إفريقيا، ثاني أكبر قارة في العالم بمساحة تفوق 30 مليون متر مربع، وتعداد سكاني يفوق المليار ومئتي مليون نسمة، مناخ متنوّع، ثروات باطنية ومعدنية هائلة، تركيبة سكانية شابة، أراض خصبة، موقع جغرافي يتوسّط العالم، مهد للحضارات ومستقر الإنسان عبر التاريخ، وغيرها من المعطيات التي تدلّ على الرخاء والتقدّم والازدهار والبيئة المثالية لحياة الإنسان واستقراره، كلّ هذا يحاكيه واقع مغاير تماماً، فكلّ شيء معاكس لهذا التصوّر.
فهذه القطعة من كوكب الأرض هي الأكبر بؤساً وأكثر مَن عانى ولا يزال يعاني من ويلات الحروب والكوارث الإنسانية، فالشعب فقير، الاقتصاد منهك، الصراعات العرقية والقبلية، المجاعة، الأمراض والأوبئة، غياب التنمية، أنظمة حاكمة مستبدّة وغيرها، جعلت من هذه القارة محتشداً كبيراً وساحة للمعارك، نتيجة طمع وجشع الإنسان الذي غلّب المصالح الضيّقة، وقام باستغلال مقدّرات البلدان، وعمل على الاستيلاء على ثروات الشعوب، في سبيل إشباع رغباته واحتياجاته على حساب الإنسانية نفسها.
هل استقلَّت إفريقيا حقاً؟
بعد استعمار إفريقيا لعقود من الزمن، تجاوزت القرنَ في بعضٍ من دولها، من طرف العديد من الدول الأوروبية، على غرار فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها، حيث تقاسمت أرض إفريقيا وحوَّلتها إلى مستعمرات وتوغَّلت بشكل كبير داخل القارة، وطبَّقت مختلف أساليب القمع والاستبداد، واستولت على ثروات وخيرات تلك البلدان، ومارست شتَّى أنواع السيطرة والطغيان على شعوبها، وكان لها سجلّ حافل بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي في تلك المناطق، من بداية القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية على أيدي الحلفاء، وبروز الموجات التحررية وإنشاء عصبة الأمم المتحدة، تعالت أصوات الشعوب المضطهدة مندِّدة بالدول المستولية على أراضيها بغير حقٍّ، فكان لزاماً على الدول المستعمِرة أن تمنح الاستقلال لكثير من البلدان التي تستحوذ عليها، وهو ما حصل، وسرعان ما تحرَّرت هذه الدول الواحدة تلو الأخرى.
الاستقلال منح عن طريق مفاوضات واتفاقيات بين البلدان المستعمِرة ونظيرتها المستعمَرة، حيث تم الوصول في نهاية المطاف إلى اتفاق يقضي بمنح الاستقلال وحق تقرير المصير للشعوب في اتفاقيات مبرمة بين الطرفين، منها ما تم الإعلان عنه ونشره، ومنها ما لم يتم الإفصاح عنه إلى اليوم، والمجزوم به هو أنّ الدول الكبرى سعت إلى الحفاظ على مصالحها في تلك المستعمرات، حتى بعد مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو ما جسَّدته التبعية الاقتصادية والسياسية ومختلف القطاعات الحساسة لتلك الدول، فكل دولة إفريقية كانت بالأمس مستعمرة لا تزال تعاني من ويلات الاستعمار بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة، ومنها من تكاد تكون مقاطعة إدارية أو تابعة بشكل أو بآخر للمستعمِر، وتدين له بالولاء المطلق واللامشروط.
في إفريقيا، نجد الدول الكبرى تُسارع إلى احتواء الأحداث والاضطرابات والاحتجاجات التي تقع في العديد من البلدان نتيجة مطالبة الشعوب بحياة أفضل، وبضرورة التحرّر من التبعيّة ونبذ أشكال الحرمان والتهميش، فتلجأ دول الاستعمار القديم الى حماية مصالحها بشتى الطرق، فمنها من دعّمت الأنظمة الحاكمة وعملت على بقائها، ومنها مَن اختارت دعم الطرف الجديد الذي سيطر على الوضع، وكان أيضاً من بين الخيارات المتاحة التدخل العسكري المباشر في الحروب، مثل ما حدث في الصومال ورواندا والتشاد والكونغو والعديد من الدول الأخرى، وآخِرها في دولتي مالي وليبيا.
التدخلات الأجنبية في إفريقيا هدفها الاستحواذ المباشر على مقدّرات البلدان وخيراتها، واستفادة ضمنية ومدروسة تحت غطاء حماية الشرعية الشعبية ونشر الديمقراطية، والفاتورة يدفعها المدنيّون وتعكسها أرقام وإحصائيات الضحايا والنازحين، والمهاجرين غير الشرعيين في قوارب الموت نحو السواحل الأوروبية، للهروب من مخالب الحرب وبعيداً عن عمليات الإبادة الجماعية والتنكيل التي تطالهم، والذين ذنبهم الوحيد أنّهم وُلدوا في تلك الأرض.
"يحدث في القرن الواحد والعشرين، أينما تولِّ سمعك ونظرك تجد خطابات السلام والأمن تُردّد في المجالس والقاعات وفي شاشات التلفاز".
إفريقيا.. رهينة المصالح وأسيرة الماضي الاستعماري
خطابات التغني بالإنسانية، وتحرير الشعوب، وتطبيق ونشر الديمقراطية وغيرها، كلها شعارات تُخفي وراءها جملةً من الأطماع والمصالح لتلك الدول المتبنية لهذه الممارسات، فالشعب الإفريقي ليس بالأهمية البالغة التي تظهرها تلك الأوصاف، والخطابات الرنّانة في المنابر والهيئات الدولية، بقدر ما تخفيه المحفزات والامتيازات الموجودة في باطن تلك الأرض الغنية بالثروات، فالجميع يسعى وراء نهب الخيرات، واستغلال الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها دول إفريقيا، والتي قد أخذت منها الدول الكبرى ما لم يشبع غليلها خلال الحقبة الاستعمارية هناك، والتي امتدت لأكثر من قرن في كثير منها.
فالدول الأوروبية التي غزت إفريقيا ونهبت ثرواتها تعرف جيداً قيمة هذه الأرض، وما تمثله من دعم اقتصادي واحتياطي صرف، تعتمد عليه بشكل أساسي في عملية التنمية والتطور خاصتها، والمعلوم أيضاً أن هذه الدول وقبل منحها الاستقلال لمستعمراتها سعت إلى ربط تبعية اقتصادية وسياسية معها بهدف التأثير المباشر، واستمرار العلاقات فيما يخدم مصالحها بشكل أو بآخر، وهو ما عكسه التدخل العسكري المباشر في العديد من الدول الإفريقية المستعمرة قديماً؛ من أجل حماية المصالح، ومواصلة استغلال هذه الدول، وتكريس التبعية الاقتصادية والاستفادة من الاتفاقيات المبرمة في العديد من القطاعات، لعلّ أبرزها الطاقة والمجال الأمني والسياسي.
فقارة إفريقيا لا تزال تشهد أزمات إنسانية وحروباً أهلية، وهي نموذج لعدم الاستقرار، ويكاد العيش فيها يكون كابوساً يلازم قاطنيها، فالرؤساء فيها مستبدّون، ومعظم الأنظمة الحاكمة فيها فاقدة لشرعيتها، ولا تحظى بالقبول لدى أغلبية الشعب، بالمقابل نجدها تعمّر في السلطة لعدة عقود، ولا تقرّ بمبدأ التداول على الحكم، بل تسعى إلى تحقيق مصالحها الشخصية دون الالتفات لبقية الشعب، كما أن بقاء هذه الأنظمة مرهون بمدى ولائها للدول الكبرى، أي الاستعمار القديم، الذي يغطي بصفة مباشرة، ويدعم ممارساتها غير القانونية في كثير من الأحيان، ويدعم بقاءها على هرم السلطة، بمقابل السماح بنهب وسرقة ثروات البلاد بمختلف الطرق والتدخل في الشؤون الداخلية، والعديد من القضايا، وانتهاك السيادة، والحريات بشتى الأساليب.
إفريقيا المستعمرة القديمة هي نفسها إفريقيا المستعمرة الحديثة، فالكل يلهث وراء اقتسام ثرواتها ونهب خيراتها، ومن لم يسعفه الحظ في الاستعمار المباشر في القرن التاسع عشر، ها هو الآن يبتكر حيلاً جديدة للاستعمار في القرن الواحد والعشرين، وإن لم تنجح الحيل أو السياسات فالتدخلات العسكرية المباشرة وتنصيب الأنظمة ذات المصالح المشتركة أصبحت متاحة أيضاً، والشعب الإفريقي يبقى ضحيّة كونه في تلك الرقعة من الأرض، فالكل يعارض تحرّره أو تطوّره، فقد كُتب عليه أن يبقى أسيراً في قبضة نظيره في الضفة المقابلة، والذي يريد إيهامه بأنه يسعى لتحقيق أحلامه في العيش الكريم، في كنف الديمقراطية والعدل والمساواة، وهو ما لم ولن يحدث بسبب الإنسان نفسه الذي يتغنى بالإنسانية والديمقراطية.
"عذراً يا إفريقيا.. فموعد تحررك لم يحِن بعد"
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.