نتعلم من الألم، وارتكاب الأخطاء، أضعاف ما نتعلمه من لحظات السعادة.. لكن الثمن الذي يُسدد نظير ما نكتسبه من مثل هذه الخبرات يظل دوماً هو المشكلة؛ فهو ثمن مخصوم من صحتك النفسية، وإحساسك بالأمان تجاه الناس، والحياة بشكل عام.. بمثل هذه التجارب، وبتراكم خبراتها، نخسر براءتنا، وإحساسنا الطفولي بالدهشة تجاه الحياة تدريجياً.
"..واتعلمنا حاجات.. أقلها الحذر.."
في سن العشرين، أي منذ 5 سنوات، أراني شخصاً يكاد لا يشبهني في شيء الآن، إلا بعض القيم الأساسية التي حافظت عليها -بصعوبة غالباً- حتى لحظتنا الآنية.. أعود بذاكرتي لأتأملني؛ فأجدني من فرط البراءة مستفزاً! بالطبع لا يمكن محاكمة ماضيك بما أنتَ عليه من وعيٍ الآن؛ فهذا الوعي له ثمن سدَّدته بالفعل، لكنه الخوف، الخوف من أن أكرر ذات الخطايا مستقبلاً.. لستُ من هواة جلد الذات والبكاء على أطلال ما جرى، لكني أخاف ضعف الذاكرة، أرتعب من قدرة الإنسان المذهلة على تناسي أخطائه، كأن شخصاً آخر قد عاش حياته التي مضت؛ فيعود ليرتكب ذات العثرات بتصميم الجاهل.
لذا؛ هذه نصائح لي، لـ أحمد الذي كُنته منذ 5 سنوات، لو كان يمكنني أن أخاطبه تخيلاً، أكتبها مُحباً لا مؤنباً؛ فما أخطأتُ في حق نفسي متعمداً، ولا قصّرت تجاه روحي إلا جاهلاً بواجباتي تجاه نفسي.. ولنفسي مستقبلاً، مُذكراً ومحذراً؛ حتى لا أُلدَغ، ولا أُكسَر، من ذات الجُحر مرتين.
* لا تبالغ في العطاء حدّ ظلم نفسك
المحبة عطاء مستمر.. حسناً، يبدو الأمر كحقيقة مُسلَّم بها، فليس بمُحبّ من انقطع عطاؤه تجاه مَن يحب، لكن المحبة فعل ذو اتجاهين دوماً، العطاء متبادل، يزيد من جانب أحدهما عن الآخر في حين، ويفيض من الجانب الآخر في وقت آخر، يسند كلاهما بعضاً، مد وجزر لا ينقطع.. لكن هذه النظرية الجميلة تختل عندما يكون العطاء فيّاضاً من اتجاه واحد، والجانب الآخر لا يبذل إلا أقل القليل، كأنه دخل دائرة الحب ليأخذ فقط.. هنا تختل المعادلة، وتتكون علاقة "الظالم والمظلوم".. بالطبع أنت تدرك نهايتها؛ لا داعي لتذكيرك أنك إذا استمريت فيها طويلاً؛ سترحل، أو تُتَرك، وقد أصبحتَ فارغاً من كل شيء.. كلما انتبهتَ مُبكراً، صارت فرصة استغلالك باسم المحبة أقل في احتمالية الحدوث.
الظلم يسلُب منك كل شيء، يستنزف حتى روحك.. صدقني، الأمر يستحق بعض الحذر، والتعقُّل.
أن تحب.. بالعقل!
بمناسبة الحديث عن "التعقُّل"، هل الانغماس في العاطفة حدّ النشوى المجنونة، يؤدي إلى نهايات جيدة؟
يمكنك أن تستهزئ بالأمر، وتفترض أن هذه الفرضية غير قابلة للتطبيق إلا على المراهقين والشباب في بداية تجارب حياتهم، لكنك لو تأملتَ محيطك قليلاً؛ ستجد الكثيرين من الناضجين، ذوي المسؤوليات الضخمة ربما في حياتهم العملية، يقعون في شباك علاقات عاطفية، قائمة على الاستغلال والأذى النفسي -والبدني أحياناً- بدوافع عاطفية خالصة، بلا ذرة تعقُّل، مع أنهم نفس الأشخاص ذوي العقليات الناضجة في جوانب حياتهم الأخرى.. الأزمة تكمن في لحظة "التعطيل" هذه، اللحظة التي ينجذب فيها الإنسان نحو عاطفته، و"الجذب" هنا ليس مجازاً؛ فـ "المجذوب" يُسحَب نحو ما يجذبه مسلوب الإرادة، ينعدم شعوره بالألم مؤقتاً، فقط النشوى تُحرّكه، لكن المجذوب يستفيق في النهاية، قد تأتي هذه النهاية في أي مرحلة، ربما تأتي وهو لا يزال يملك من الطاقة ما يجعله قادراً على الوقوف، أو تأتيه وهو غير قادر حتى على حمل نفسه.
النوايا يُحاسب عليها الله، فقط
النوايا الحسنة لا تقيم بيتاً، ولا تحمي علاقة إنسانية من الانهيار.
النوايا الطيبة لا علاقة لها بالإيذاء؛ فمَن يؤذيك لا مبرر له بأنه لا يقصد أن يفعل هذا تجاهك، أو أن هذا طبعه، أو أنه "منفعل".. توقف عن تبرير الأمر له؛ فللأعذار حدود، حدُّها الأول الذي لا يجوز تجاوزه هو الإيذاء.
تقبّلك لهذا الإيذاء تدريجياً وتبريره للطرف الثاني غالباً سيخلق منه وحشاً لم يكن عليه في البداية؛ فأغلب مُحترفي الإيذاء لم يصبحوا على حالهم هذا إلا لأنهم قابلوا من يرضون الهوان لأنفسهم، ويبررونه لهم؛ باسم المحبة.
نحن بشر، قد نغفر بعض الأخطاء إدراكاً لسلامة نيَّة مَن نعامله، لكن العلاقات المريضة القائمة على الاستغلال، والاستنزاف النفسي، لا يمكن أن تندرج تحت هذا البند.
غالباً، اللحظة التي ستكفّ فيها عن البحث عن مبررات لما تتعرض له من أذى، هي لحظة إفاقتك، هي ذاتها لحظة بداية نجاتك.
لا تكن إلا نفسك
قد تلاحظ في بداية علاقتك العاطفية أن هناك اختلافات بينكما لا يمكنك تجاوزها بشخصيتك الحالية، والاختلافات هنا لا أقصد بها بالطبع تلك الخلافات الموجودة بين أي إنسان وآخر؛ فلو وجد الإنسان نسخة طبق الأصل منه؛ فعلى الأغلب لن يطيق معاشرة نفسه أكثر من أسبوع! بل إن بعض الاختلافات تعطي للعلاقة توطدها مع مرور الوقت؛ فمتعة اكتشاف خبايا وجوانب نفس شريكك جزء أساسي من تجربة الحب الطبيعية.. القصد هنا مُركَّز على تلك الاختلافات الجذرية بينكما التي لا يمكن تجنبها أو الالتفاف حولها، وبالضرورة، تتطلب من أحدكما أن يصير فجأة شخصاً آخر غير نفسه! والكثيرون يدخلون في حالة "المعايشة" الكاذبة هذه؛ فيحاول صاحبنا أن يُلبِس روحه جلداً غير جلده؛ فلا يصير إلا مُهرجاً متلوناً يحاول إرضاء الطرف الآخر، لكن الأصباغ لابد ان تذوب؛ لتظهر ملامح شخصيتك الحقيقية من جديد، وتبدأ الصدامات والمعاناة مرة أخرى.
بتراكم الخبرات، والخيبات، وبثمن لا أريدك أن تدفعه مرتين يا "أحمد"، تدرك أن كل إنسان، مهما وجد في نفسه عيوباً، طالما ابتعد عن خانة إيذاء الآخرين؛ فلابد أن يجد يوماً ما مَن تتناسب موجات روحه معه، دون ادّعاء وتكلُّف لن يدوم أبداً.
اختصاراً، تذكر نصيحة الفنان "أحمد مكي" في إحدى أغنياته الشهيرة:
"متحاولش تبقى أي حد تاني غير نفسك".
الخروج من سَكرة البدايات
يكمن الفخ في أن تظل متعلقاً بسحر البدايات هذا، تحيا في سكرة المجذوب، وتنكر حقيقة أن شريكك لم يعد كما كان بأي شكل؛ فقط أنت تحاول أن تقنع نفسك بأن الأمور لا تزال كما كانت، تسترجع الماضي، تجتره بحزن، تخادع نفسك، وتنكر حقيقة الواقع، تهرب من جفاء حاضرك معه بحنان ماضيكما. تسترجع الذكرى؛ لتهوِّن عليك مرارة الواقع الذي تحياه في صحبته.
حاول أن تُذكِّر نفسك بأن لعبة خداعك لنفسك هذه كلما استمرت، ارتفع الثمن الذي ستدفعه للخروج من كمين أوهامك.. أعلم أنك تراني الآن في ثياب مَن يقف على رمال الشاطئ ويصبّ النصائح فوق رأس الغريق، لكن صدقني، الثمن غالٍ، كُلفة ستسددها من روحك.
ثمنٌ لم أتمنَّ يوماً أن تدفعه يا "أحمد".. ثمنٌ لن أستطيع تحمُّل كُلفته مرة أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.