كان تدخُّل روسيا العسكري عام 2015 في سوريا بمثابة بدايةٍ لاكتساب نفوذٍ ومكانة مهيمنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكثيراً ما تتبنَّى روسيا في البداية موقفاً محايداً في القضايا الإقليمية المختلفة، وتتحدث مع عدة أطرافٍ بينما تُقيِّم الفصائل التي يمكن أن تدعمها، لكسب المزيد من النفوذ في نهاية المطاف، كما هي الحال في اليمن حالياً.
وبينما توسِّع روسيا وجودها في الشرق الأوسط، يمكن أن يؤدي هذا إلى مزيد من التدخل في اليمن، وإعادة تأسيس نفسها طرفاً فاعلاً رئيسياً في تلك الدولة. فالمصادمات الأخيرة في عدن بين المجلس الانتقالي الجنوبي المؤيد للانفصال والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً فتحت مجالاً أكبر أمام التدخُّل الروسي. وفي ظل عدم وجود قيادةٍ من الولايات المتحدة أو القوى العالمية الأخرى لدعم المفاوضات المشروعة، أصبحت روسيا في وضعٍ يسمح لها بأداء دورٍ أكبر، لا سيما أنَّها الوحيدة التي لديها اتصالات مع جميع الأطراف المتحاربة الرئيسية، بحسب تقرير لموقع Lobelog الأمريكي.
إذ قال مارك كاتز أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج ميسون لموقع Lobelog الأمريكي: "بالتأكيد يمكن لموسكو العمل مع المجلس الانتقالي الجنوبي ودولةٍ مستقلة في جنوب اليمن. فرغم كل الشيء، كان جنوب اليمن لديه نظامٌ ماركسي موالٍ للسوفييت منذ استقلاله عن بريطانيا في عام 1967 حتى توحيده مع شمال اليمن في عام 1990 في نهاية الحرب الباردة. وكذلك فالكثيرون من الجيل الأكبر سناً من النخبة اليمنية الجنوبية تعلَّموا في الاتحاد السوفييتي، واستمرت الاتصالات بينهم وبين روسيا" .
ظهورٌ في جنوب اليمن
وصحيحٌ أنَّ المكانة الروسية المهيمنة في جنوب اليمن تضاءلت بعد توحيد اليمن، لكنَّ ذلك قد يتغير. إذ أدت أعمال العنف الأخيرة في عدن، التي كانت عاصمة جنوب اليمن سابقاً، إلى جعل المجلس الانتقالي الجنوبي هو القوة المهيمنة في المدينة، ليحل بذلك محل حكومة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي.
وطوال الحرب الأهلية اليمنية، التي اندلعت في مارس/آذار من عام 2015 بعدما أطلق التحالف الذي تقوده السعودية حملةً عسكرية لسحق الحوثيين وإعادة حكومة هادي إلى السلطة، بقيت موسكو بعيدةً عن صدارة المشهد، وحافظت على علاقاتها بجميع الأطراف مع رفض إعلان دعمها الصريح لأيِّ طرف.
إذ قال بيتر سالزبري، الخبير المتخصص في الشؤون اليمنية في مجموعة الأزمات الدولية: "طوال الحرب، لم تكن روسيا طرفاً فاعلاً مرئياً أو نشطاً بدرجةٍ كبيرة في اليمن. صحيحٌ أنَّ الروس أبقوا بعض موظفي السفارة في صنعاء حتى مقتل (الرئيس اليمني السابق علي عبدالله) صالح في ديسمبر/كانون الأول من عام 2017، واستقبلوا بعض ممثلي الحوثيين ومسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي في موسكو، لكنَّهم أكَّدوا كذلك أنَّهم يحترمون شرعية حكومة هادي".
وفي العام الماضي 2018، أظهرت روسيا قلقاً متزايداً حيال الوضع في اليمن. وكذلك تعهَّد فاسيلي نيبينزيا، المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، في أوائل العام الجاري بأن تدعم موسكو جهود السلام التي تبذلها الأمم المتحدة هناك. وفي شهر أبريل/نيسان الماضي، أجرى عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، زيارةً إلى موسكو بناءً على دعوةٍ من روسيا، وأكَّد وجود "اتفاق مشترك على هدف التوصُّل إلى حلٍّ سياسي موثوق"، في أثناء مناقشة إمكانية التعاون الاستراتيجي.
البحث عن الإرث السوفيتي
وصحيحٌ أنَّ روسيا لم تتخذ إجراءاتٍ حاسمة في اليمن حتى الآن، لكنَّ موسكو تستكشف إمكانية التفاوض مع الانفصاليين في جنوب اليمن. إذ قال كاتز إنَّ "بوتين يبدو أنَّه يريد استعادة كل ما كان لدى الاتحاد السوفييتي"، مشيراً إلى أنَّ هذا قد يدفعه إلى إعادة تنشيط العلاقات القديمة مع جنوب اليمن. وأضاف: "لا شك أنَّ المجلس الانتقالي الجنوبي على استعدادٍ تام للعمل مع موسكو، وهذا وحده يجعل موسكو مستعدةً للعمل معه" .
وتجدر الإشارة إلى أنَّ المجلس الانتقالي الجنوبي جعل من نفسه فصيلاً سياسياً مهيمناً، فبفضل جناحه العسكري، الذي يحمل اسم قوات الحزام الأمني -وهي شبكة تضم ميليشيات جنوبية مدعومة من الإمارات العربية المتحدة- إلى جانب الدعم الإماراتي السخي، يتفوق المجلس على حكومة هادي من حيث القوة وعدد الجنود. ومن ثَمَّ، اكتسب المجلس معقلاً في عدن، وتفوق على السلطة الصغيرة التي يمتلكها هادي هناك.
وبينما يحاول المجلس تأمين وضعه هناك، فقد يدفع ذلك روسيا إلى التدخل وتقديم الدعم، هذا إذا لم تعترف به اعترافاً صريحاً. وأضاف كاتز أنَّ دعم روسيا للمجلس يمكن أن يساعد في تعزيز قوتها الناعمة في المنطقة، قائلاً: "في ظل وجود العديد من الدول الأخرى التي لديها قواعد بحرية على طول البحر الأحمر، فإن عدم وجود قواعد روسية هناك لا بد أنَّه يُزعِج موسكو، وقد يكون جنوب اليمن مستعداً للسماح لها بإقامة قاعدة هناك في حال استقلاله"، بحسب الموقع الأمريكي.
وبالإضافة إلى الفوائد التي يمكن أن يقدمها جنوب اليمن لروسيا في حال استقلاله، لا شكَّ أنَّ موسكو تفكر كذلك في أنَّ حكومة هادي فقدت معظم نفوذها، مما يعني أنَّ حكمه لا يخدم طموحات روسيا جيداً. وإذا تمكنت موسكو من تثبيت أقدامها في اليمن بصفتها صانعة سلام، سيمنحها ذلك حرية التدخل في الشؤون اليمنية. وهذا من شأنه أن يُكمِل طموحات روسيا المتزايدة الرامية إلى كسب النفوذ في البحر الأحمر وشرق إفريقيا، لا سيما في السودان وإريتريا، حيث سعت إلى تكوين علاقاتٍ اقتصادية وعسكرية أكبر.
عامل الإمارات العربية المتحدة
ومن العوامل الأخرى التي تجدر الإشارة إليها هنا العلاقة بين موسكو والإمارات العربية المتحدة، التي تدعم المجلس الانتقالي الجنوبي وجناحه العسكري؛ إذ أصبحت كلتا الدولتين تدعمان بعضهما البعض دعماً متزايداً، ويبدو أنَّ مصالحهما تتفق هناك؛ إذ قال كاتز: "يبدو أنَّ روسيا والإمارات العربية المتحدة لديهما مصالح مشتركة وراء تقديم الدعم في جنوب اليمن، كما هي الحال في بعض المناطق الأخرى في الشرق الأوسط" .
إذ وجدت روسيا والإمارات العربية المتحدة كذلك أرضيةً مشتركة في ليبيا تتمثَّل في دعم قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر. وفي توافقٍ آخر مع الموقف الروسي، أصبحت الإمارات أكثر تقبلاً لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، إذ أعادت فتح سفارتها في سوريا في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي. وكذلك تُظهِر الدولتان دعماً للوضع العسكري الحالي في السودان. حتى إنَّ أبوظبي خففت من حدة معارضتها لايران، حليفة روسيا، وشكَّكت في المزاعم التي تدَّعي تورُّط طهران في الهجوم على عدة ناقلات نفط في خليج عمان في يونيو/حزيران الماضي.
وفي السياق نفسه، عزَّزت روسيا والإمارات العربية المتحدة العلاقات بينهما تعزيزاً متزايداً في الأشهر الأخيرة، إذ التقى عبدالله بن زايد، وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو في يونيو/حزيرن الماضي، وناقشا الوضع في اليمن، وتعزيز العلاقات-الروسية الإماراتية في مجالاتٍ أخرى، بحسب الموقع الأمريكي.
وقال لافروف، بعد لقاءٍ جمعه مع عبدالله بن زايد في مارس/آذار: "سنواصل العمل يداً بيد لمحاربة الإرهاب والتطرف في المنطقة العربية، بينما نتطلع كذلك إلى حلولٍ سياسية والاعتماد على الحوار في بلدان مثل سوريا وبعض الدول الأخرى التي تواجه صراعات" . ويبدو أنَّ موسكو تواصل التساهل مع تدخُّل في أبوظبي في جنوب اليمن بداعي محاربة الإرهاب، معتبرةً ذلك أداة أمنية لكبح جماح المتشددين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ روسيا والإمارات العربية المتحدة تميلان إلى دعم الحكام "الراسخين" المستبدين تحت ستار مكافحة التطرف، وهو ما يمكن أن ينطبق على دعمهما للمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن. إذ ظهرت دلائل على وجود نزعةٍ استبدادية داخل المجلس، لا سيما في شبكة السجون الواسعة التي يديرها جناحه العسكري. وصحيحٌ أنَّ هذه السجون من المفترض أنَّها أنشئت من أجل التصدي لتنظيم القاعدة، لكنَّ منظمة العفو الدولية وثَّقت انتهاكاتٍ لا حصر لها لحقوق الإنسان في هذه السجون.
وقال سالزبري إنَّه على الرغم من وجود قلقٍ من التسبب في إزعاج الولايات المتحدة أو عدم مراعاة حساسيات المملكة العربية السعودية، فإنَّ ذلك لن يمنع موسكو وأبوظبي من إقامة روابط أقوى مع المجلس الانتقالي الجنوبي وبعض الفصائل الأخرى في جنوب اليمن. وأضاف: "أعتقد أنَّه يُمكن القول إنَّهما سيعملان على إبقاء العلاقات قائمةً مع جميع أطراف النزاع، وإنَّ هناك فرصة لدى المجلس الانتقالي الجنوبي للعمل مع حليفٍ تنفر منه الولايات المتحدة لكنَّه قريب من الإمارات العربية المتحدة، التي لديها بدورها علاقات جيدة مع موسكو" . وأشار إلى أنَّ المجلس الانتقالي الجنوبي الساعي إلى الانفصال سيكون أكثر تقبلاً للتعاون مع موسكو إذا منحته روسيا الدعم واعترفت بشرعية قضيته.
وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى تعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وهادي، والمجلس الانتقالي الجنوبي، تلقت كذلك طلبات من الحوثيين للعمل وسيطاً في اليمن. ومن الواضح أنَّ موسكو مستعدةٌ لمزيدٍ من التدخل في البلاد، وهو ما قد يعزز نفوذَيها الإقليمي والعالمي.