب القلب فجأة، وخبرت ألمها، وعندها كنت أرجو قلبي أن يعود إلى الحياة من دون ضجيج، توقفه المؤقت مجرد سرٍّ بيننا، لا حاجة إلى إذاعته بالإغماء والمستشفيات والجنازات، كنتَ محتاجاً إلى ثوانٍ لترتاح وها قد أخذتها، عُد إلى العمل.
أقرأ عن الناس الطبيعيين فأجدهم يفعلون شيئاً خارقاً، وهو أنهم يعيشون حياتهم بترتيبها الطبيعي، يولدون ويكبرون عاماً بعام، يعيشون كل مرحلة في أعوامها المحددة، يسيرون كما قال الكتاب، يصرخون في الولادة، ويضحكون في الطفولة، ويقهقهون في الشباب، ويبتسمون في بلوغ الأشُدّ، ويصمتون في الكبر، ويموتون في سلام.
ثم أنظر إلى جيلنا فأجده ساقطاً من الترتيب، كأن عاصفة بعثرت عمره كله يوماً يوماً، مزقته ساعةً ساعةً، فيعيش ساعةً من الطفولة على ساعةٍ من الكهولة، يعيش أحداث الدهر وحوادثه وهو لا يزال بعد في العشرينيات، يقتل الولد وهو في العشرينيات، ويسجن وهو في العشرينيات، ويطارد وهو في العشرينيات، يضعف بصره وتهزل عظامه ويُكوى جلده ويوجع كبده، وهو في العشرينيات، يصاب بالضغط وهو في العشرينيات، كأن العشرينيات ثقبٌ أسود كبير، يبتلع المارين به من المساكين أمثالنا.
سُجن عبدالله في العشرينيات مثلنا، أبوه وأخوه في سجن لا يراهما، ربما مثل بعضنا، يتعرض أخوه إلى التعنت والتنكيل مثل إخوتنا، ويتعرض أبوه إلى الإهمال بما يتعارض مع عمره وصحته، مثل كثيرين في السجون، لكننا على ذلك لم نمُت! ذقنا الوجع من أقسى منابعه، وشربنا المر من كأس مجروحة، وعطشنا حتى إذا جاء وقت الري لم نجد أمامنا إلا بئراً من العلقم، أوشكنا على الموت، لكننا لم نمُت!
التفسير الوحيد ربما لموت عبدالله، أن عبدالله لم يمُت بما حكاه، وإنما مات بما كتمه، لم يُقتل بما باح به لسانه، وإنما قُتل بما حفظه في صدره، وهل يموت المرء من كتم الكلام؟ أجل.. وهل مات الذين وجدنا على وجوههم علامات الأسى.. إلا صامتين! وهل يموت الناس كمداً إلا لأنهم فقدوا القدرة على الحديث؟ وهل تفور البراكين إلا لأنها كُتمت؟ نعم.. وهل تهيج الزلازل بعد طول كلام؟ لا.. تهيج بعد صمت طويل.. وهل يموت الناس وهم يتحدثون؟ لا.. يظلون صامتين، حتى يكون أول كلامهم الموت المفاجئ!
فار بركان الولد، وتزلزلت طبقاته، وصمت حتى تكلم.. وكانت أول كلمة -وآخر كلمة- له أنه مات، بصرخة قلبية، وليست "سكتة" أبداً كما يدّعي الأطباء! فالقلب يموت بعدما يطلق صرخته الأخيرة، وأطلقها أخيراً بعد ثمانين يوماً من اليد المغبرة بالتراب الذي وارى فيه الولدُ أباه، ثمانين يوماً يرى فيها كلما نظر إلى المرآة وجهين، وجهاً له ووجهاً للكبير الذي رحل.
وأسأل: كيف مات عبدالله؟ فأجيب: مالَ الفتى قبل أشهر ليضع أباه في القبر، وبينما هو مشغول بتلحيد الجسد في موضعه، سقط قلبه في المقبرة دون أن يراه، ثم واراه التراب. استغرق البحث عنه ثمانين يوماً حتى يجده، ووجده في قبر أبيه، فذهب ببساطة ليتسلمه من قسم الأمانات العلوي، الذي هناك في السماء. وهذه هي حكاية موته باختصار، أنه مات حين مال.
وأعود أسأل: متى مات عبدالله؟ وأعود لأجيب: إن عبدالله مات في 17 يونيو/حزيران 2019، لكن شهادة الوفاة استُخرجت في 4 سبتمبر/أيلول 2019.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.