في زحمة البرامج الحوارية وفقراتها التحليلية، نسمع الكثير من المصطلحات التي بتنا نألفها دون أن نفهمها. فـ "العالم الثالث"، و "حروب الجيل الرابع"، و "الطابور الخامس" و "الأسطول السادس"، مصطلحات تبدو مألوفةً للكثيرين، إلا أن فئةً قليلةً تعرف معناها ومدلولاتها.
فيما يلي نسلّط الضوء على مصطلح "حروب الجيل الرابع"، وعلى أسباب تسميتها، واختلافها عن باقي أنواع الحروب.
يعد المؤلف الأمريكي ويليام ليند أبرز مَن كتبوا في الحرب الحديثة وقسّموها إلى أجيال مختلفة، بغرض توضيح "الوجه المتغير للحروب".
وبحسب ليند مؤلف كتاب 4th Generation Warfare (الجيل الرابع من الحروب)، فإن حروب الجيل الأول تتمثّل في المعارك القديمة التي اعتمدت على القوات البشرية، مثل حرب الاستقلال الأمريكية، وحروب الزعيم الفرنسي نابليون بونابرت.
أما حروب الجيل الثاني، فتميّزت باستخدام تكتيكات عسكرية حديثة، بعد اختراع بندقية المسكيت البدائية والأسلحة خلفية التعبئة، ومن أمثلتها الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية الأمريكية.
وبالنسبة لحروب الجيل الثالث، فتختلف عن سابقاتها بأن الوحدات القتالية لم تعد تسعى لمواجهة بعضها، بل صارت تلجأ إلى الخدع لتحقيق أكبر مكاسب، من خلال تعزيز مستوى سرعة الهجوم، وتكتيكات التخفّي واستخدام عنصر المفاجأة لتجاوز خطوط العدو وتدمير قواته من الخطوط الخلفية.
ومن أمثلة حروب الجيل الثالث؛ الحرب العالمية الثانية، وحرب الخليج الثانية، وحربا أفغانستان والعراق.
أما حروب الجيل الرابع، فتتميز بدورها بعدم المركزية وعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة، والمقاتلين والمدنيين بسبب فقدان الدول القومية تفرّدها بامتلاك القوات المقاتلة، ما يمثّل عودة إلى أنماط الصراع القديمة.
كيف نشأت حروب الجيل الأول؟
في عام 1648، منحت معاهدة "وستفاليا" سيادةً تامةً للولايات الألمانية، لتنتزع استقلالها الفعلي من الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعدما كانت تحظى بالحكم الذاتي. مثّلت تلك النقطة بداية ظهور الدول القومية، التي أعطيت حكوماتها الحق الحصري في تنظيم وحماية الجيوش.
قبل ذلك الوقت، كانت معظم الجيوش خاضعةً لسيطرة الأنظمة الدينية التي كانت قادرةً على حشد الأتباع والمرتزقة. إلا أن تكاليف "حرب الثلاثين عاماً" استنزفت موارد الأنظمة الدينية والعوائل الكبيرة، فاختار الجنود الاندماج بمشروع الدولة القومية.
زيادة دقة وسرعة بنادق المسكيت والأسلحة خلفية التعبئة مثلت نهاية حروب الجيل الأول، فأصبح مفهوم لقاء الجموع وجهاً لوجه في ميدان المعركة غير عملي بسبب الخسائر الفادحة.
هجرت جميع القوى العالمية هذه النوعية من الحروب بحلول النصف الأخير من القرن الـ 19.
من أجل خلق بيئة أكثر تطوراً وتنظيماً، طُوّرت ثقافة عسكرية شاملة؛ ابتداءً بالزي الرسمي الذي يميّز الجنود عن المدنيين، ونظام الرتب العسكرية.
متى بدأت الحاجة لحروب الجيل الثاني؟
منح اختراع بنادق المسكيت في القرن التاسع عشر، الجيوش الحديثة قدرةً أدق على الاستهداف ومعدل إطلاق نار أسرع. وبالتالي، أصبح الاعتماد على القوة البشرية لجنود المشاة صعباً، كونه سيتسبب في سقوط أعدادٍ هائلةٍ من الضحايا لدى مواجهة البنادق.
وبالتالي، قام جنرالات الحرب بتطوير استراتيجيات جديدة حافظت على خطوط المواجهة في المعركة، لكنها ركَّزت أكثر على استخدام التكنولوجيا للسماح لوحدات قتالية أصغر بالمناورة على نحوٍ منفصل عن القوة الأساسية للجيش.
كُلِّفَت الوحدات الأصغر بتنفيذ عمليات خفيفة وسريعة، ما نجم عنه خسائر أقل في الأرواح، وكان لديها القدرة على استخدام تكتيكات التخفي والاختباء لتحقيق التقدّم. ورغم ظهور أجيال جديدة من الحروب في وقتٍ لاحق، فإن بعض المفاهيم التي نشأت في حروب الجيل الثاني ظلّت قيد الاستخدام حتى الآن.
شهدت حروب الجيل الثاني ظهور حرب الخنادق، والعمليات العسكرية المدعومة بالمدفعية، واستخدام مُكثّف للأزياء المموهة، والاتصالات اللاسلكية، ومناورات وحدات الإنقاذ والتدخل السريع.
أظهرت تكتيكات الحرب الخاطفة بعض عيوب استخدام مواقع إطلاق النار الثابتة وسلاح المشاة بطيء الحركة، ما دفع القادة العسكريين للبحث عن حلول.
متى ظهرت حروب الجيل الثالث؟
أثبتت تكتيكات الحرب الخاطفة، التي استُخدمت لأول مرة أثناء الغزو الألماني النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، مدى تفوّق السرعة والمناورة على تكتيكات مواقع المدفعية الثابتة ودفاعات الخنادق. فقد استطاع الألمان اختراق الدفاعات الفرنسية سريعاً والسيطرة على الخطوط الخلفية من خلال استخدام الدبابات، وفرق المشاة الميكانيكية، والدعم الجوي القريب.
لا يزال التركيز على عنصري المناورة والسرعة لتجاوز الاشتباك مع العدو استراتيجية شائعة في جميع أنحاء العالم، ويعتبر تدمير دفاعات العدو عبر ضرب أهداف أعمق استراتيجية رئيسية في حروب الجيل الرابع.
استندت نظرية حروب الجيل الثالث إلى مفهوم اجتياز العيوب التقنية من خلال استخدام استراتيجيات ذكية. ومع انتهاء القتال الخطي، بدأت وسائل وأساليب جديدة للتحرّك على نحوٍ أسرع تظهر.
اختفى سلاح الفرسان نهائياً، وبدأت المركبات المدرّعة بالظهور، وأتاح تطوير المروحيات إمكانية التوغل في الأراضي المعادية عن طريق الجو، وسمحت القذائف الموجهة للقوات بتجاوز دفاعات العدو وضرب أهداف من مسافات بعيدة للغاية.
في حروب الجيل الثالث، سُمح للوحدات الأصغر بقدر أكبر من المرونة في اتّخاذ القرارات للتعامل مع المواقف المتغيرة على أرض الواقع، بدلاً من انتظار مجيء الأمر من القادة الذين كانوا بعيدين عن الجبهة.
بدأ هذا في تحطيم ثقافة النظام المُحكّم بشدة، التي كانت مهمة للغاية في نظريات القيادة والسيطرة العسكرية للعصور السابقة.
أخيراً.. حروب الجيل الرابع
تتسم هذه الحروب بعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة، وبين المقاتلين والمدنيين. استُخدم المصطلح لأول مرة في عام 1989 من جانب فريق من المحللين الأمريكيين، من ضمنهم وليام ليند، لوصف عودة الحرب إلى الشكل اللامركزي.
ويعني مصطلح "حروب الجيل الرابع" خسارة الدول القومية سيطرتها شبه الكاملة على القوات العسكرية، ما يُمثّل عودة إلى أنماط الصراع الشائعة في أزمنة ما قبل العصر الحديث.
أبسط تعريف لحروب الجيل الرابع يتضمن أي حرب يكون أحد أطرافها الرئيسية ليس دولة؛ بل جهة فاعلة عنيفة غير تابعة للدولة.
النسخة الإنكليزية من موسوعة Wikipedia، ذكرت أن حروب الجيل الرابع تتميز عن سابقاتها ببعض أو كل العناصر أدناه:
- مُعقّدة وطويلة الأجل.
- تستخدم الإرهاب.
- لا تستند إلى قاعدة وطنية، فهي متعددة الجنسيات وغير مركزية.
- تشهد هجوماً مباشراً على المبادئ والمثل العليا الأساسية للعدو.
- حرب نفسية متطورة ومعقدة للغاية، لا سيما من خلال التضليل الإعلامي وشن حرب قانونية.
- استخدام جميع الضغوط المتاحة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً.
- عدم وجود تسلسل هرمي.
- تعتمد على عمليات صغيرة الحجم وشبكة ممتدة من الاتصالات والدعم المالي.
- استخدام حركات التمرَّد وتكتيكات حرب العصابات.