حتى قبل سقوط الرئيس السوداني عمر البشير بسنوات، بدأت مراجعات للإسلاميين السودانيين للتجربة التي خاضوها والتي كانت استثناء في التاريخ العربي الحديث.
ففي كل البلدان العربية يشكو الإسلاميون من الاضطهاد، ولكن في السودان تورط الإسلاميون مع الاستبداد.
وفي كل البلدان العربية، ارتبط الحكم العسكري بالقوى العروبية الاشتراكية أو اليسارية أو العلمانية، ولكن في السودان تحالف قطاع من الإسلاميين مع العسكر في تجربة لا تختلف عن التجارب التي طالما انتقدوها في البلاد العربية الأخرى.
الرجل الذي حرف مسار الإسلاميين في السودان
فتاريخ الحركة الإسلامية في السودان مختلف نسبياً، والسبب في ذلك يعود لرجل أثار الجدل في صفوف الإسلاميين وخصومهم على السواء، وهو المفكر الإسلامي الراحل الدكتور حسن الترابي، الذي تحالف مع العميد عمر حسن البشير لينقلبا على النظام الديمقراطي الذي كان الترابي عضواً فيه ويؤسس النظام العسكري الإسلامي الوحيد في العالم العربي وأطول حكم استبدادي عمراً في السودان.
ولكن حتى قبل ذلك أثار الترابي الجدل بمواقفه الدينية والاجتماعية والسياسية والتي أشعلت الخلافات داخل صفوف الإخوان المسلمين في السودان، وقيام ما يشبه الثورة الداخلية ضده أسست عام 1980 تنظيماً سمي حركة إخوان المسلمين وانضم للتنظيم الدولي في مؤشر على الاعتراف به باعتباره التنظيم الرسمي للإخوان في السودان.
في المقابل، أسس الترابي الجبهة الإسلامية القومية بعد سقوط حكم النميري ليرسخ انفصاله عن الإخوان، في ظل ارتياب شيوخ الجماعة منه، مقابل ضغط عناصر الشباب في الحركة الأم وفروعها لتغيير هذا الموقف، حيث رأت في النجاح السياسي الذي حققته الحركة التي يقودها الترابي دليلاً على أن موقفها أسلم من الموقف التقليدي الحذر الذي جعل الحركات الأخرى تعاني من الركود وتعجز عن ترجمة سندها الشعبي إلى نتائج عملية.
ولكن ليس كل الإسلاميين كانوا مع النظام
لكن رغم النتائج السلبية على مدار العقود الثلاثة الماضية، فإن الكثير من السودانيين لا يزالون يؤمنون بشعار "الإسلام هو الحل" .
وفي الوقت ذاته فإنه لا يتحمل الإسلاميون جميعاً وزر النظام، إذ ليس كل الإسلاميين كانوا جزءاً منه، ولو طبق هذا المنطق على كافة البلاد العربية لوجب إقصاء القوى القومية واليسارية عن أي تجربة ديمقراطية وتحميلها وزر أعمال مستبدين مثل صدام حسين وحافظ وبشار الأسد أو النظام الاشتراكي في اليمن الجنوبي، ووجب إقصاء العلمانيين بسبب تجربة زين العابدين بن علي في تونس.
كما أن هناك العديد من الانشقاقات التي حدثت وأدت إلى خروج فصائل الإسلاميين من كنف النظام منذ سنوات.
أبرزها الخلاف بين الترابي والبشير والذي تحول بعده المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي إلى أشد معارضي حكومة الإنقاذ في وقت لاحق، إلا أن حزبه انخرط في الحوار الوطني، ومنها مشاركته السلطة مع البشير حتى سقوطه.
فبالإضافة إلى الخلاف بين البشير والترابي انشق أبرز قادة المؤتمر الوطني المفكر الإسلامي غازي صلاح الدين، إثر تعامل الحكومة الوحشي مع هبة شعبية قتل فيها أكثر من 200 قتيل طبقاً لإحصائيات غير رسمية.
وأسس صلاح الدين حركة "الإصلاح الآن"، وعقب ثورة ديسمبر/كانون الأول انشقت قطاعات واسعة من حركة الإصلاح الآن على نفسها بقيادة الأمين السياسي للحزب خالد نوري، وأعلنت تأييدها المطلق لقوى الحرية والتغيير، الأمر الأمر الذي قد يعني إمكانية لعبها لدور في المرحلة الانتقالية.
فالنظام فقد هويته الإسلامية مع توالي السنين
فعلى مدار سنوات حكم البشير الثلاثين، كانت تتراجع وتيرة الإسلاموية في النظام عبر العديد من الانشقاقات أو التغييرات الفكرية، بينما تزداد وتيرة العسكرية والبراغماتية، وهو ما ظهر في ثقة البشير في شخص مثل محمد حمدان دقلو الذي ليس له علاقة بالحركة الإسلامية على الإطلاق.
كما أنهم شاركوا بالثورة
كما أن الإسلاميين شاركوا في الثورة على البشير، خاصة الشباب، مثل شباب المؤتمر الشعبي وحركة الإصلاح الآن الذين كانوا من أكثر الداعمين للتغيير، وشاركوا بفاعلية في جميع مراحل الثورة.
فقبل عزل البشير، زار المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في السودان عوض الله حسن المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، وظهر في صور وهو يخط بيديه لافتات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين.
وبينما يتساءل الشارع السوداني الآن حول مصير الإسلاميين، فإن مواقف الإسلاميين تختلف من عملية إقصائهم من العملية السياسية.
وكيف سيتعامل الإسلاميون مع الحكومة خلال الفترة الانتقالية هل يتعاونون معاً لإنجاحها، أم يضعون أمامها العراقيل حتى لا تنفذ مهامها؟ كل هذه التساؤلات تثار وسط انقسام في قيادات الإسلاميين أنفسهم.
فبعضهم ينظر لقوى الحرية والتغيير باعتبارها إقصائية بفعل استبعادها لهم، ومن بين من يتبنى هذا الخط القيادي البارز بحزب المؤتمر الشعبي أبو بكر عبدالرازق.
في المقابل بدأت مراجعات للإسلاميين السودانيين للتجربة التي خاضوها، مراجعات ترى أن عملية بقائهم بعيداً عن السلطة خلال الفترة الانتقالية قد يكون فيها إيجابيات كثيرة.
وكانت الحركة الإسلامية في السودان قد أعلنت أنها "بلغت نقطة تستدعي التخفف من عبء الدولة، مع الحاجة إلى إجراء مراجعات كثيرة لمنهج الدعوة"، مشددة على أنه ليس بمقدور أي طرف أن يقصيها.
إسلاميون يدافعون عن قوى الحرية والتغيير.. حتمية تاريخية
القيادي البارز بحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر يعتقد أن قوى الحرية والتغيير ليست إقصائية كما يصفها البعض، بل ما اتبعته هو حتمية الثورة بناءً على القراءة الخاطئة لحزب المؤتمر الشعبي للثورة، بحسب ما قاله لـ "عربي بوست" .
وبرأ كمال عمر قوى الحرية والتغيير من تهمة الإقصاء التي دمغتها بها الأحزاب الإسلامية التي كانت مشاركة في السلطة حتى إسقاط البشير كالمؤتمر الشعبي.
وقال إن أي نظام حزب مربوط بنظام سقط معه لا بد من إبعاده من الفترة الانتقالية، وزاد بالقول: "المؤتمر الشعبي كان جزءاً من الحكومة ويدافع عنها لحظة سقوط البشير، وطبيعي قوى الثورة أن تبرز قياداتها" .
وطالب كمال عمر حزب المؤتمر الشعبي بالتعاون مع قوى الحرية والتغيير ، ولا سيما أن الفترة الانتقالية تشهد تأسيس البلاد بشكل جديد.
المراجعة أصبحت ضرورة
القيادي بحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر طالب الأحزاب الإسلامية بضرورة مراجعة تجربتها المريرة في الحكم، حسب تعبيره
ويقول إن المراجعة لا بد أن تشمل جميع مكونات الإسلام السياسي (المؤتمر الوطني، المؤتمر الشعبي، الإصلاح الآن ومنبر السلام العادل)، خاصة أنها جميعاً كانت ذات صلة بالنظام السابق.
كمال عمر وصف تجربة الإسلاميين في الحكم بـ(المريرة)، للأفعال والسلوكيات الصادرة من نظام البشير، من مصادرة للحريات العامة وشكل الدولة وتعاملهم مع الغير، وانفصال جنوب السودان، وإشعال الحروب في كل بقاع السودان، فضلاً عن الحروب في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.
فحزب المؤتمر الوطني مسؤول عن فشل التجربة الإسلامية في السودان
عمر اعتبر أن حزب المؤتمر الوطني مسؤول مسؤولية مباشرة عن فشل تجربة الإسلاميين في الحكم.
وقال: "ارتباط الأحزاب الإسلامية بالمؤتمر الوطني لدى الشعب السوداني بات محل تساؤل" .
وطالب هذه الأحزاب بضرورة إقناع الشعب السوداني بأن المشروع الإسلامي حدثت فيه تجاوزات وإخلال بعقد المواطنة، وأن المؤتمر لا يمثل الشكل الأمثل للإسلام السياسي.
المحامي والقيادي بالمؤتمر الشعبي أوضح أن الفترة الانتقالية هي فرصة حقيقية لخلق علاقات جديدة مع الواقع السياسي السوداني، وهي مطالبة بنجاح الفترة الانتقالية، ومن ثم طرح مشروعها بشكل جديد للجماهير.
هل الإبعاد في صالح الإسلاميين أم أن مشروعهم انتهى للأبد؟
إبعاد الأحزاب الإسلامية من الفترة الانتقالية بسبب مشاركتها لنظام الإنقاذ حتى سقوطه، كمال عمر اعتبر أن هذه النقطة تدفع هذه الأحزاب للوحدة المرحلية والتكتيكية.
هذه الرغبة في وحدة الإسلاميين في الفترة الانتقالية، قلل من فاعليتها القيادي بتجمع المهنيين علي فارساب.
وقال لـ "عربي بوست"ً إن تجربة البشير أجهضت المشروع الإسلامي في السودان، حسب قوله.
فارساب توقع لحزب المؤتمر الوطني مصير الحزب الاشتراكي "حزب جعفر نميري"، ولاسيما أن الأحزاب الشمولية تنتهي بمجرد ما فقدت السلطة وأن ارتباطها عضوي.
ويتابع علي القول: "الشعب السوداني نبذ الجبهة الإسلامية لمستوى الظلم الذي لحقهم منه، حيث أدار البلاد بالبطش والجبروت والترويع وكل سوداني تأذى منهم بصورة مباشرة الأمر الذي خلف الاحتجاجات وانفجار البركان" .
واعتبر أن خروج الجماهير بهذه الكثافة العالية إنما يدلل على استفتاء شعبي لرفض الشعب لتجربتهم المريرة.
وقال إن الثورة ليست ضد الانتماء الفكري للأفراد، بل هي ضد المتورطين في جرائم في حق الشعب السوداني، وطالب الجماعات الإسلامية بضرورة تقييم تجربتهم، وتجديد خطابهم الفكري.
واستبعد علي فارساب إمكانية تنصل المجلس العسكري من الاتفاق مع قوى الحرية والتغيير "حتى إذا تنصل المجلس العسكري من الاتفاق ليس لدينا خيار سوى إسقاطه"، حسب قوله.
اللافت أن حديث قوى الحرية والتغيير عن ضعف شعبية الإسلاميين يتزامن مع إصرارهم الدائم على تأجيل موعد الانتخابات لتكون أربع سنوات، وحرصهم على السيطرة على تشكيل الحكومة عبر التفاوض مع المجلس العسكري وليس عبر الانتخابات.
ولكن هل يؤدي طول الفترة الانتقالية التي اتفق أن تكون لمدة ثلاث سنوات لإضعاف فرص الإسلاميين في أي انتخابات قادمة؟
ولكن لماذا كانت تخشى قوى التغيير الانتخابات المبكرة؟
"قد تكون مدخلاً لعودة الإسلاميين للحكم"، هذا ما يخشاه الحراك السوداني من الانتخابات.
وهو ما يصفه القيادي بحركة "الإصلاح الآن" أسامة توفيق، بـ"الحالة النادرة" في عالم السياسة.
إذ يقول توفيق لـ"عربي بوست": "من النوادر التي لا تحدث إلا في السودان، أن العسكر كانوا يهددون الأحزاب السياسية بإجراء انتخابات مبكرة وذلك لأن 90% من الأحزاب لا وجود لها على أرض الواقع"، حسب قوله.
وقال أسامة توفيق في حديث سابق مع "عربي بوست": "إنني على يقين بفوز الإسلاميين بالمرتبة الأولى لأن الإنقاذ ستكون قد محيت من أذهان السودانيين"، حسب قوله.
ولفت توفيق إلى أن عودة الإسلاميين إلى سدة الحكم في السودان لن تتحقق إلا مع زوال حالة الاحتقان التي ترسخت داخل الشعب والكره الذي جلبه المؤتمر الوطني بسياساته الخرقاء إذ لم تعِ قيادته أهمية الإصلاح، الأمر الذي أدى لانسلاخ عدد من الأجسام منه، إضافة لحالة من العداء تجاهه من قبل عامة الشعب.
وقال: "العودة لن تكون سريعة وبنسبة أقل للتيارات الإسلامية التي لم تكن على وفاق مع المؤتمر الوطني، فالإسلاميون السياسيون هم الأكثرية بالمقارنة بأحزاب اليسار"، معتبراً أن "الوجدان السوداني إسلامي بالفطرة، إلا أن الهزة التي تعرض لها من قبل حزب المؤتمر الوطني كادت تطمس كل شيء".