بعدما أخمِدَت النيران، واستعاد الحراس السيطرة نسبياً على السجن الواقع في شمال البرازيل، حيث أسفر قتال عصاباتٍ عن مقتل 58 شخصاً- واجه المسؤولون مشهداً مروعاً.
إذ كانت هناك رؤوس 16 سجيناً مقطوعة ومبعثرة على الأرضية الخرسانية، محاطةً بأعقاب سجائر وبِرَك من الدماء. وبالقرب من ذلك، كانت هناك 31 جثة أخرى لسجناء اختنقوا بسبب استنشاق الدخان، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وصحيحٌ أنَّ القتال الذي اندلع بين عصابتين متنافستين بسجن في ألتاميرا بولاية بارا البرازيلية، الإثنين 29 يوليو/تموز 2019، كان أشد أحداث العنف دمويةً وراء القضبان في البرازيل منذ نحو ثلاثة عقود، لكنَّه لم يكن مفاجئاً بصورةٍ كبيرة لبعض الخبراء الذين شاهدوا سجناء البلاد وهم ينفجرون، في الوقت الذي تفرض فيه العصابات القوية مزيداً من السيطرة على السجون.
لماذا توقَّع كثيرون مذبحة السجن!
إذ قالت آنا إيزابيل سانتوس، وهي محامية عامة في بارا: "كانت حادثة ألتاميرا مأساةً متوقعة. لقد كان سجناً مكتظاً ولم يشهد أي تحسينات أو تجديداتٍ منذ عقد كامل، وتقبع فيه عصابتان متناحرتان جنباً إلى جنب"
جديرٌ بالذكر أنَّ عدد السجناء في البرازيل شهد زيادةً حادة على مرِّ العقد الماضي، ليصل إلى أكثر من 811 ألف سجين، وهو ما شكَّل عبئاً ثقيلاً على أنظمة الإصلاح الفيدرالية والمحلية.
فبدءاً من عام 2017، تعمل بعض السجون في البرازيل بأكثر من طاقتها الاستيعابية، إذ إنَّ السعة المصممة لاحتجاز 10 سجناء صارت مكتظةً بـ17 سجيناً في المتوسط، وفقاً لبيانات وزارة العدل البرازيلية.
لكنَّ الوضع في ولاية بارا بالأخص كان سيئاً للغاية، وفقاً للإحصاءات الحكومية. فمنذ عام 1995 إلى العام الماضي (2018)، ارتفع عدد السجناء في الولاية من 1153 سجيناً إلى 16505 سجناء. ومع أنَّ نظام السجون أضاف مساحةً للأسِرَّة، كانت السعة حتى العام الماضي مُجهَّزة لاستيعاب 7950 سجيناً فقط.
عصابات المخدرات تستغل السجون!
ومع تكديس عددٍ متزايد من السجناء في سجون مكتظة بالفعل في جميع أنحاء البلاد، استغلت عصابات المخدرات البرازيلية القوية وفروعها في أنحاء المنطقة حالة الفوضى، وفقاً لبعض المسؤولين والخبراء.
وأصبحت السجون مراكز تستغلها عصابات المخدرات -التي تتحكم في تجارة تهريب الكوكايين المُربِحة من كولومبيا وبيرو وبوليفيا- في تجنيد أفراد جدد وتشغيل أنشطتها. جديرٌ بالذكر أنَّ البرازيل تعد واحدة من أكبر أسواق الكوكايين في العالم، ومحطةً مهمة للشحنات التي تُهرَّب إلى أوروبا وإفريقيا.
ومن جانبه قال أوغستو هيلينو ريبيرو، وهو جنرال عسكري يشرف على السياسة الأمنية بالبرازيل، في مقابلةٍ أُجريت معه في وقتٍ سابق من العام الجاري: "لقد أصبحت (العصابات) في الأساس شركاتٍ عبر وطنية لديها خدمات لوجيستية هائلة. وصارت تتحكم في كثير من أنشطتها من داخل السجون".
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عصابتي كوماندو فيرميلهو وكوماندو كلاس، اللتين تُعدَّان أكبر عصابتي مخدرات في البرازيل، تشكَّلتا خلف القضبان منذ عقود، ولديهما جذورٌ في مدينتي ريو دي جانيرو وساو باولو على الترتيب.
عصابات بفروع إقليمية
وعلى مرِّ العقود القليلة الماضية، تغوَّلت العصابتان وصارت لديهما فروعٌ إقليمية وفروع في الخارج. وقد كان ردُّ الحكومة البرازيلية الرئيسي على ذلك هو حبس مزيد من الأشخاص، لكنَّ ذلك أدى إلى تفاقم العنف، وفقاً لما ذكره بعض الخبراء.
إذ قال بنيامين ليسينغ، وهو أستاذ في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو يدرس تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية: "الزج بأعدادٍ هائلة في السجون يُضخِّم صفوف عصابات السجون عن طريق ملء السجون بأفراد جُدِّد عُرضة للتجنيد في العصابات، لأنَّهم يجدون أنفسهم في سجون خطرة مكتظة، ويحتاجون الحماية".
وأضاف أنَّ مسؤولي السجون في البرازيل كثيراً ما تنازعوا بشأن فصل السجناء وفقاً للعصابات التي ينتمون إليها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه الممارسة، التي أصبحت روتينية في معظم أنحاء البلاد، غالباً ما تُقوِّي شوكة العصابات، ويمكن أن تؤدي إلى تفاقم الاكتظاظ في بعض السجون، بحسب الصحيفة الأمريكية.
فصل السجناء أمر روتيني
إذ أكَّدت بارا سانتوس أنَّ فصل السجناء وفقاً للعصابات التي ينتمون إليها صار أمراً روتينياً للغاية في ولاية بارا، لدرجة أنَّ بعض القضاة الجنائيين يُنفذونه مباشرة.
وقالت: "حين تذهب إلى جلسة استماع، تجد القاضي يسأل عن العصابة التي ينتمي إليها المتهم، كي يعرف السجن المناسب الذي سيُرسله إليه. أمَّا أولئك الذين لا ينتمون إلى أي عصابة، فيُنسَبون في نهاية المطاف إلى إحدى العصابات بناءً على ما يقرره القاضي".
يُذكَر أنَّ الاشتباك الدامي الذي وقع أول من أمس، بدأ حين أضرَم سجناء منتمون إلى عصابة كوماندو كلاس النيران في زنزانةٍ تضم أفراداً من عصابة كوماندو فيرميلهو، حسبما ذكر بعض المسؤولين. وفي الاشتباك، أخذ بعض السجناء اثنين من الحراس رهينتين، لكنَّهم أطلقوا سراحهما سالمَين.
ومن جانبها قالت رونيفيا تيكسيرا بونتس، وهي مُدرِّسة في مدينة ألتاميرا كان شقيقها من بين القتلى، إنَّ مسؤولي الإصلاحيات كان بإمكانهم وقف إراقة الدماء.
وقالت في مقابلةٍ أُجريت معها أمس الثلاثاء: "الجميع يعلم أن هذا سيحدث. فهُم يذهبون إلى السجن مُدجَّجين بسكاكين كبيرة وصغيرة. فكيف يمكن أن يقول المسؤولون لأقرباء القتلى إنَّهم غير ملومين؟".
ردُّ الحكومة على المذبحة
ورداً على المذبحة، قالت الحكومة الفيدرالية إنها ستنقل قادة العصابتين المتورطين في الاشتباك إلى سجونٍ أخرى مُشدَّدة بدرجةٍ أكبر.
وحين سُئِل الرئيس البرازيلي جايير بولسوناور، الذي يؤيِّد اتخاذ إجراءاتٍ صارمة ضد الجريمة، أمس، عن هذه الأحداث، لم يكن لديه الكثير ليقوله، إذ قال للصحفيين: "اسألوا ضحايا أولئك المجرمين الذين قُتِلوا هناك عن رأيهم".
وقد تجمَّع أقرباء القتلى، أمس، خارج السجن، لتسلُّم جثث ذويهم. في حين وُضِعت الرؤوس المقطوعة معاً في حقيبة بلاستيكية سوداء كبيرة، مع ذراعين قُطِعتا كذلك في الاشتباك. وقد كان المشهد والرائحة المنبعثة في الهواء مقززَين جداً، لدرجة أنَّ بعض الأقرباء المنتظرين قاءوا.
وقالت رونيفيا: "لم أرَ قَط هذا الكمَّ من الوحشية في حياتي!".