أدى القرار الأخير للإمارات العربية المتحدة بالانسحاب من اليمن إلى جعل ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للبلاد، محمد بن سلمان، المحرك الرئيسي الوحيد لهذا الصراع الكارثي، وقد تركه صديقه ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، يتعامل مع تبعات هذا الصراع. وفي أعقاب ما فعله بن زايد، يبدو أنَّ نجم بن سلمان في أفول وأنَّ تأثيره على المشهد العالمي يتضاءل، كما يقول د.إميل نخلة الضابط الأقدم في المخابرات الأمريكية، ومدير برنامج التحليل الاستراتيجي للإسلام السياسي في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، في مقالة له بموقع Lobe Log الأمريكي.
لعنة خاشقجي وحرب اليمن تلاحقه
أدت المحاولات المتكررة من الكونغرس الأمريكي لإيقاف مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى السعودية ومحاسبة محمد بن سلمان على قتل الصحفي جمال خاشقجي إلى التشويه الشديد لسمعة الزعيم السعودي ومكانته كما يقول نخلة.
ويضيف: على الرغم من أنَّ الكونغرس لم يكن قادراً على التغلب على حق النقض (الفيتو) لترامب وإعاقة صفقات السلاح هذه بشكل فعلي، فإنَّ إجراءات الكونغرس الرمزية لها تداعيات سلبية طويلة المدى على محمد بن سلمان، إذ تقلص الدعم الأمريكي التقليدي المشترك بين الحزبين للسعودية، والذي يعود إلى فرانكلين ديلانو روزفلت، بسبب غطرسة محمد بن سلمان وقمعه، ليصبح مجرد علاقة شخصية بين المستبد السعودي والرئيس الأمريكي الحالي وصهره.
وقد أدى تضاؤل هذا الدعم التقليدي المشترك من الحزبين إلى ترك ولي العهد السعودي معتمداً على النوايا الحسنة والدعم المستند إلى المقابل من قبل إدارة ترامب.
يقول نخلة: في الواقع، قوضت أفعال محمد بن سلمان المصالح السعودية طويلة الأجل ومقدار "السمعة الطيبة" التي كانت للمملكة لدى الجمهور الأمريكي، أياً كان مقدار هذه السمعة. وما إن تأتي إدارة جديدة إلى واشنطن، فإنَّ المطالبات بمحاسبة محمد بن سلمان على أفعاله في اليمن وعلى جريمة القتل الشنعاء لخاشقجي سوف تعاود الظهور. ولو طرحنا جانباً الفشل في تخطي حق النقض الذي استخدمه ترامب، فقد عبر الكثير من أعضاء مجلس الشيوخ عن وجهات نظر سلبية في حق الزعيم السعودي، كما أنَّ ملايين الدولارات التي أنفقها محمد بن سلمان في واشنطن لتلميع صورته لم تفده كثيراً.
الملف الفلسطيني – الإسرائيلي
كان فشل خطة جاريد كوشنر لـ"صفقة القرن" بين إسرائيل وفلسطين في ورشة البحرين، التي عقدت أواخر شهر يونيو/حزيران 2019، ضربة أخرى لاسم محمد بن سلمان. إذ كان كوشنر وبن سلمان يأملان أنهما سوف يكونان قادرين على إقناع الزعماء العرب بحضور فعالية البحرين والإشادة بخطة كوشنر الاقتصادية لفلسطين. لكنَّ قادة الأردن ومصر والكويت ودول أخرى كثيرة رفضوا التوقيع على المبادرة، وقالوا إنَّ الجزء الاقتصادي من اتفاقية سلام بين إسرائيل وفلسطين ينبغي أن يسير جنباً إلى جنب مع عنصر سياسي على طريق حل الدولتين. كما أن فعالية البحرين تلاشت وتحولت إلى محض فرصة لالتقاط صور فوتوغرافية فشلت في الحصول على قوة جذب. ولا بد أنَّ بن سلمان قد شعر بحرقة من عدم قدرته على تقديم الدعم العربي لأصدقائه في البيت الأبيض.
يقول نخلة حول ذلك: وإذا فاز رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالانتخابات الشهر المقبل وكان قادراً على تشكيل حكومة، فمن المتوقع أن يلبي مطالب اليمين الإسرائيلي المتطرف، وبدلاً من التوصل إلى اتفاقية مع الفلسطينيين وفق الصيغة الاقتصادية المشؤومة لكوشنر، فسوف تكون السياسة اليمينية المتطرفة لإسرائيل مستهلكة بالحديث عن ضم الأراضي المحتلة ونقل السكان الفلسطينيين خارج إسرائيل.
وعلى الرغم من الصداقة الحميمة التي تجمع بن سلمان بكوشنر، فإنَّ أوراق الاعتماد العربية لبن سلمان سوف يجري تلطيخها. ومن المفارقات أنَّ مبادرة السلام العربية التي دامت ثلاثة عقود، والتي تدعو للاعتراف العربي الكامل بإسرائيل في مقابل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي استناداً إلى قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 و338، قد أطلقها ولي عهد سعودي آخر، وهو الملك عبدالله، عم محمد بن سلمان، ولا تزال تحظى بدعم والده الملك سلمان.
ولن تساعده علاقته الخاصة بكوشنر في إنقاذ صورته التي يتصورها لنفسه بوصفه زعيماً عربياً مؤثراً، كما لن تساعده علاقاته السرية مع قادة الاستخبارات والسياسة الإسرائيليين على تقديم الدعم للفلسطينيين.
يضيف نخلة: وإذا كان محمد بن سلمان يؤمن حقاً بتحسين حيوات الفلسطينيين، فلم لا ينضم إلى قطر في تمويل التنمية الاقتصادية في الضفة الغربية وغزة ويثبت للفلسطينيين أنه ملتزم بما فيه خير لهم؟ ويستطيع بن سلمان أيضاً بدء محادثات جادة مع الإسرائيليين والفلسطينيين حول مستقبل الشعبين "من النهر إلى البحر". وإلا، فسوف ينظر إليه التاريخ مثل العديد من القادة العرب الآخرين من قبله، على أنه حارب القضية الفلسطينية إلى آخر فلسطيني.
الفشل بالملف الإيراني
تعد إمكانية استئناف المحادثات مع إيران -من خلال الجهود الدبلوماسية التي تشمل سلطنة عُمان وربما الإمارات العربية المتحدة- ضربة أخرى للطموحات الإقليمية لمحمد بن سلمان وغطرسته. وقد يكون التصريح الأخير لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأنَّ القوات الأمريكية ستبدأ الانسحاب من أفغانستان قبل انتخابات العام المقبل بمثابة رسالة إلى محمد بن سلمان بشأن إيران.
وعلى الرغم من سهولة الاختلاف مع ترامب حول الكثير من قضايا السياسة الخارجية، فثمة انطباع من إعلان بومبيو بأنَّ ترامب ليس متحمساً لخوض حرب أخرى في الشرق الأوسط أو لمواجهة عسكرية مع إيران، ولا يعني الحديث القاسي الموجه إلى إيران أنَّ الحرب وشيكة.
وذكرت صحيفة The Wall Street Journal الأسبوع الجاري أنَّ وفداً إماراتياً ذهب إلى إيران لمناقشة الأمن البحري في ذلك الجزء من الخليج العربي. وتحرص الإمارات، لا سيما دبي، على الإبقاء على سلامة طرق الشحن التجارية وإقناع شركائها بأنَّ التجارة مع دول الخليج العربية آمنة.
وبطبيعة الحال، فإنَّ الحل السلمي للتوترات السياسية الإقليمية مع إيران هو أفضل ضمان للتجارة الآمنة في الخليج. وقد تاجرت دبي، وهي الإمارة الأكثر توجهاً ناحية التجارة، مع إيران لعقود من الزمن، كما أنَّ في دبي أقلية شيعية مهمة وعدداً كبيراً نسبياً من رجال الأعمال الناجحين من أصول إيرانية، كما أنَّ لدى دبي تاريخاً من وضع التجارة أولوية قبل كل شيء.
فأثناء ذروة المقاطعة العربية لإسرائيل، عندما لم يكن بالإمكان المتاجرة في العالم العربي بالعناصر المدرجة في قائمة الممنوعات مثل Coca-Cola وسيارات Ford، بسبب المقاطعة، كان بإمكان المرء دائماً أن يعثر على هذه الأشياء في ميناء دبي. وعلى الرغم من عداوة محمد بن زايد لإيران فإنَّ التجارة دائماً ما كانت تتفوق على السياسة في التاريخ الحديث لدبي.
ولو أخذنا في الاعتبار تعقيد القضايا الإقليمية وترابطها، فمن الممكن أن نتخيل أنَّ وفد السلام الإماراتي الذي زار طهران سيوسع أجندته للأمن البحري لتشمل اليمن والصفقة النووية والعقوبات وغيرها من القضايا الشائكة. ويمكن أن تصبح هذه المحادثات أكثر شمولاً لو انضمت إليها عمان والكويت. ولو نتج عن هذه المحادثات نوع من التقارب بين طهران وواشنطن، فقد يكون ذلك مقدمة لصفقة جديدة تكون فيها المناقشات النووية مكوناً رئيسياً. وإذا دعمت إدارة ترامب خفض التصعيد واستمرت في منح إعفاءات من العقوبات للشركاء التجاريين الأساسيين لإيران، فينبغي أن يصبح واضحاً لمحمد بن سلمان أنَّ ترامب لا يسعى إلى حرب مع إيران.
يقول نخلة: إذا بدأت واشنطن وطهران محادثة جادة حول الصفقة النووية والعقوبات، فإنَّ حروب بن سلمان الإقليمية ومكائده العدائية ضد إيران والإسلام الشيعي ستفشل. وستستمر عزلته، وسيحكم عليه التاريخ باعتباره واحداً من المستبدين العرب القمعيين الفاسدين الفاشلين، ولن يكون تصوره للمنطقة أكثر من مجرد وهم، وسيتبخر طموحه المعتمد على المال في أن يصبح ذا نفوذ كبير على الساحة العالمية.
القمع الداخلي وسجل حقوق الإنسان
في الشهور الأخيرة، وبّخ الكثير من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي محمد بن سلمان علناً بسبب سجله القمعي في مجال حقوق الإنسان. إذ أدى العدد المتزايد من المعارضين الذين يجري إعدامهم في السعودية والبحرين، حيث يحظى السعوديون بنفوذ هائل، إلى تلطيخ سمعة محمد بن سلمان ومكانته.
هذه الإعدامات ذات طبيعة طائفية بالأساس، وهي موجهة ضد المواطنين الشيعة في كلا البلدين، وتستند في العموم إلى اعتقالات غير قانونية وتعذيب واعترافات قسرية ومحاكمات صورية. ويعتمد النظام البحريني على دعم الجيش السعودي بوصفه أداة لقمع الأغلبية الشيعية في البلاد.
ومع الإعلان الأخير عن إعادة القوات الأمريكية إلى السعودية، فسيبدأ بن سلمان في الشعور بضغوط الجناح الديني السلفي الوهابي في المملكة، إذ كانت المعارضة الدينية لوجود قوات "كافرة" في "بلاد الحرمين الشريفين" عام 1991 هي ما غذى حملة أسامة بن لادن ضد النظام السعودي والولايات المتحدة.
فبعد أن أخرج التحالف الدولي الذي كانت تقوده الولايات المتحدة صدام حسين من الكويت عام 1991، وبقيت القوات الأمريكية في السعودية، أدان رجال الدين وجود هذه القوات. وفي أوائل التسعينيات، كانت هذه هي القضية التي حشدت بن لادن والقاعدة، ويمكن لهذا الشعار الراديكالي أن يعاود الظهور ليكون كابوساً مروّعاً لمحمد بن سلمان إذ يلتفّ حوله خصومه.
وفي أعقاب انسحاب الإمارات من اليمن، فسيكون بن سلمان مجبراً على إعادة النظر في التصميم الكبير الذي وضعه لنفسه وللمنطقة. ذلك أنَّ هذا التصميم، الذي كان يتغذى على سخائه الاقتصادي والدعم المتصور من البيت الأبيض تحت حكم ترامب، يتلاشى. هل يستوعب محمد بن سلمان الفشل الناشئ عن ذلك ويتصرف وفقاً له قبل فوات الأوان؟