على أبواب 7 سنوات عجاف.. المناخ والجيولوجيا وإثيوبيا تتواطأ لتعطيش مصر

عربي بوست
تم النشر: 2019/08/01 الساعة 12:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/01 الساعة 15:33 بتوقيت غرينتش
نهر النيل

ما إن أعلنت وزارة الري المصرية عن رفع حالة الطوارئ القصوى في كل محافظات الجمهورية، لمواجهة انخفاض إيراد نهر النيل بنسبة 5 مليارات متر مكعب عن العام الماضي، حتى تصدَّر هاشتاغ #مصر_بتعطش مواقع التواصل في مصر، فما مدى احتمال تعرُّض مصر للعطش، وما قصة الدورة المناخية الغامضة التي تهدد مياه النيل.

وبينما تراوحت التعليقات على إعلان وزارة الري المصرية بين غاضب وشامت وساخر، فإنَّ اللافت أنها قد غلب عليها قاسمان مشتركان، الأول القلق البالغ من فكرة شُح المياه، والثاني تحميل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مسؤولية الأزمة كاملة، خصوصاً بعد إخفاقه -على حد تعبير الكثيرين- في إدارة ملف سد النهضة الإثيوبي.

فما حقيقة الموقف المائي المصري الآن؟ 

وما الأسباب التي فاقمت الأزمة بسرعة في هذا التوقيت؟ 

وهل مصر فعلاً على مشارف العطش؟ 

وهل أخطأ الإثيوبيون في حساباتهم الهندسية بشأن سد النهضة، أم أنهم يخططون للوصول للمرحلة التي تصبح مصر فيها مضطرة لشراء المياه منهم.

 والأهم ما هي سبل الخروج من هذا المأزق إن وجد؟

أسئلة هامة نحاول الإجابة عنها في هذا التقرير.

7 سنين عجاف.. الدورات المناخية تقلص مياه النيل

يمر نهر النيل بثلاث دورات، مدة كلِّ دورة منها 7 سنوات، الأولى يكون هطول الأمطار غزيراً على هضبة الحبشة، والثانية تكون نسبة هطوله متوسطة، والدورة الثالثه تكون شحيحة الأمطار. 

ونحن الآن في السنة الثانية من الدورة الثالثة شحيحة الأمطار، وأكثر الدول المتضررة من ذلك الشح هي دول المصبّ، وعلى رأسها مصر. 

للوقوف على طبيعة الوضع المالي الحالي في مصر، خصوصاً بعد إعلان الوزارة حالة الطوارئ، تحدَّث عربي بوست مع المهندس عبداللطيف خالد (رئيس قطاع الري بوزارة الري المصرية)، الذي بدأ حديثه معنا قائلاً: حصتنا من مياه نهر النيل ثابتة، وهي 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، لكن نتيجة للزيادة السكانية، وما صاحَبَها من طفرة صناعية، أصبحت تلك الحصة لا تكفينا بشكل عام مؤخراً.

ويضيف قائلاً "وفي العام المقبل، ونتيجة لانخفاض معدل هطول الأمطار على هضبة الحبشة، يتوقع أن تقلَّ حصتنا بمقدار 5 مليارات متر مكعب أخرى، وبالطبع هذا النقص يؤثر علينا في نواحٍ عدة زراعياً وصناعياً.

"لكن الصورة ليست بهذه القتامة، لا داعي للذعر" بهذه الكلمات يستدرك المهندس عبداللطيف قائلاً: "لدينا حلول بديلة، ستتمكن مصر من اجتياز تلك الأزمة".

تتمثل تلك الحلول -والحديث مازال لرئيس قطاع الري المصري- في الاعتماد على مخزون المياه في بحيرة ناصر، الذي سيعوض جزءاً كبيراً من نقص حصتنا في الفترة المقبلة، فضلاً عن المياه الجوفية، التي يمكن الاعتماد عليها أيضاً لسدِّ العجز.

وهناك مَن يستولي على حصة مصر قبل أن تصل إليها

"بس احنا ما بيوصلناش أصلاً الـ55 مليار متر مكعب دول"، هكذا بدأ أحد المسؤولين المشتبكين مع ملف التفاوض المصري/الإثيوبي حول سد النهضة حديثه، مشككاً في الرواية الرسمية عن حصة مصر.

ويسترسل المسؤول المصري (الذي طلب عدم ذكر اسمه) شارحاً الأزمة بالقول: نظرياً المفترض أن حصة مصر فعلاً 55.5 مليار متر مكعب مياه، لكن في آخر ثلاث سنوات، ومع التقدم في بناء سد النهضة فإن حصتنا لا تصل كاملة.

والسبب أن المقطع الأوسط من سد النهضة، الذي لم يكتمل بناؤه بعد لا يصرف الـ86 مليار متر مكعب من المياه، التي من المفترض أن تخرج منه كنصيب لمصر والسودان معاً، حيث يتم احتجاز جزء من المياه خلف السد.

كما أنَّ السودان تحتجز حصتها كاملة عند سد مروى (18.5 مليار متر مكعب)، فالذي يصل مصر تقريباً 45 مليار متر مكعب مياه، وهو أقل من حصتنا بما يقارب الـ10 مليارات متر مكعب.

11 عاماً عجافاً.. المشكلة الأكبر هي كهوف سد النهضة المتوارية

المشكلة (أو الكارثة)، حسب وصفه، أن هناك 5 مليارات متر مكعب إضافية، سوف تتقلص من حصة مصر، وذلك نتيجة لسببين.

الأول أننا في الدورة المنخفضة لهطول الأمطار في الحبشة.

أما السبب الثانى فهو أن بحيرة سد النهضة تقوم بما يُطلق عليه "التخزين الميت"، وهو ببساطة معناه أن المياه تتسرب لجوف الأرض، نتيجة لعيب جيولوجي في الأرض المبني عليها السد، حيث تبيَن أنه تم بناؤه على منطقة منطقة كهوف، هذه الكهوف تتسرَّب إليها المياه في جوف الأرض وتعتبر فاقداً تاماً.

يضيف المسؤول الحكومي حديثه قائلاً: بالطبع هذا سيزيد عدد سنوات ملء الخزان، والتي أتوقع أن تصل إلى أكثر من 11 عاماً.

وقال: نعم إثيوبيا تتحدث عن ثلاث سنوات لملء السد، ومصر تفاوضت معها لتُطيلها لسبع سنوات (لتقليص كمية المياه المستقطعة كل عام عبر إطالة سنوات ملء السد).

 وأضاف: "الإثيوبيون وافقوا على خمس سنوات، والقاهرة لم ترحّب بهذا الرقم، لكن معدل هطول الأمطار ومساحة بحيرة سد النهضة تجعلنا نتوقع أننا أمام ما لا يقل عن 11 عاماً لملء البحيرة. والرقم هنا ليس هو الأزمة، الأزمة تكمن في معدل المياه الذي تنوي إثيوبيا حجبه في كل عام.

المشكلة الكبرى الأخرى التي تواجهنا، حسب المسؤول المصري، هي أن منطقة السد هي منطقة غابات، وإن تخزين المياه بها سوف يتسبب في عفونة لأخشاب تلك الغابات، وهو ما يعني انخفاض جودة المياه القادمة (مياه شبه عفنة).


ما مدى احتمال تعرُّض مصر للعطش وما حقيقة موقفها المائي حالياً؟.. أزمة قديمة منذ عهد مبارك 

دعنا نواجه الحقائق، مصر تعاني أزمة مياه كبيرة منذ زمن مبارك، والسبب الرئيسي فيها يعود إلى الزياده السكانية، حسب المسؤول المصري، الذي رفض ذكر اسمه. 

فالـ55 مليار متر مكعب التي كانت كافية لمصر وتعدادها 20 مليون نسمة، لا يمكن أن تكون كافية لما يفوق الـ100 مليون نسمة، كان من الواجب على الحكومات المصرية المتعاقبة التنبه لهذه الحقيقة، وتغيير نسبة حصة مصر مع دول المنبع، لكن هذا للأسف لم يحدث، وللأسف أكثر لم تقم الخارجية المصرية بأي دور لدعم التقارب السياسي الاقتصادي من تلك الدول، رغم أنها حرفياً تمتلك شريان حياة مصر. والنتيجة نحصدها اليوم على طاولة المفاوضات، حسب المسؤول المصري، حيث اكتشفنا أننا لا نملك أي مقومات للقوى الناعمة حيال تلك البلدان، ولا توجد لهم مصالح لدينا يمكننا استخدامها، فلم يبق أمام مصر سوى اللجوء للوساطات، مرة السعودية، ومرة أخرى إسرائيل.

على غرار النفط.. خطة إثيوبيا لدفع مصر لشراء مياه النيل

إثيوبيا لن تتأثر مطلقاً بشحّ هطول الأمطار، حيث إنها من أوفر بلدان الأرض في تلك النقطة، ولكن من سيعاني هي مصر، حسب المسؤول المصري.

وينبه المسؤول المصري إلى أمر خطير.

إذ يقول: "عاجلاً أم آجلاً ستصل القاهرة إلى النقطة التي تحتم عليها استيراد المياه من إثيوبيا، وهو ما تسعى إليه أديس أبابا".

ويضيف: أخبرني ذات مرة أحد أعضاء وفد إثيوبيا التفاوضي: "الماء كالنفط تماماً، كلاهما ثروات طبيعية وهبها الله لبعض البلدان، فلماذا تريدون أخذ الماء منا مجاناً ولا تأخذون النفط من الخليج بالمجان" 

ويختتم الرجل حديثه بكلمات صادمة "فمن الجلي إذن أن إثيوبيا تريد بيع الماء والكهرباء، وأعتقد أننا سوف نشتري منهم يوماً ما".

لكن ما الذي يعنيه هذا النقصان؟ وكيف سيؤثر على حياة المصريين؟

كل 5 مليارات متر مكعب نقص في المياه تعني خسارة مليون فدان، وهو ما يعني ضياع 4 ملايين فرصة عمل".

 بهذه الأرقام الصادمة ردَّ هاني السلموني، خبير التنمية بالأمم المتحدة، على سؤالنا بشأن تأثير تراجع مياه النيل على الحياة في مصر.

وأردف قائلاً "الرقم كبير ومزعج كما ترى، لكنها الحقائق التي لا يمكن الالتفاف عليها".

استراتيجية الحكومة المصرية المعلنة لمواجهة العجز تقوم على اللجوء لمخزون بحيرة ناصر والمياه الجوفية.

ويعقّب السلموني عليها قائلاً "لا أعتقد أن بحيرة ناصر كافية لسداد العجز لأكثر من 3 سنوات"، كما تخطط استراتيجية الحكومة المصرية لمواجهة العجز.

ويضيف "كما أني أرفض تماماً فكرة اللجوء لاستهلاك المياه الجوفية".

أولاً لأنها مخزون استراتيجي للأجيال القادمة لا يجب المساس به، فضلاً عن أنه لا يمكن الجزم حتى الآن أنَّها مياه متجدِّدة.

هل هناك أمام مصر سبل لتجنُّب السنوات العجاف؟ نعم، ولكن تحتاج لاستراتيجية مختلفة

يرى السلموني أن الحل الأمثل أمام مصر يتم عبر عدة نقاط:

-وضع تركيب محصولي جديد لمصر، يتم الابتعاد فيه عن الزراعات الشرهة للمياه مثل القصب مثلاً.

– بناء محطات توليد طاقة على البحر الأحمر، نستخدمها في الحصول على مياه عذبة (تحلية مياه البحر).

-قصر استخدام مياه النيل فقط على الشرب، والاعتماد في الزراعة والصناعة على المياه المحلاة.

انتهى حديث الخبراء وبقي القلق، فهل ستسير القاهرة في مسار استهلاك مخزون مياه بحيرة ناصر والمياه الجوفية كما أعلنت، أم تفكر في الحلول البديلة التي طالب بها أكثر من خبير مراراً، هذا ما لا يمكن الجزم به حتى الآن، وإن كانت تصريحات الحكومة الرسمية تشير إلى أن الحكومة تميل للحل الأول، عبر اللجوء لبحيرة ناصر، والتوسع في استخراج المياه الجوفية.

تحميل المزيد