زَارَنِي طَيفُكِ البَارِحة، فَسَلَّمَ وَجَلَس، ثُمَّ قَال: دُلَّنِي عَلَىٰ الحُبّ، أَينَه؟ وَكَيفَ المَسِيرُ إِلَيه؟
فَقلتُ: وَيحدثُ أن أحبَبتكِ سَبعاً، ودعوتُ اللَّهَ مِثلهُنّ. فأمَّا الأول، فحبٌّ كحبِّ الولدِ وَالِدته، حَيثُ قِبلته ومُنتهَاه، حُبٌّ بِلا سَببٍ وَلكلِّ سَبَب. تستَقبِلُه بِأوَّلِ نَظرةٍ، وَأوَّلِ قُبلةٍ، وَأوَّلِ كَلِمةٍ، وَأوَّلِ ابتسامةٍ، وَأَوَّلِ دعوةٍ، وكلّ الرحمةِ والحَنَان. مَثَلِي كمثَلِهِ؛ أَشعُرُ دَائماً أنِّي وَقَعتُ فِي عَينَيكِ حَولَين كَامِلَين، قَبلَ أَن نَلتَقِي وَنَتَعَانَق، أَتَأثَّرُ بِكُل مُؤثِّرٍ، وَأَنتَشِي بِكُلِّ شُعُورٍ، فَخَرجتُ إلىٰ العَالَمِ وَحِيداً لِأجِدَ يَدَيكِ حَامِلةً يَدِي. آهٍ، المَوتُ دُونَكِ واجبٌ، والحَيَاةُ لِأجلِكِ فَرضُ عَين.
وَحُبٌّ مُتفرِّدٌ في صِفَتِه وَتسَامِيه؛ فَلا عَذرٌ لمُحبٍّ مِثلِي وَلا كِبريَاء، وَمُتعدِّدٌ في أَسرَارِ مَبَانِيه؛ فَلا أَقوَالٌ يَختَزِلها قَلبِي وَلا أَفعَالَ تَنطِقُ بِهَا جَوَارِحِي. وَيَجسَّد فِي كَثِير؛ مَع أُولىٰ قَطَرَات المَطَر، وَخَريفِ أَورَاقِ الشَّجَر، فَيَجبُر القَلبَ الرَّجِيف، وَيَروِي ظَمَأَ اللَّهِيف، ويُرىٰ بهِ السُّوءُ حُسناً، وَيَنقَلِب بِه الصَّعبُ يُسراً، وَتَسكُنُ إِليهِ الرُّوحُ بَعد الاغتِرَاب.
وَحبٌّ يَبتلِي اللَّه بهِ المَرءَ -كمَا ابتَلانِي- فيَختَبِر صَبرَهُ مِن عَجزِه، وَمآلَ مُجَاهَدَتِه وَآثَاره عَلَيه، وَمَن أَحقُّ بِالحُبَّ مِنهَ دُونَ سُوَاه! فَإذَا أَحبَّ امْرُؤٌ، فَلَا شِفَاءَ له إلَّا بوَصل، وَلا سَبِيلَ لِوَصلٍ فِي مَعصِيَة، ولا سَبيلَ لِقَلبَينِ جَمعاً بِغَيرِ دُعَاء. وَمَا أَعذَبَ الوِصَالِ إِن تَرَاءى خَيراً؛ فَبَعضُ ظَنّ الخَير فِي باطِنِهِ الهَلاك.
وَحبٌّ حِين نُلاقِيه نتلاقَىٰ نَحنُ فِيه، فَنجِد من رائحةِ المَاضِي مَا نقلِّمُ به هشَاشَة الحَاضِر، ومن قوةِ الروحِ ما نجبرُ به ضعفَ الضُّلُوع، وهو كالحياةِ دائماً متقلِّب. تَسوقُنا الدروب أحياناً، ولحسنِ الحظِّ أو سوءئه -فلا يعرِف الأقدارَ إلَّا مُقدِّرها- إلى نهائياتٍ مختلفةٍ، فيُكتبُ لبعضِها الكَمَال الذِي أردْنَاه وسَعينا له، وَيكمُن اكتِمَالُ الأخرَىٰ في النقطةِ التي تَبدَأُ أَو تَنتَهي مِنهَا، وَعَلينَا فِي الحَالَينِ تَمامُ الرِّضَا وَأتمُّ القَبُول. فقَد نَلتقِي علىٰ سَفحِ جَبلٍ، تُحِيطُ بنا النتُوءَات مِن كلِّ جَانِب؛ فنَشتَبِك. أَو لا نَلتَقي أَبداً، رغمَ تَشَابُه المَسَارَاتِ بَينَنَا، لاختِلافٍ طَفيفٍ فِي التَفَاصِيل، يكمُنُ فِي قِطعةٍ صَغيرةٍ نَاقِصَة؛ فنُكمِلهَا مَعاً.
وأمَّا الأخير، فَحُبٌّ ليسَ بِحُبّ، لا صِفَةَ له وَلا تَفسِير، أنا أنتِ في واحدٍ، ونحن معاً فِي آخَرِين. أَراكِ فِي كُلِّ الوُجُوهِ وَأرَىٰ الوُجوهَ كلُّها أنتِ، وأشجو بالسمعِ مُدندِنًا على همسِ القوَافِي والنُثَار إليكِ، وأتحسَّسُ المارةَ لعلِّي أتعثَّر بكِ بينهم. سَيفٌ ودِرع، هكذا نحن، لا نفترقُ أبداً؛ نقرةٌ بنقرة، وذراعٌ بذِرَاع، وَقدمٌ بقدَم. كلُّ الحُرُوب أَخُوضها كُرهاً، وَأنتَهي مِنهَا بإِحدىٰ اثنَتَين: نَصرٌ أو هَزِيمَة. لكنَّكِ المَعرَكةُ وَالجُندُ والعُدَّةُ والعَتَاد، حَربِي أنتِ وسَلامِي، وَنَصرِي وَهَزيمَتِي، وأشهَدُهُم جَميعاً فِي آنٍ وَاحِد.
فرفقاً بي يا رفِيقَة في فقرِي إليكِ، فشتَاء قَلبِي مُفارقِي كخَريفِي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.